د. ولات ح محمد
إذا كانت الإدارة الذاتية قد وجدت نفسها معنية بالدفاع عسكرياً عن عفرين وغيرها بوصفها الطرف الذي أنشأ تلك الإدارة والذي يقوم على تسيير شؤونها مدنياً وعسكرياً من جهة، ولكونها الطرف الكوردي الوحيد الذي يمتلك قوة عسكرية على الأرض من جهة ثانية، فإن الأنظار توجهت إلى الطرف الكوردي الآخر في معادلة المشهد السياسي في روجآفا المتمثل في المجلس الوطني منتظرة منه موقفاً يعادل حجم الاعتداء الهمجي السافر والمتغطرس الذي يشنه أردوغان وجيشه على عفرين مهدداً بالامتداد إلى كل المناطق الكوردية وصولاً إلى الحدود العراقية.
على الرغم من أن المجلس في تجربته ضمن الائتلاف الوطني والهيئة العليا للتفاوض قد مر خلال السنتين الماضيتين بمحطات صعبة حملت له وللكورد الكثير من الإهانة إلا أنه ظل متمسكاً بوجوده ضمن تلك المؤسسة، علماً أنه لم ينجز شيئاً يذكر مما يطمح إليه الكوردي من هكذا مغامرة. وعلى الرغم من أن الائتلاف نفسه وكذلك هيئة التفاوض لم يعد ذا وزن وقيمة في الحسابات السياسية والتسويات المحتملة فإن المجلس ما زال مصراً على بقائه ضمن صفوفه خوفاً ربما من أن يبقى بلا حمص إذا تقرر انعقاد المولد، خصوصاً أنه لم يستطع أن يجد لنفسه مكاناً في الإدارة الذاتية.
الموقف الوحيد من تصرفات هيئة التفاوض وقراراتها كان قبل نحو تسعة شهور حين قرر المجلس تجميد حضوره لاجتماعات الهيئة العليا للمفاوضات (لا ندري كم اجتماعاً قاطع ومتى استأنف حضوره) احتجاجاً على إهمالها لبعض النقاط التي أراد المجلس إدراجها ضمن ما سميت آنذاك” وثيقة لندن”. حينذاك نشرت مقالاً بعنوان (الكورد وجنيف.. والعين الثالثة) طالبت فيه المجلس أن يدافع عن حضوره وتمثيله وحقه وأن يكون ذا شخصية قوية حتى لو تطلب ذلك انسحابه من الهيئة. سأورد في ما يأتي جزءاً من ذلك المقال لأن المشهد ما زال يتكرر حتى الآن متمثلاً في موقف الائتلاف الوطني هذه المرة من العدوان على عفرين، ولأن موقف المجلس ما زال على حاله أيضاً:
“ترى العين الثالثة أنه يتوجب على الوفد الموجود في جنيف أن يقتنع بجملة أمور ويضعها في حسبانه ويتصرف على أساسها إذا أراد أن يكون لحضوره قيمة ولتمثيله معنى. أولها أن المعارضة المتمثلة بالهيئة العليا للتفاوض هي التي تستمد شرعيتها من وجود الكورد في صفوفها وليس العكس، وأن هذا الوجود يمدها بالقوة والمساندة التي يجب ألا تكون مجانية. ثانياً أن أي حل في سوريا لن يكون بأيادي سورية خالصة بل بأيادي أجنبية في المقام الأول. ولذلك لا ينبغي للمجلس أن يخشى من بقائه خارج الحلول إذا ما اعترض أو سجل مواقف قوية ومشرفة من أجل قضية شعبه. ثالثاً لن يتم وضع أي حل لسوريا من دون وجود تمثيل للكورد (والمجلس ضمناً) على طاولة المناقشة والاتفاق سواء أكان موجوداً في صفوف جهة معارضة أم كان خارجها.
إنَّ تمتع المفاوض الكوردي (رابعاً) بشخصية قوية تمتلك الرأي والموقف يعطيه وزناً وقيمة أكثر من كونه ضعيفاً وقابلاً بكل شيء وبأي شيء، وهو كفيل بإيصال صوته إلى الجهات الراعية لأن أحداً لا يمنح الحقوق للساكتين والصامتين (…). وخامساً أنْ ترجع إلى قومك دون أن تحقق شيئاً أفضل من أن تعود إليه بربع ما كان يطمح إليه (…)؛ فالممكن الآن كثير جداً وليس من حق أي طرف كوردي أن يكون شاهد زور أوموقّعاً على اتفاقات ودساتير ستحكم البلاد لعقود طويلة قادمة دون أن تضمن الحقوق الكوردية في أفضل مستوياتها الممكنة، بحجة أن هذا هو الممكن أو أننا غير قادرين على أكثر من ذلك أو أننا لسنا وحدنا هنا أو.. أو … فمثل هذه الحجج لا ترد الحقوق ولا تلّمع صورة أحد في عيون الكورد. وإذا كان ثمن المواقف الصارمة من قبل المجلس هو خروجه من هيئة التفاوض فليكن، فذلك ليس نهاية المطاف وليس نهاية المباراة التي ما زالت بعيدة عن نتيجتها النهائية. وتغيير قواعد اللعبة حسب مقتضى الحال من أهم ما يجب أن يتمتع به أي مدير لأية مباراة ومن أي نوع كان”. انتهى الاقتباس.
ذلك كان بخصوص سلبية موقف المجلس من إساءات هيئة التفاوض له ولوجوده فيه آنذاك. اليوم هناك اعتداء سافر من قبل أردوغان وجيشه على الكورد وقضيتهم، وهناك تأييد بالمطلق من قبل الائتلاف لهذا العدوان من خلال بيان أصدره ومن خلال تأييده لمشاركة مجموعات مما يسمى “الجيش الحر” في ذلك العدوان. كل ما فعله المجلس الكوردي حتى الآن هو رفضه لبيان شريكه الائتلاف، وهو يبدو موقفاً متقدماً عن مواقفه السابقة التي لم يتجاوز فيها حد تسجيل “تحفظه” على المواقف المتخذة أو البيانات الصادرة.
تسجيل التحفظ أو رفض البيان في هكذا حالات لا يليق بمن يدعي تمثيل الكورد وحقهم في المحافل الدولية. الاعتداء التركي على عفرين ليس اعتداء على حزب أو فصيل، بل استهداف لكل طموح كوردي وبأي درجة كانت. ولو كان المجلس هو الذي أقام تلك الإدارة أو كان شريكاً فيها لما اختلف موقف الحكومة التركية عما هو عليه الآن. أكثر من ذلك، إذا كان هذا رد فعل أردوغان على إدارة ذاتية ذات طبيعة مختلطة متشكلة من كل إثنيات المنطقة تحت مسمى “الأمة الديمقراطية” وليس لها أي اسم كوردي أو صبغة كوردية، فكيف سيكون رد فعله على “فيدرالية كوردية” هي المطلب الرئيس للمجلس الوطني وهي الهدف من مشاركته في مؤسسات الائتلاف وهيئة التفاوض؟!.
عفرين استراتيجياً ليست موضوعاً للخلاف السياسي بين حزبين، بل بوابة النصر أو الهزيمة لطموح الكوردي في سوريا، بل في كل جغرافياته. هكذا ينظر إليها أردوغان، وهكذا تنظر إليها معارضته فوقفت معه، وهكذا ينظر إليها الائتلاف السوري فأيدته، وهكذا ينبغي مقاربة المسألة كوردياً أيضاً، لا أن نجعل منها نصراً لحزب وهزيمة لآخر. في النهاية، وبغض النظر عن النصر أو الهزيمة فإن التاريخ يسجل المواقف بكل أنواعها ودرجاتها. ومن كانت له صفة تمثيلية عليه أن يتخذ الموقف الذي يليق به وبقضيته وبسلامة شعبه. العدوان سينتهي عاجلاً أم آجلاً، بهذا الشكل أو ذاك وسيفتح التاريخ صفحاته للقراءة.