مصداقية الباحث العربي.. محمد جمال باروت مثالاً – الجزء الثلاثون

د. محمود عباس
 
  قراءة في كتابه: التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية.  
قضية الهجرة الكردية من الجزيرة.
  وما نعلمه تماما وفي السنوات التي يعرضها الكاتب كأعوام قحط في جنوب غربي كردستان، وأدت إلى الهجرة حسب تحليله (2006-2009) لم تكن سوى أعوام جفاف، تحصل مثلها في الجزيرة كل عدة أعوام، ونقص المواسم وتأثيراتها نسبية مقارنة بغنى المنطقة بالمياه السطحية والجوفية، وبالموارد الأخرى التي أهملت استثمارها من قبل سلطتي البعث والأسد وبتقصد، والتي وبقليل من الدعم الحكومي، والاعتناء بالقطاع الزراعي في الجزيرة، كان بإمكان سكان المنطقة، تجاوز سنوات الجفاف تلك، مثل غيرها من الفترات المناخية القاسية المتناوبة التي مرت عليهم.
  مشاريع عديدة من قبل أبناء المنطقة، كانت قد بدأت تفعيلها، وكانت ستؤدي إلى تنشيط الاقتصاد، وإزالة حالة الركود في المنطقة، وكانت ستمنع الهجرة، وتغطي على سنوات الجفاف، وتؤمن العمل لنسبة عالية من السكان، ولكنها جمدت وبأوامر من السلطات العليا للسلطات المحلية ورؤساء المربعات الأمنية بعد صعود القضية الكردية دولياً، لأنهم أدركوا بانه في حال تنفيذها وتطويرها ستجلب اهتماما دوليا أوسع، وكانت ستؤدي إلى استقرار تام لأبناء المنطقة، ولأصبحت الجزيرة أهم عامل استقرار وازدهار لكل سوريا، وحيث الإمكانيات الاقتصادية الخام الهائلة الموجودة ليس فقط في الجزيرة بل في كل جنوب غربي كردستان، من ديركا حمكو إلى جبال عفرين، مقارنة بمناطق سوريا الأخرى.
   وغايته من هذا العرض التاريخي الملفق وتحت هذه الحجج، والمسوغات الساذجة، التغطية على العامل الرئيس والحقيقي، والطرق غير المباشرة لتهجير أكثر من مليون كردي عن الجزيرة، معظمهم إلى مدن الداخل، ونسبة كبيرة منهم كانوا من الشباب. وقد كان القانون الاستثنائي الجائر رقم (49) الصادر في سنة (2008م والمشدد لقانون رقم 41 الصادر بتاريخ 26/10/2004م، حول اكتساب وإنشاء ونقل الحقوق العينية وتسجيلها واستثمار واستئجار العقارات الحدودية ) قمة الألاعيب التي نفذتها سلطة الأسد بحق الكرد، تجمدت على أثرها جميع المشاريع المدعومة من قبل الرأسمال المحلي، وأفرغت وبشكل مباشر المنطقة من السيولة والاستثمار الكردي، فهاجرت أو تم تهجير الشريحة التقنية واليد العاملة الماهرة المحلية، وللعلم فقد كتب هذا المرسوم المشؤوم بعد الثورة الكردية في آذار عام 2004م، لكنه لم يصدر بل مهد له بالقانون رقم 41، ومن حينها بدأت القيود تتصاعد على الشعب الكردي، وبناء على هذا المرسوم والمشابهة له تم توقيف الحركة العمرانية، من بناء العقارات إلى البنية التحتية، وحوصر التعامل التجاري، وعطلت عمليات البيع والشراء، وتأثيرها طالت العديد من القطاعات، إلى درجة أنها قلصت عمل المحامين، والمستثمرين الزراعيين، وأدت إلى ظهور نسبة بطالة  في المدن الكردية تجاوزت ألـ 60 % من الطبقة العاملة والخدمية، وفاقمت من البطالة في الريف أي الزراعية والتي في الأوقات العادية كانت تتجاوز النسبة المذكورة، وخاصة بين الشريحة الشبابية.
  وبعكس ما يروج له محمد جمال باروت، كانت الخطة مدروسة وبدقة من قبل سلطة البعث، لضرب المكون الكردي ضمن جغرافيته الكردستانية، سياسياً وديمغرافياً، الذي كان ينهض بمنطقته عمرانيا وصناعيا وزراعياً، وعليه تم تضييق الخناق الحكومي على شريحة واسعة من رجال الأعمال الكرد الذين كانوا يستثمرون وبقوة ضمن المنطقة، وفي جميع القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية والعقارية. ومن المعروف أن المنطقة الكردية هي من أغنى المحافظات السورية وأخصبها، وبإمكانها أن تؤمن معيشة أكثر من عشرين مليون إنسان، إذا وجد اهتمام بسيط بها، أو تركت بدون حصار اقتصادي -سياسي وحلت عنها ضغوطات المربعات الأمنية.
  ولمعرفة مستوى غنى المنطقة الكردية سنأتي بقول الكاتب ذاته في الصفحة(837) ” تنكشف في الجزيرة السورية.. “عورات” عملية التنمية…تنتشر فيها أكبر مساحة من الأراضي الزراعية المروية في سوريا فيها، والتي تعادل 55% من أجمالي المساحات المروية،…وتعتبر  الجزيرة على مستوى المحافظة(الحسكة) وحجم سكانها محافظة غنية بالنفط”  وهو بذاته ينتقد أعمال السلطة بشكل غير مباشر فيذكر في الصفحة (839) ” مقابل هذا الغنى بمصادر الثروة الكامنة والمنتجة، تتمثل المفارقة الكبرى في كون الجزيرة الكبرى أحد أكثر الأقاليم حرمانا وفقراً على مستوى الفقريين المادي ( فقر الدخل) والبشري ( المرتبط بخدمات التنمية البشرية من تعليم وصحة …)” وبمتابعة الصفحة هذه وحتى الصفحة (840) سينتبه القارئ إلى أن غنى المنطقة هي أحد العوامل المباشرة وراء خطط السلطة في تهجير الكرد من منطقتهم، بعد العامل القومي، وتطبيع جغرافية كردستان.
  فكانت نتائج التهجير الممنهج كارثية على المنطقة واستنادا على أقوال الكاتب ذاته، عندما يقول في الصفحة (845)” فمن بين نحو 141 ألف أسرة تقطن 2000 قرية في محافظة الحسكة هاجرت 35 ألف أسرة يبلغ عدد أفرادها 210-215 ألف نسمة إلى محافظات أخرى أو إلى الخارج …وراوحت نسبة الهجرة في القرى المنكوبة بين 50-75% من أجمالي سكانها” يعول الكاتب هذه الهجرة إلى عامل القحط والتصحر، ونحن نعولها، كما ذكرناها سابقاً، إلى مؤامرات سلطة البعث والأسد، فسنوات الجفاف لم تكن المرة الأولى التي تجتاح المنطقة، وتأثيراتها لم تؤدي يوماً ما إلى هجرة جماعية.
وللتغطية على هذا المخطط العنصري يورد الكاتب عوامل وهمية، وضعيفة الإسناد لتبرير عمليات التهجير غير المباشر، وهي في الواقع لم تكن هجرة عن قناعة، بل قسرية في عمقها، ولم تقف عند حدود الكرد بل طالت الأقلية المسيحية بعمق وبكل طوائفها، وهذه بأغلبيتها اتجهت نحو الخارج، والأغلبية الكردية نحو الداخل، وكانت السلطة في الطرف الأخر تنتظرهم بوضع قيود صارمة، وخاصة في المدن الكبرى حيث وجهة الهجرة، كمنعهم من التعمير، وعدم ترخيص الإقامات، كما وغلقت أبواب المراكز والشركات الصناعية الحكومية في وجوههم، ودفعت بهم إلى القطاعات الخدمية المتدنية، كالمطاعم وعمال مطابخ، وسخرة البنايات، وغيرها من الأعمال التي لم تكن تسد رمق عائلاتهم، إلى أن شكلوا حلقات على أطراف دمشق وحلب وحمص واللاذقية بحارات عشوائية غارقة في الفقر وخالية كليا من جميع المرافق الخدمية والإنسانية، ورغم أن الكاتب يلم بمعظم هذه القضايا إلا أنه يستمر بالدفاع عن سلطتي البعث والأسد، عارضاً عامل القحط قبل خطط السلطات العروبية، كما يوردها قرابة نهاية الصفحة(850)…
يتبع…
 
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/4/2016

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…

نظام مير محمدي* عادةً ما تواجه الأنظمة الديكتاتورية في مراحلها الأخيرة سلسلةً من الأزمات المعقدة والمتنوعة. هذه الأزمات، الناجمة عن عقود من القمع والفساد المنهجي وسوء الإدارة الاقتصادية والعزلة الدولية، تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها. وكل قرارٍ يتخذ لحل مشكلة ما يؤدي إلى نشوء أزمات جديدة أو يزيد من حدة الأزمات القائمة. وهكذا يغرق النظام في دائرة…