ماجد ع محمد
لا يستطيع قارئ الأدب أن ينكر أن من أهم ما امتاز به الأدب الروسي في زمن عمالقةٍ كـ: ليو تولستوي وتشيخوف دوستويفسكي هو دراسته لسيكولوجية الإنسان وقراءة بواطن البشر من خلال أعمالهم، ومن بين أدباء منطقتنا فقد ترك الشاعر العربي الكبير محمود درويش ديواناً مهماً يتناول فيه طبائع أبناء المجتمع، ألا وهو أثر الفراشة، ففي الديوان الكثير من التركيز على البنية الداخلية لأناس منطقتنا، ومع أن الشاعر ربما كان من خلال نصوصه يرمي مباشرةً إلى الأمراض النفسية لمجتمعه الصغير في الديوان، إلاَّ أن ما جاء فيه شأنه شأن أي أدب رفيع يصلح كالعقار لكل شعوب المنطقة، حيث ورد في سياق ديوان درويش بما معناه أن نكون ودودين مع من يحتقرنا وقساة مع من يحترمنا تلك هي دونية المتعالي وغطرسة الوضيع.
ومن خلال هذه المقدمة وتحديداً من فحوى كلام درويش نحاول أن نقرأ تعاطي رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي وتعامله مع اللغة التي تحدث ويتحدث بها رئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني قبل الاستفتاء وبعده، وخاصةً في ندائه الأخير الصادر منذ يومين، وتأكيده كما السابق على استعداد حكومة الإقليم للحوار السياسي مع بغداد، وبين ما أعلنه وزير الدفاع الإيراني العميد حسين دهقان منذ فترة في كلمةٍ جارحة له أعيد نشرها مؤخراً في عدة مواقع وظهرت في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي على نطاقٍ واسع.
حيث خاطب دهقان في كلمته تلك رؤساء وحكام العرب عامة، والعراق على وجه الخصوص قائلاً: “إن مصيركم لن يكون أفضل من مصير صدام حسين، مذكراً الخليج بالمصير العسير لحكامٍ سابقين، وأن عليهم أن يتذكروا بأن مصيرهم لن يكون أفضل من مصير صدام حسين، لأنه حسب قوله كان غارقاً في الأوهام والأحلام وفي النهاية قضوا عليه وعلى أحلامه ومن ثم قتلوه”، كما أكد دهقان حينها بأن العراق الآن ضمن ولاية الامبراطورية الفارسية مرة اخرى ولن يرجع إلى حضن أو المحيط العربي بأي شكل من الأشكال، مشيراً الى أن العراق لن يكون عربياً، مستانفاً كلامه يجب على العرب الذين يعيشون في العراق أن يعودوا إلى الصحراء التي جاؤوا منها، مشدداً على أن كل الأراضي العراقية من الموصل إلى البصرة هي لهم، تلك إذن هي اللغة التي خاطب ويخاطب بها دهقان على الملأ حكام الخليج والعراق معاً.
بينما في المقابل جدَّد رئيس حكومة إقليم كوردستان نيجيرفان البارزاني يوم الاثنين في مؤتمرٍ صحفي قوله: إن إقليم كوردستان مستعد لبدء الحوار مع الحكومة الاتحادية في بغداد، موضحاً بأن “الخلافات لن تحل بالقوة العسكرية بين أربيل وبغداد”، داعياً العبادي باعتباره رئيسا لوزراء العراق بأكمله، منح إقليم كوردستان حقوقه الدستورية، وأضاف رئيس حكومة الإقليم بأن “ماحدث في 2003 كان درساً للجميع مفاده بأن المشاكل لن تحل بالمزايدة في استعراض القوة، ونأمل بأن يتخلى المسؤولون في بغداد عن هذا المنطق”.
وحيث أننا من خلال متابعة موقف حكومة إقليم كردستان نرى بأنه لم يتغير بخصوص الرغبة في تطبيق الدستور العراقي عما كان عليه موقف الإقليم قبل احتلال كركوك، واستعانة العبادي بالحشد الشعبي الطائفي الذي يتزعمه الإيراني قاسم سليماني، ولا انخفض خطاب الإقليم وتمسك بالدستور بعد اجتياح الحشد الطائفي لكركوك بفضل تآمر دول الجوار على الإقليم من جهة، ومن جهةٍ أخرى تواطؤ بعض القيادات من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، حيث كان بافل طالباني نجل الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، وكل من لاهور وآراس شيخ جنكي نجلي شقيق طالباني وهم من مسؤولي حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني، قد عقدوا اتفاقاً سرياً مع مليشيات الحشد الشعبي والحرس الثوري الايراني قضى بانسحاب قوات كبيرة تابعة لجناح المذكورين داخل الاتحاد الوطني الكوردستاني من خطوط التماس مع مليشيات الحشد والقوات الأمنية العراقية الأخرى في كركوك يوم 16 من الشهر الماضي من دون قتال ما سمح بتقدم القوات المعادية نحو كركوك ومناطق كوردستانية اخرى والاستيلاء عليها بعد انهيار دفاعات البيشمركة، نتيجة تلك الخيانة التي حصلت من قِبل رهط بافل طالباني.
ومع كل ذلك فالإقليم وبالرغم من تعرضه للمؤامرة من ثلاث دول مجاورة، وبعلم دول غربية كبيرة، بقي قوياً بفضل تماسك قوات البيشمركة بعكس جيش العبادي وحكومته التي تستعين وتستقوي بالجيران لمعاقبة أبناء البلد! كما أن المخاطر التي كانت تهدِّد وتحيق بالإقليم بُعيد اجتياح كركوك قد انحسرت تدريجياً، وقيادة الإقليم استعادت دورها من جديد بفضل القوة العسكرية الذاتية، وكذلك من خلال التغيير الملموس في الموقفين التركي والأميركي، وحيال ذلك قد أشارت مواقع مقربة من الحكومة التركية إلى أن أنقرة تحركت مؤخراً لترميم علاقاتها مع أربيل، فيما أكدت واشنطن موقفها بعدم المس بحدود إقليم كوردستان، كما تحركت أنقرة وواشنطن معًا للضغط على بغداد من أجل إطلاق عملية تفاوض واسعة النطاق لإصلاح الدولة العراقية لبناء نمط جديد من العلاقات بين كافة مكونات الشعب العراقي، وذلك للحفاظ ما أمكن على بعض توازن القوة في إقليم كوردستان، وأيضاً لإفشال مساعي إيران لبسط نفوذها والسيطرة على كامل العراق.
وخلال ما ذُكر أعلاه فمع أن رئيس الوزراء العراقي ليس بغافلٍ عما يُقال بخصوص العراق ككل في وسائل الإعلام، إلا أن سيادته لم يصدر أي شيء مشرّف بخصوص تلقيه التصغير والاحتقار الواضحين من قبل وزير الدفاع الإيراني في ذلك الخطاب، ولا حتى عبَّر العبادي عن امتعاضه عما قيل ليس كرد اعتبار لشخصه أو دولته أو ملته، إنما ولو من باب إعطاء إشارةٍ بسيطة توحي بعدم استلطافه لما قيل بحقه وحق دولته؛ بينما مقابل ذلك فكل يوم والثاني نرى مبتلع الإهانة الكبيرة تلك كالمراهق الذي استحوذ لتوه على مسدسٍ أو كلاشن وراح بين فينةٍ وأخرى يهدِّد به إما أهل بيته أو القريبين منه، حيث يلجأ رئيس الحكومة العراقية إلى نفس آلية ذلك الطائش مع حكومة إقليم كردستان وشعبه، وهو ما يأخذنا إلى ديار سيكولوجية المستبد الخانع، ذلك الذي يتلقى وبصدرٍ رحب الإهانة والتوبيخ والاستحقار ممن هم أقوى منه في الخارج، بينما لا يجد ما يُعيد له اعتباره غير ممارسة الاستبداد على أقرب الناس إليه في الداخل، ولا يستأسد غير على أهل بيته الذين في الأصل يعاملونه بكل احترام، وطبعاً على خلاف مَن يلقنونه بكل إتقانٍ وصفاقة دروس الإهانة والازدراء في الجوار!!
وفي الأخير لا يسعنا إلاَّ أن نذكِّر كل سياسي متطرف في تصريحاته، وكل قيادي لا يمتلك فرامل جيدة تكبح شطط ملفوظاته القولَ الشائع “إن أحببت فلا تحب بقوة، وإن كرهت فلا تكره بقوة، اجعل لكَ خط رجعة تحتاجه يوماً ما” وذلك لأن أوان الفيضانات الكبرى ليس بوسع ابن السهل إلاَّ اللجوء إلى الجبل والاعتصام برواسيه.