إبراهيم اليوسف
لا يمكن الحديث عن مآزق الخطاب الثقافي الإعلامي العربي، إلا و ينبغي علينا تناول أزمته الجديدة التي ظهرت على نحو واضح خلال إعلان إقليم كردستان عن إقراره بإجراء الاستفتاء، كحق معترف به، وفق القوانين والدساتير المعمول بها دولياً، والتي تكفل لأي شعب يعيش فوق أرضه التاريخية حق تقريره لمصيره، من دون استثناء شعب دون آ خر. وحين نحاول تحديد بدايات نشأة هذا المأزق فإننا لنجد أنه ناجم عن ثقافة الاستعلاء على الآخر، وبعيداً عن العودة إلى الجذور التاريخية لهذا الوهم، فإنه بدأ مع ظهور الدولة الحديثة التي ضمت خلالها شعوباً عديدة في المنطقة إلى خرائط بعض الدول، من دون الأخذ بآرائها، وقد ازدادت الهوة عندما شرعت هذه الدول المستحدثة، بحدودها الجديدة، بالإجهاز على خصوصية الآخر، في محاولة منها لإمحاء هويته، وصهره في بوتقة القومية الكبرى التي لم يكن هناك في أي يوم من الأيام أي عقد ولو روحي بينها وهذه القوميات والإثنيات الأخرى، التي انضوت معها ضمن إطار آخر، لا قومي، هو إطار الدين، إن كراهيةً، أو طواعية، واعتبر ابن القومية الكبرى نفسه وارثاً للدين، سواء أكان فارسياً، أو تركياً، أو عربياً.
الأنظمة المستبدة التي تحكم القوميات الثلاث، في كل من: إيران- تركيا- العراق-سوريا، بالرغم مما استحدث بينها منذ انفصالها عن دولة الخلافة في مطلع القرن الماضي”1922-1924″ ، وبالرغم مما كان بينها من اختلافات وخلافات، إلا أن أنظمتها المستبدة، هذه، لا تفتأ تشكل جبهة واحدة في مواجهة قضايا الشعوب المنضوية تحت إطار حدودها المصطنعة، ولقد استطاعت أن تتجاوز كل شرخ مستحدث بينها، لاسيما في ما طرأ على علاقاتها البينية، بعيد ربيع المنطقة، إذ راحت تؤلب على الكردي، بعد أن فشلت عبر حوالي مئة سنة من صهره، في بوتقات قومياتها..!
إن أي استقراء لثقافة هذه الأنظمة المستبدة، يعود بنا إلى أنها تكونت في فضاءين، أولهما العمق التاريخي لظاهرة تضخم الذات القومية، وهسترياها، وجموحها، وانفلاتها، في عقول وأذهان أوساط واسعة، نتيجة الجهل، وبؤس الموروث، ولاعلاقة لكل هذا بالاعتداد بالمزايا التاريخية والحضارية لأي طرف، لأن لدى الآخر، ما يعتد به، في المقابل، بل ثمة استلاب لحق هذا الأخير، لاسيما في ما يتعلق بالتراث العام الذي طالما تفاعلت ضمنه كل مكونات هذا العالم، بمفرداته، دون استثناء أحد، وقد كان الكردي أكثر من حاول إلغاء الكثير من ملامحه و خصوصيته، من أجل التماهي في الثقافة العامة، ونسيان ذاته، وكان في ذلك خطؤه المصيري الفادح الذي سيظل يدفع ضريبته طويلاً..!
وثاني هذين الفضاءين غياب الرادع الدولي”وهو ما لحظناه من مواقف مخزية من الأسرة الدولية كاملة” هذا الرادع الذي مارس-على العكس- أعظم جريمة في تاريخ المنطقة، إذ إنه لم يكتف بصناعة، وتزكية الخرائط المزورة، وفق منظومة مصالحه” وإنما راح يرعاها، ويحرسها، ليخون بذلك رسالته، كممثل عن الأسرة الدولية التي لابد لها من أن ترفع الغبن الذي كان سبباً في إلحاقه بمئات الملايين ممن تمَّ ضمهم قسرياً داخل بلدان مستحدثة، من دون العمل على تحقيق أبسط مقومات خصوصيتهم، لاسيما في ما يتعلق بالكرد، إذ طالما وقفت بعض الدول العظمى، في وجه إرادة تحررهم، واستقلالهم، بالرغم من تشدقها بمبدأ”حق الأمم في تحقيق مصيرها” سواء أكان ذلك الاتحاد السوفياتي، السابق، أو وريثه: الروسي، من جهة، أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو بريطانيا، أو ألمانيا، أو فرنسا إلخ، من دون أن ننخدع بتربيتة طرف ما على كتف الكردي هنا أو هناك، ولا بحديث رئيس منتهي الولاية لهذه الدولة أوتلك.
ضمائر في المزاد العلني
بعد تبجح أكثر من نظام، من الأنظمة المقتسمة لكردستان بتطبيق فكة كماشته على الكردي، وحصاره، وتجويعه، أو الإقدام على حماقة الغزو العسكري-بعيد نجاح الاستفتاء بنسبة تزيد عن ال92 بالمئة من مجموع الأصوات – فإننا للأسف، لم نجد رأياً جماعياً لدى الكثيرين من المثقفين “الجيران”الذين يقتضي الواجب الأخلاقي والإنساني والتاريخي والجغرافي شروعهم بالوقوف المبدئي مع الكرد، وذلك من خلال حملات التواقيع، أو رفع وتائر مواجهة من هم وراء هذه التهديدات، والأعمال البربرية، ضد أطفال شعب آمن، يمارس بعضاً من حقه المشروع..!
مغامرة المثقف المتنور
ولئلا نعمم أحكامنا على المثقفين العرب، فإنه لابد من أن نشير إلى أن أسماء كثيرة، وكبيرة، من المثقفين العرب-كما بعض الساسة الذين لاعلاقة لهم بمصادرالقرار- لم يتماهوا مع الخطاب التضليلي، و أبدوا مواقف مشرفة، ليس من حق الكردي في استفتائه، بل وفي استقلاله، وهذه الأسماء، تابعنا الكثير من كتاباتها، عبر وسائل الإعلام المرئية، والمدونة، إلكترونياً وورقياً، إذ كانت هذه الأسماء الموضوعية تتناول القضية من خلال معايير، ووجهات نظر منصفة، وهي موئل احترام، وتشكل- في الحقيقة- معجماً من الأسماء التي لابد من جمع كتاباتها، وآرائها، وتدوينها في”لوحة الشرف” وهي تشكل امتداداً لعمق علاقة الشعوب المتآخية، ضمن الفضاء العام في المنطقة، ولم تتنكر لحق سواها، وإن كان في ما قامت به مغامرة من لدنها، إلا أنها لم تتورع من إعلان كلمة الحق، والموقف.
النخبة العمياء
والتناخي الثقافي الإعلامي القطيعي
لن نشير-هنا- إلا إلى ردود أفعال المثقف والإعلامي في العالم العربي، كتناخ، أو تآخ، تجاه الكردي. هذا الموقف امتداد لأرومة موقف سابق تم من قبل المثقف العصبوي الذي طالما وقف ضد الثورة الكردية في العراق، أو حتى غيره، وإن كان هناك-في المقابل- المثقف الإيراني، أو التركي، لاسيما هؤلاء الذين لايستطيعون الفكاك من عصبياتهم القومية، إذ وجدنا عبر وسائل الإعلام استنفار الكثيرين من الأبواق في هذين البلدين، إذ راحوا يسوقون أطاريح السياسي، الممجوجة، إلى الدرجة التي يمكن التحدث عن- القاسم المشترك الأعظمي- بينها، كلها، على اختلاف هويات هؤلاء، ومن يعد إلى دفاعات هؤلاء، يجد أن جميعها تتحدث عما لاعلاقة له بالجوهر، أو أنه ينطلق من التزوير الثقافي المهيمن. هذا التزوير الذي يتم العمل عليه، منذ استقرار حدود الدول المقتسمة لكردستان.
لقد كان العمود الفقري، في ادعاءات هؤلاء هو: مباركة دولة إسرائيل للاستفتاء، وهو فخ وقع فيه جميعاً، لاسيما عندما نعود إلى إن إسرائيل، ومنذ نشوئها لم تقم بأية خطوة عملية مع مآسي الكرد، في أجزاء كردستان كلها، وهوما راح كثيرون من الكتبة والإعلاميين، يكررونه، كما الببغاوات، من دون أن يسألوا أنفسهم: لم لا ندين حكوماتنا التي كانت سباقة للتواطؤ مع إسرائيل، وإقامة العلاقة معها، أو حماية حدودها.
ولعل من التناقضات الهائلة، أن تجد مثقفاً جزائرياً، يتحدث عن موازاة مشروع ” كردستان” مع مشروع”إسرائيل”، بينما لم يمض بعد أكثر من عشرة أيام، من قدومه من تحت ظلال علم إسرائيل- وهوالمثقف الممانع- الذي وقف ضد ثورات المنطقة، وعلى رأسها الثورة السورية التي نهل حليب ثقافته من”أكاديميتها”، و يصح فيه، وفي أمثاله رد الراحل المام جلال الطالباني على أحد المذيعين عندما حاول أن يعيره بعلاقة مفترضة بين الكرد وإسرائيل، إذ قال له: مدَّ بعنقك قليلاً من النافذة القريبة-في فضائيتك- لترى كيف أن علم إسرائيل يخفق على مقربة منك..!
الخطاب المنافق:
لعم للكرد
ثمة أنموذج من المثقفين، قدم خطاباً تلفيقياً، خلال إبداء موقفه ممن” الاستفتاء” أو”الاستقلال” وكان ذلك من خلال اللجوء إلى خطاب تضليلي، إذ كانوا يبدؤون بمقدمات مطولة عن حقوق الشعوب في تقرير مصائرها، أو البعد التاريخي الجغرافي للكرد في مكانهم، كي يستدركوا بعد ذلك، من خلال التحدث عن مخاطر “مغامرة” استقلال كردستان، من خلال إيراد نواسف ما قبل أداة الاستدراك، وهماً منهم أنهم قادرون على خديعة الكردي من دون الخروج عن إطار منظومة مفاهيمه العنصرية، من دون أن يعلم بأنه لا يتذاكى إلا على نفسه، وهو أولاً وأخيراً أسوأ من ذلك المثقف الذي تتقطر سموم الحقد من خطابه، فهو مشكور، لأنه مكشوف، ولا يشكل خطراً، كما أن الخطاب التلفيقي، المنافق، لايؤثر، البتة، مهما قزم صاحبه نفسه كمجرد مجند، أو بوق ضمن الألوية الإعلامية المرافقة للحشود التي توجهت إلى حدود كردستان، على إيقاعات وعيد وقرار السياسي، في هذا البلد، أو ذاك.
إن المثقف الذي انخرط في صلب الدعوات المعادية لاستقلال كردستان، سواء أكان ذلك بشكل مباشر، أو غير مباشر، فإنه ليتناسى أمراً مهماً، وهو أن له أرضاً مغتصبة مرت عليها عقود، سواء أكانت من قبل هذا البلد أو ذاك، وماعليه، إلا أن يخلص لترابه المسلوب، قبل إفتائه الهزيل في استباحة دم الكردي الذي لما يزل يقدم أوراق وجوده التاريخي. إن مثل هذا المثقف، الذي يؤلب على إبادة الكردي- إلى جانب السياسي- إنه لشريك لهذا السياسي، في”جينوسايده”، وهوما يهيئه لتقديم اسمه إلى -محاكمات التاريخ- و”سجلات العار- كما أي مجرم، قاتل، حقيقي، فلا فرق بين هذه الأصناف المحددة من دعاة الإبادة بحق الكردي طالما يفكرباستقلاله، يستوي هنا: السياسي، والداعشي، وهذا النمط من المثقفين، ما داموا جميعاً يلتقون في”ورشة” واحدة، للإعداد والدعوة لارتكاب محارق ومجازر، ضد الكردي، بل يمكن الذهاب أبعد، وهو إن تهيئة البارود والفتيل لهذه الجرائم، إنما تتم على يدي هذا المثقف البائس نفسه..!
كاتب كردي من سوريا