آمنوا بهم لتنالوا مرادكم أجمعين

ماجد ع  محمد
بما أن الأحداث الدامية في كل مرحلة تاريخية كفيلة بإظهار الكثير مما كان مركوناً، أو كان كامناً كبذرة لم يكن قد حان زمن تفتقها، ومن ثم نموها التدريجي في ظل المناخ الذي أدى لانتعاشها من جديد، أو إتاحة الظروف لبروز ما بقي لمدةٍ طويلة محروماً من الظهور بالإكراه، وبديهي أن تدفع المجريات الدامية في المجتمعات باتجاه تغيير البنى الاجتماعية والسياسية للملل في بقعةٍ جغرافية ما، كما تفعل البراكين عادةً بالتربة أوان تفجرها، ومن هذا المنطلق الذي يستدعي التأمل والمقارنات، فلا حرج علينا إن دفعتنا الفصول الحاسمة من عمر المنطقة بوجهٍ عام والإقليم بوجهٍ خاص إلى استجلاب العِبر من أبعد الناس عنا، وكذلك إدامة التحديق ومعاينة الوقائع القريبة منا، باعتبار أن الأيام الراهنة تفاجئنا بالأخبار والمواقف التي كنا ننتظرها ولكننا لم نكن لنتوقع أن يتسارع الزمن بنا فنحتفي بحضورها الآن،
 وبناءً عليه فإن المقابلة الأخيرة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني مع صحيفة عكاظ السعودية ومن ثم تصريحاته المرئية كانت السبب المباشر في استحضار جُمل بهية للإمام ابن الجوزي حيث يورد ابن الجوزي في بعض مواعظه: ” ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربه”.
ومن خلال المقتطف أعلاه فيبدو جلياً بأن رئيس الإقليم يعي تماماً بأن ما من وقتٍ أفضل من الوقت الحالي للعمل على استكمال شروط الدولة وإعلانها، لذلك هو يحاول بكل ما يملك من الجهد أن لا يضيّع الفرصة كما أضاع القادة الكرد من قبله على مر التاريخ الكثير من الفُرص المماثلة التي كانت كفيلة بتشكيل كياناتهم القومية اسوةً بشعوب المنطقة كالعرب والترك والفرس، كما يحاول الرئيس جاهداً أن لا يهدر الوقت في غير موضوع الاستقلال الذي عَمِلت عليه الحركة التحررية الكردية منذ عقودٍ من الزمان ولا تزال، وحيث آن الأوان لتتويج نضالات السنين بنيل الاستقلال، ولا شك بأن من يقود مركبة الخلاص في هذه الظروف الحرجة هو مدرك جداً لعواقب وتبعات كل الأمور، وذلك تأكيداً لقول الإمام ابن الجوزي  “كل من يتلمح العواقب ولا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل، فالعاقل إذن من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه وعمل بمقتضى ذلك”.
ومن جانبٍ آخر فلعل إدراك القيادة السياسية في الإقليم بأن جحوش الأمس والطابور المؤتمر بأوامر الدول الاقليمية اليوم لا يزالون مستمرون بتثبيط همم المواطنين وتخويفهم بشتى السبل والوسائل، لذا أكد لهم الرئيس بأن “سياسات الدول براغماتية ولا تتعامل مع الشعارات ولن يقول لكم أحد أسسوا دولتكم ونحن معكم ” بمعنى لن يكون أحد في عون العبد إن لم يكن العبد في عون نفسه، ولن يسعى أحدهم لبناء الدار للمرء إن لم يسعى صاحب الحاجة نفسه لوضع دعائم المنزل وشروشه، إذ حين يبادر صاحب المشروع حينها من السهولة جداً أن يرى من يضع يده بيده، مَن يعاونه ويؤازره، وربما يجد حينها مَن بكل محبة يقدم له العون، أما عندما يتكاسل صاحب العلاقة ويتقاعس عما يبتغيه ويكون هو نفسه غير راغب بالبناء، فليس من مصلحة أحد أن يبني لغيره أو عوضاً عنه بيته وهو غافي على سرير المتكلين.
وحسب معرفتي المتواضعة فإن البارزاني إضافة إلى قراءاته السياسية العميقة وإهتمامه بسيَر الشخصيات العالمية ومذكراتهم فهو واقعي فوق العادة، لذا فلا خشية من عواقب القرارات التي يتخذها، باعتبار أنه لم يكن في يومٍ من الأيام من أهل الطيش والمجازفة والتهور، ولا كان من أصحاب الأوهام السياسية والشعارات الخلبية ممن يمسح نهارهم ما قالوه في الليل، إذ عُرف عن البارزاني منذ أن تسنم مواقع القيادة أنه لم يقل شيئاً لم يستطع القيام به أو تحقيقه لاحقاً، لذا كان قوله: “لا تنتظروا احداً أعلنوها وسيعترف بها الجميع” وعطفاً على ما يشير إليه رئيس الاقليم وتأكيده على عدم ثبوتية مواقف الدول على رأي معين وسرعة تغييرها وفق مصالحها، فسبق أن صرّح الدبلوماسي الأمريكي بيتر غالبريت في مقابلة له مع موقع روداو  بقوله “أن معارضة أمريكا لاستقلال كوردستان لا تقارن بأي شكل من الأشكال بمعارضتها لاستقلال سلوفينيا وكرواتيا، وأردف الدبلوماسي الأمريكي حينها قائلاً “حينما استقلت يوغسلافيا كنتُ أول سفير أمريكي في كرواتيا الناشئة حديثاً”، ومع أن أمريكا كانت ضد تقسيم يوغسلافيا، ولكنها بعد 9 أشهر من حدوث ذلك، قبلت الولايات المتحدة بالواقع، واعترفت باستقلال كرواتيا وسلوفينيا وبوسنيا وهيرزوكوفينا.
ويبقى الجدير بالتقدير أن رئيس الإقليم مستعدٌ بأن يتحمل برحابة صدر أي فشلٍ محتمل يعقب إعلان الاستقلال، وهو يعيد إلي أذهاننا شجاعة القادة التاريخيين للكرد، كشيخ سعيد بيران وقاضي محمد اللذان قبلوا مع رفقائهم حكم الإعدام برحابة صدر كرمى إنقاذ الآخرين، لذا يقول البارزاني “ثقوا فإذا أغلقت المعابر ومات الشعب جوعاً فأنا أتحمل المسؤولية كاملةً، مكرراً ما قاله منذ فترة لاجتماعٍ له مع علماء المسلمين، “إن نجح الاستقلال فهو انتصاركم التاريخي، وإن فشل لا سمح الله فهو فشلي وأتحمل المسؤولية ورقبتي امامكم”، إذ بالرغم من كل التهديدات والتخوفات والاعتراضات على المشروع الذي يمضي به الإقليم في إصراره على تحقيق ما تصبو إليه أفئدة العامة وكذلك القيادة السياسية وعلى رأسهم البارزاني، فإن هذه الثقة التي يتكلم بها مَن تبوأ وبجدارة مقام قبطانٍ يقود مركبة الإقليم نحو شطوط الأمان بعزمٍ وثبات يماثل تماماً ما قاله يوماً فينسنت فان غوخ أي “يعرف الصيادون أن البحر خطر والعاصفة شديدة، لكنهم لم يظنوا أبدا أن هذه الأخطار سبب كاف للبقاء على الشاطئ” ويبدو من هذا المنطلق نفسه صرّح مستشار مجلس أمن اقليم كوردستان مسرور بارزاني لوكالة باسنيوز مؤخراً “إذا كان السعي للاستقلال مجازفة فإن الخضوع كارثة”.
ولا مراء أن القراءة السياسية لمواقف الدول والمعرفة بالقوانين الدولية المعمول بها بخصوص التدخل في شؤون الأقطار الأخرى وحمايتها، هي الدافع الأبرز في مسارعته نحو خوض تجربة الاستقلال، إذ أن التجارب الملموسة والحية كالثورة السورية الماثلة للعيان، وقبلها انتفاضة الشعب العراقي، حيث رأى العالم أجمع كيف اتخذ المجتمع الدولي موقف المتفرج، ولم  يحاول المجتمع الدولي التدخل لإنقاذ الشعبين، بينما عندما احتل الجيش العراقي دولة الكويت عام 1990، ولأنها كانت دولة وذات سيادة فقام العالم بأقصى سرعةٍ لحمايتها، إذ أن التجارب السابقة بينت بأن القوانين الدولية تحمي الدول بخلاف الشعوب، حتى ولو كانت تلك الشعوب تملك كل الحق أو كانت تتعرض لأبشع الجرائم من قبل طغاتها، كما حصل  للكرد في العراق أوان عمليات الأنفال وحين قصفهم بالسلاح الكيماوي، وكذلك ما يجري بحق الشعب السوري منذ أكثر من ست سنوات ولتاريخ اليوم، إذ أن معاينة الواقع ومراقبة مواقف الدول وسياساتها هي التي حضت البارزاني ليقول “ثقوا بأن لا دولة في الجوار تجرؤ على إعلان الحرب على كوردستان إذا ما كانت مستقلة” إذ وبسبب غياب الدولة والسيادة جرى للكرد ما جرى على مر التاريخ، وهو عين ما أشار إليه بيتر غالبريت بقوله “إذا لم تعلنوا الاستقلال وبقيتم جزءاً من العراق؛ لن يقوم أحد بحمايتكم، لكن إذا أصبحتم دولة مستقلة فإن المجتمع الدولي سيقوم بحمايتكم”، إذ وفي هذا السياق نفسه كان القيادي الإيزيدي حيدر ششو الذي يقود قوات ايزيدخان المنضوية تحت لواء البيشمركة، قد أكد في الخامس من الشهر الجاري لموقع ك24 قائلاً: “إن المجزرة التي نفذها تنظيم داعش قبل ثلاث سنوات بحق الايزيديين لم تكن لتحدث لو أن كوردستان كانت دولة مستقلة، مشيراً بأنه اذا ما أصبح إقليم كوردستان دولة مستقلة فإن السكان الايزيديين وجميع الذين يعيشيون في اقليم كوردستان سيكونون محميين من الاضطهاد والإبادة الجماعية في المستقبل”.
ختاماً فمن خلال التجارب السابقة للشعوب والدول، وكذلك من خلال الأحداث الماثلة للعيان، ومن هذه الثقة التي يتحدث بها مَن مر بأبشع الظروف السياسية والعسكرية والحياتية طوال عمره، ومن هذا الإصرار المرتسم على جبينه، ومن الأمل الذي يطلع من خلف جبال برزان كشروقٍ ساطعٍ يكاد أن يذهب بأبصار خفافيش الظلام ونُسّاج اليأس في الداخل والخارج، نقول لطلاب الإباء والعزة والفخار، ولأمهات الشهداء وزوجاتهم وأولادهم ولذوي المؤنفلين، ولكل محبي الخير والعدل وإحقاق الحق، آمنوا بما يقوله ويعمل عليه البارزاني وفريقه والبيشمركة البواسل، فلن تندموا قط، بل ونقارب اليقين قائلين بأنكم ستبلغون من خلال نُبل مساعيهم وبكل جدارة مراقي الفلاح، وستنالون بإذن الرب على أيديهم مرادكم أجمعين، فتفوزون عنئذٍ بدولتكم المستقلة ولو كره الكارهون. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…