جان كورد
منذ عقد اتفاقية لوزان في عام 1923 فإن طموحات الأمة الكوردية التي تعيش على أرض وطنها في منطقة الشرق الأوسط، تركيا، إيران، العراق وسوريا، بمساحة تزيد عن مساحة عدة دولٍ أعضاء في منظمة الأمم المتحدة اليوم، وتعداد سكانها أكبر من سكان عدةٍ دول فيها أيضاً، قد وضعت من قبل الدول الاستعمارية، في خانة ” لا أولويات” الاستراتيجية لها، وهذا ما أفسح المجال أمام حكومات البلدان التي تم تقسيم كوردستان من قبل المستعمرين عليها بموجب اتفاقية سايكس – بيكو في عام 1916، أن تمارس حيال الأمة الكوردية كل أشكال الاضطهاد المختلفة، وارتكاب المجازر المتتالية على أثر الثورات الكوردية التي كانت ردود أفعال قوية ودامية على تلك السياسات المخالفة لميثاق الأمم المتحدة ولكل المواثيق والشرائع السماوية والأرضية المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات. ومنذ ذلك الحين اختفت فكرة “منح الأمة الكوردية حقها في كيانٍ مستقلٍ لها” من كل المشاريع والخطط والخرائط التي ارتسمت على طاولات الدول المتشابكة علاقاتها والمتناحرة استراتيجياتها المختلفة بصدد الشرق الأوسط.
لم يكن هذا موقف الدول الاستعمارية فحسب، وإنما موقف الدول التي سمت نفسها بالاشتراكية والشيوعية أيضاً، إذ أن روسيا التي توسّعت لتصبح الاتحاد السوفييتي ولتقود العالم الاشتراكي وحلفها الكبير (وارسو)، لم تقف إلى جانب الأمة المظلومة، وإنما ضحت بكل المبادئ التي كانت تدعو إليها جانباً، من أجل الحفاظ على مصالحها البترولية والسياسية في الدول التي تقتسم كوردستان، بل إنها وقفت بكل إمكاناتها العسكرية إلى جانب نظام الطاغية صدام حسين الذي أعلنها “حرب أنفال” على شعبنا، وسكتت عن خطط المجرم حافظ الأسد، الذي شرع في تنفيذ كل مشاريع العروبي العنصري (محمد طلب هلال) الهادفة إلى صهر شعبتا في بوتقة القومية العربية، كما كانت لها علاقات حميمة مع مصطفى كمال وشاه إيران ضد حركة التحرر الوطتي الكوردية، بل ضد “الرفاق!” الشيوعيين أيضاً.
اليوم، تغيّرت إحداثيات السياسة الدولية في الشرق الأوسط، وشرع البعض من الاستراتيجيين في العالم الحر الديموقراطي وفي روسيا يفكرون فيما إذا كان من الممكن إخراج “ملف كوردستان” من الدرج المظلم المغلق بإحكام، بعد أن خذلت الدول العظمى الأمة الكوردية: السوفييت لدى إعلان جمهورية “كوردستان” في مهاباد عام 1946، والأمريكان لدى اتفاق الشاه الإيراني مع صدام حسين للقضاء على ثورة أيلول المجيدة في عام 1975. وهذا التغيير له أسباب موجبة، منها:
-ظهور تنظيمات إرهابية ذات حاضنة دينية إسلامية واسعة في شتى أنحاء العالم، مثل (القاعدة) و(داعش) وسواهما، وتمددها في الشرق الأوسط بشكلٍ خاصٍ وخطير. وتنامي قواها منذ غزو الجيش الروسي لأفغانستان، وإفساح المجال من قبل الولايات المتحدة للتنظيمات الجهادية، ودعمها مالياً وإعلامياً وعسكرياً ومدّها بالخبرات الأمنية بهدف محاربة الشيوعية وطرد القوات الروسية المحتلة منها، وكان لهجوم تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة في 11 سبتمبر 2001 أثر عظيم في مجمل السياسة الخارجية الأمريكية والموقف مما يحدث في العالم الإسلامي من تفاعلات وتطورات وتشنجات بسبب سيطرة حكوماتٍ مستبدة في معظم بلدانه، وهي مدعومة من قبل العالم الغربي إجمالاً.
– انزلاق حكومات وقيادات الدول التي تقتسم كوردستان اليوم في مزالق سياسية لا تصب في مصالح الدول العظمى، وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن العالم الغربي يجد نفسه حائراً أمام التناقضات العظيمة للوحة الشرق الأوسط، فنظام ملالي إيران قد استغل دعم الأوربيين للوصول إلى الحكم وطرد الشاه من البلاد في عام 1980، للتوجه بإيران، التي كانت منذ الحرب العالمية الأولى من حلفاء الغرب المخلصين، إلى وجهة دينية طائفية متطرفة، من شعاراتها (الموت لأمريكا واسرائيل) وقام الملالي بكل ما أزعج وأقلق العاملين في حقل حقوق الإنسان، بل ارتكب ولا يزال الجرائم الكبرى في هذا المجال، ويدعم التنظيمات المتطرفة والإرهابية، ويقوم أزلامه بعمليات إرهابية في شتى أنحاء العالم، حتى في قلب أوروبا أيضا، ويمتلكون شبكات غسل الأموال ونقل المخدرات، وينشرون الرعب في إيران والقلاقل في العديد من دول الشرق الأوسط التي منها ذات علاقاتٍ سياسية واقتصادية متينة مع الغرب، مثل المملكة العربية السعودية ودول الإمارات المتحدة والكويت والبحرين وإسرائيل.
ومثل إيران الملالي، فإن الدول الأخرى التي تقتسم كوردستان تتجه صوب العداء للدول الغربية، فالعراق ما عدا الجزء الكوردي منه قد صار محكوماً من قبل جنرالات طهران، الذين سلموا قيادة ما يسمى ب”الحشد الشعبي” الرديف للجيش العراقي إلى طائفيين متطرفين، ودفعوهم للتوجه غرباً صوب الحدود السورية، على أمل إحداث ممرٍ آمن للقوات الإيرانية، تعبر من خلاله طهران للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وحدو إسرائيل. وكما العراق صار في قبضة إيران، فإن سوريا التي على أرضها اليوم قوات روسية تمتلك قواعد حربية على ساحل المياه الدافئة لأوّل مرة في تاريخ الروس، وقوات إيرانية مع أتباع ومرتزقة، مثل حزب الله اللبناني، الذي يطالب بعض السياسيين في العالم الحر الديموقراطي وضعه في قائمة “المنظمات الإرهابية”. كما تتواجد على الأرض السورية قوات عسكرية تركية لها هدف واحد، ليس محاربة الإرهابيين، كما تزعم الحكومة التي أرسلتها، وإنما محاربة الكورد الذين أثبتوا أنهم رأس حربة “الحرية والديموقراطية” ضد الإرهاب، في العراق وسوريا معاً. ونظام الأسد فقد السيطرة على بلاده، وأجرى المذابح بحق شعبه، ودك مدنه بالصواريخ وقذائف المدافع والبراميل المتفجرة، وعذّب المواطنين بالآلاف حتى الموت، لم تعد مقاليد الحكم في يديه، وإنما أصبح ألعوبةً بأيدي الروس والفرس، يفرض عليه جنرال إيراني (قاسم سليماني) يدخل سوريا ويخرج متى ما يشاء، أو جنرال روسي، ما لا يستطيع رفضه، ويطلبه إليه بوتين في موسكو فيتم شحنه له بطائرة نقل معدات عسكرية، ولا يتم استقلاله كرئيس دولة ذات سيادة، ولذا ليس ثمة أمل في أن هذا الرئيس الذي شتمه الرئيس الأمريكي شتماً نادراً سيفيد بعد الآن العالم الحر الديموقراطي بشيء، فهو السبب الأساس في نمو الإرهاب في سوريا وتحويلها إلى شبه مستعمرة روسية – إيرانية، وهو المسؤول عن معظم الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ومنها جريمة استخدام السلاح الكيميائي ضد المدنيين، وهو الذي يسير في انجاه تقسيم سوريا لتصبح مرتعاً دائماً لنزاعاتٍ طائفية وسياسية مستمرة قد تخرج عن السيطرة.
أما تركيا التي لا تزال عضواً في حلف النيتو، فقد تم صدها عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، رغم كل محاولاتها الحثيثة، ورغم الضغوط الأمريكية على الاتحاد، بل إن دولة هامة في الحلف (ألمانيا) قد أمرت بسحب قواتها المرابطة في قاعدة إنجيرليك التركية، وقررت منع السياسيين الأتراك ومنهم رئيس الجمهورية السيد أردوغان ذاته عن التكلّم مباشرةً أو عن طريق الإعلام إلى المواطنين الأتراك المقيمين فيها، وتشعر بقية الدول الأوربية بأن الزاوية بينها وبين حليفتها السابقة تركيا في انفراج مستمر، لما تسجله الحكومة التركية من نقاطٍ سلبية في مجال حقوق الإنسان وممارسة الديموقراطية ودعم منظمات مشبوهة، والتوجه صوب نظام الفرد المستبد وإلغاء الحريات السياسية والإعلامية، وإدامة سياسة الحرب ضد الشعب الكوردي، والدعوة جهاراً إلى إقامة حلفٍ إسلامي معادٍ للغرب عامةً، كما أن الروس غير راضين عن سياسات الأتراك في سوريا والعراق والشرق الأوسط وجمهوريات آسيا الوسطى، بل هم مستاؤون من السلوك التركي إجمالاً.
في هذا الوضع الجديد، تبدو الحاجة إلى الأمة الكوردية التي أثبتت أنها أمة محاربة ضد الإرهاب بمختلف صوره وأشكاله، وعملت على حماية الأقليات القومية والدينية، وتسعى من أجل الحرية والسلام والاستقرار والديموقراطية في المنطقة، وشهد لها على ذلك كبار الشخصيات السياسية وجنرالات الجيوش وقادة الأمم، وفي مقدمتهم البابا، والأمين العام السابق للأمم المتحدة ورؤساء أوروبيون وأمريكان وسواهم.
ولكن هذه الأمة التي تمتلك طاقات بشرية واقتصادية هائلة، ضحت وتضحي باستمرار من أجل المبادئ الإنسانية السامية المشتركة بين أبناء وبنات البشر من كل الأديان والأعراق والأجناس والبلدان، ولذا تستحق أن تقود نفسها بنفسها، وأن يكون وطنها ملكاً له بخيراتها ومواردها وطاقاتها، وأن تلتقي كغيرها من الأمم الأخرى فيما بينها من دون حدودٍ تفصل بينها، كما هو حالها منذ عقودٍ طويلة من الزمن. وهنا تظهر فكرة ” دعوا الكورد يبنون منزلهم المشترك في حرية، فنحن بحاجة لها مستقبلاً أمام عواصف المنطقة الشديدة!”، وهذا يعني أن المؤمنين بالحرية والديموقراطية والمبادئ الإنسانية العظيمة هم بحاجةٍ ماسة إلى “كوردستان” قبل الكورد أنفسهم. وعلى هذا الأساس يجب تقييم المرحلة الحاضرة من كفاح أمتنا، وعليه يجب أن تؤسس حركتها التحررية تأسيساً جديداً، ويعني هذا تغيير البرامج والمناهج الحزبية، وتشييد المؤسسات المختلفة، وبناء القوات الكوردية المسلحة المشتركة، والسعي لتأسيس النظام السياسي المتين القادر على مواكبة الحراك الوطني الإيجابي التشاركي الذي لا بد من تطويره وإنجاح خططه، في سبيل تحقيق التناغم بين طموحات الأمة الكوردية والعالم الخارجي الذي تعيش فيه مع سائر الأمم والقوميات والشعوب الأخرى في تعاون وتضامن وتعارف.
نعم، ثمة حاجة عالمية لكوردستان اليوم وغداً.
01 تموز، 2017