مصداقية الباحث العربي محمد جمال باروت مثالاً – الجزء الرابع عشر

د. محمود عباس
مصداقية محتويات الكتاب-4
   ما يورده البلاذري في كتابه (الفتوحات الإسلامية) عن الجزيرة الفراتية، تأكيد على أن تدوين تاريخها في الفترات اللاحقة خضعت لفبركة واسعة وعلى مراحل طويلة، فهو لا يذكر المصطلحات الجغرافية (ديار بكر وربيعة ومضر) مع ذلك انتشرت بين الكتاب العروبيين، بل وتعمقوا في تحريف أسماء المناطق الجغرافية التي لم تبلغها القبائل العربية إلا بعد الغزوات بقرون، وفي الواقع لم تسكنها حتى مراحل متأخرة من الخلافة العباسية كما ذكرناها سابقاً، ولم تكن لهم وجود ديمغرافي إلا بالاسم.
وليس غريبا بأن أثارهم ضاعت من المنطقة حتى في الأدبيات العربية ومن الشعر، منذ منتصف الخلافة العباسية وحتى الوقت الحاضر، وقبل الإسلام كان ذكرهم مجرد أحاديث دون وقائع أو آثار حضرية، ومعظمه كان نقل شفهي عن نقل لا أثبات عليه. وأن أسمائها في كتب التاريخ كان بدون شعب، فلا توجد قبيلة باسم مضر أو ربيعة أو بكر في كل الجزيرة الفراتية، إلى جانب القبائل الحديثة الحضور كالشمر والطي والجبور على سبيل المثال، والسؤال هنا: أين ذابت تلك القبائل وكيف ومتى؟
حتى وبالنسبة للماضي يشوب المكتوب والمذكور غموض وشكوك، ففي كتابه المذكور سابقاً، يقول البلاذري في الصفحة (205) ” …قالو ورتب أبو عبيدة ببالس جماعة من المقاتلة واسكنها قوما من العرب الذين كانوا بالشام فأسلموا بعد قدوم المسلمين الشام وقوماً، لم يكونوا من البعوث نزعوا من البوادي من قيس واسكن قاصرين قوماً ثم رفضوها أو أعقابهم. وبلغ أبو عبيدة الفرات، ثم رجع إلى فلسطين” ويقول في الصفحة (245) “لما ولى معاوية الشام والجزيرة لعثمان بن عفان (رضه) أمره أن ينزل العرب بمواضع نائية عن المدن والقرى، …فأنزل بني تميم الرابية، وانزل المازحين والمدبر أخلاطا من قيس وآسد وغيرهم، … ورتب ربيعة في ديارها على ذلك” وربيعة كما ذكرنا سابقاً، وحسب المصادر التاريخية العربية، كانت تسكن في شمال الجزيرة العربية وحتى جنوب الرحبة (جنوب مدينة الميادين) أي جنوب الفرات الأوسط. 
  أما بالنسبة لحضور بعض القبائل العربية إلى المنطقة وزمن سكنها، فتتوضح في الصفحة(248) كيف أن القبائل العربية استولت على الأراضي التي هجرها أهلها بسبب الغزوات، واسكن الأمراء فيها القبائل العربية فيقول” سألت المشايخ عن أعشار بلد ..، فقال هي أعشار ما أسلمت عليه العرب أو عمرته من الموات الذي ليس في يد أحد أو رفضه النصارى، فمات وغلت عليها الدغل فأقطعه العرب”. ومن مسيرة التاريخ نعلم أن تخلي النصارى، الذين كانوا يعيشون الحضارة بسلام، لأملاكهم وترك أراضيهم جاءت على خلفية غزوات القبائل العربية الإسلامية، حيث النهب والسبي، وعدم الأمان، أي الخوف من القادم البدوي الجاهل وبشائعه. 
وبالعودة ثانية إلى كتاب البلاذري، والصفحة(464) تتوضح أكثر، عدمية وجود العنصر العربي في جغرافية الجزيرة الفراتية، فيقول “حدثني العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده قال: أول من اختط الموصل وأسكنها العرب ومصرها هرثمة بن عرفجة البارقي” وهرثمة هذا هو والي عمر بن الخطاب بعد أن عزل عنها عتبة بن فرقد. ومعروف تاريخيا أن الموصل كانت من أحد معاقل الأكراد التي تم فتحها في عهد عمر بن الخطاب.  ويتمم في الصفحة ذاتها (464) فيقول ” ووجد بالموصل ديارات، فصالحه أهلها على الجزية، ثم فتح المرج وقراه وارض باهذرى، وباعذرى وحبتون والحيانة والمعلة ودامير، وجميع معاقل الأكراد”.  كما ويقول ابن حوقل في كتابه (صورة الأرض) ص(199) “وقد سكن طوائف من العرب من ربيعة ومضر الجزيرة حتى صارت لهم بها ديار ومراع، ولم أر أحداً عزا الجزيرة إلى ديار العرب لأن نزولهم بها وهي ديار لفارس والروم”،  للتوسع أنظر دراسات الباحث (محمد مندلاوي) التاريخية العديدة، من خلال صفحته في موقع الحوار المتمدن، ومن بينها دراسته (الموصل مدينة كردستانية عبر التاريخ)و (حوار ساخن لقضية ساخنة) وغيرهما، وكذلك دراسات الباحث الدكتور مهدي كاكائي، وأبحاث الدكتور أحمد خليل، والمؤرخ علي ميراني، ودراسات المؤرخ مهرداد آزادي باللغة الإنكليزية، وغيرهم. 
 ومن هذه الوثائق المتتالية يمكن رسم الخط الجغرافي بشكل واضح بين الوجود العربي والكرد أو الشعوب الأخرى في المنطقة، ما قبل الإسلام وبعده، والنتيجة هي بأنه لم تكن للقبائل العربية ولا حتى لإمارتيهما الغساسنة والمناذرة التابعتين للإمبراطوريتين، ولا للقبائل التي ظهرت أسمائهم بقدرة قادر في كتب التاريخ العربي اللاحق، ربيعة وبكر ومضر، وجود في الجزيرة الفراتية، ولا حتى جنوب الفرات الأوسط، وجنوب منطقة الرقة، حتى الأطراف الشمالية لبادية تدمر، ولا في أطراف البصرة، التي تعتبر اليوم مركزاً للديمغرافية العربية، والتي يقول فيها المؤرخ الدانماركي آرثر كرنستنسن في كتابه (تاريخ إيران في عهد الساسانيين) الصفحة(97) بأن أسمها لم تكن بصرة، بل كانت “هشتا باد-أردشير ثم أعيدت في أوائل العهد الإسلامي باسم البصرة”، فقد كانت ساسانية، سكنها العرب بعد دخول الجيوش العربية الإسلامية إليها في عام 18 هجرية. وإن كانت لبعض قبائلهم وجود في شمال الأنبار في فصول معينة من السنة، ولغايات البحث عن الكلأ …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/4/2016م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…