بلاد العُربِ أوطاني ..!

عنايت ديكو 
كسائر أطفال قريتنا ….!
أخذني أخي ” أحمد ” من يدي، وذهبنا سوياً الى المدرسة ودخلنا الصفّ الوحيد، بعد أن جَهَّزَت لي الوالدة جلابية ( KIRAS ) رجالية جميلة، فكنا من الجيل الأخير ولربما الوَجبة الأخيرة من بين فتية الكورد في ” كورداغ ” الذين ارتدوا جلابيات الرجال .!
وجلستُ بجانب أحد أقربائنا السِمان في المدرسة، وكان ضخماً في الشكل والعنوان والأفعال والحجم كالثيران، فكان يحتل ثلاثة أرباع المقعد الدراسي وأنا قاعدٌ بجانبهِ على الشبر الأخير المتبقي من المقعد، معتقداً بأن الضخامة هي من ضروريات المدرسة والحياة المدرسية، إلى أن حَصلتُ رويداً رويداً على شبرٍ آخر من المقعد، طبعاً بالتفاوض.
وجاء المُعَلِّم واسترسل في الخطابات والجُمل والكلمات والنطقيات الغريبة والعجيبة والآيات باللغة العربية. كانت أول مرّة في حياتي أسمع فيها حروفاً وكلمات ثقيلة على البنيان واللسان، وما علينا نحن الأطفال، إلا أن نتَعَلَّمَ هذه اللغة وهجاء الضّاد والصّاد واللّام المفخَّمة فيها. ولا زالت تلك الصور التعذيبية المازوخية تتراقص أمام عيني، عندما كان الأستاذ يقوم بضرب الأطفال بممارساتٍ داعشية تَرتجفُ لها الأعماق والكيان والأبدان. 
وبعد يومين من التعذيب الرّوحي والذهني والنفسي من ذهابي إلى المدرسة، قلت لأمّي : لماذا لا يتكلم استاذ قريتنا باللغة الكوردية .؟ والله أنا لا أفهمه … وكل الأطفال في القرية مثلي لا يفهمونه . فأخذتني أمّي وغَنَّت لي أغنية ” DE LORÎ … DE LORÎ ” ونمتُ على أريكة رجليها.!!!
وفي اليوم التالي …. جاءنا المُعَلّم ثانية بعينين يطير منهما الشرر، وبشاربين كثين ، وكأنهُ كان يعرف أن الأطفال لم يدركوا معاني دروسه ومحاضراته، حاملاً بين يديه ورقة فيها نشيدٌ مُجلجلٌ مُقَدَّس، بعد أن وقفنا له باستعداد على الطريقة الصَدّامية طبعاً، وطلب مننا أن نُردّد وراءهُ ونحفظ معهُ نشيد ” بلاد العرب أوطاني “. وكلنا آذان صاغية وننتظر شارة البدء بالنشيد من المايسترو والأستاذ. وبصوتٍ واحد من سبرانو الأطفال، صدحنا جميعاً وعالياً لبلاد العُربِ والعروبة. وبعد أن هبط الليل على أكتف الأرض، وفي الليل وأنا منغمسٌ في الأحلام وفي فك طلاسم بلاد العُرب، وتمتمتي تَعلو الدار شهيقاً وزفيرا . وإذْ بوالدتي المرحومة تَستَيقظني … ما بك يا بني؟ … أتريد شرب الماء… يا بني ..؟؟؟ هل أصابك شيء … هل هناك شيء … لا سمح الله ..؟؟؟  قلت لها لاء يا ماما … فبلاد العُرب أوطاني …. هـخ خ … آ آ هـ… هــ… خ خاخ .. خخخ ….. وغرقتُ في النوم ثانية . وأخذتُ أول درسٍ في الأدب العنصري.
وبعدَ أيامٍ …. وبعد أن أَزْبَرْنا ( حَفظنا ) نشيد المجد، دخل الاستاذ العَرَمْرَم الأسمراني الصَفّ، وحَبَسنا الأنفاس عالياً، وطَلَبَ من ( ح.ب ) الشروع في شرح درس الرياضيات والتي كانت تُسمىٰ وقتذاك بمادّة ” الحساب “. وما أن خَرَجَ الصديق ( ح . ب ) الى المنصة وبلغة كوردية وعربية متداخلة ومشتركة في شرحهِ للرياضيات ؟ حتى انهال المُعَلّم عليه بالضرب، وكالَ له سيلاً من الاتهامات والدونيات، والصمت يسرح ويمرح ويجول بين أضلاعنا مقعداً مقعد، وكل واحدٍ منّا امتطى رأسهُ لكي لا يرى ما شاهَدَهُ الصديق ( ح.ب ) من إعدامات نفسية وبترٍ للطفولة الناعمة. وما زاد من تكاثر الخوف والرعب في نفوسنا، هو وجود هذا الكم الهائل من الأدوات المعرفية والتربوية والتدريبية الساقطة والتي كان يستخدمها ذاك الأستاذ. فكانت لديه مسطرة طويلة وحقيرة ، فبدلاً من أن يستخدمها في بناء المنحنيات ورسم البيانيات مثلاً…   كان يستخدمها للضرب على أطرافِ أصابعنا البريئة وبشكلٍ حادٍ وقوي وكأنهُ في غزوة أُحُدْ ومعارك خيبر ….. فمنذ ذلك الحين كَرهتُ ” ألبرت أينشتاين ” وكرهت الرياضيات والحساب وجداول الضرب، وكرهت يوم القيامة لأنه سيستخدمون فيه الحساب والرياضيات والمساطر والمثلثات.!  
 الطفولة …… أجل .!
الطفولة ستَمضي بكل تأكيد مثل باقي الطفولات في العالم، لكن في بعض متعرّجات الحياة المدرسية عندنا في القرية، كان يَذهب مُعلمنا خلسة وبدون إذنٍ من وزارة التربية الى بلدته البعيدة، ليمضي عروبةَ أيامهِ مع أهلهِ ورَبعه وخلّانه، وضمن هذه الفترة كان يأتيتي ” عڤدو إبن عمتي نازه ” الى آخر البيوتات عندنا في القرية بين الحين والآخر ، وكنا نذهب بين الأشجار والأحراش، ونَمضي سوياً لضربِ ورمي البيت الذي كان يَسكن فيه هذا المُعلّم بالأحجار ، وكنّا نُهديه كل المسبّات الملونة بالكوردية له ونلعن أبو فطاسهُ، بالرغم من معرفتنا، بأن هذا الُمعلّم الشرطي ليس هنا وهو في إجازةٍ عائلية ، لكن العقل الباطن والروح النائمة بدواخلنا كانت ترشدنا الى هذه الممارسات والسلوك النائم والمستتر .  
 في الأخير 
أريد أن أعرف وأسأل، عجباً … ماذا حلَّ بذاك المُعَلّم العَرمرمْ… وهل يعيش على قيد الحياة …؟؟؟  وهل هو في في ” قطر ” أمْ في ” السعودية “… أمْ ينتظر لمّ الشمل الى مهاجر أوروبا .؟؟؟
– إلى قصة أخرى

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…