ماجد ع محمد
من الدُّرر التي تركها لنا الماركسيون جملتهم الشهيرة: “لا لاستغلال الإنسان للإنسان ولا لاستغلال أمة لأمه” إلاّ أن من عادة المستفيد ممن يستغلهم سواء أكانوا جماعات أم أفرادا، هو أن يستسيغ حالة المتنازل له عن حقوقه وأناه كرمى استفادته وطوسنة أناه، ومن الصعب أن يروق لهؤلاء الاستغلاليين قول الماركسيين حتى وإن كانوا من منتسبي الأحزاب الأممية، لأن الاستغلالي لا يتبنى الصفات الإنسانية إلا كأردية مهمتها إحداث الإلتباس لدى الناظر، بينما كيانه قائم على حب الذات والأنانية وتحقيق مصالحه وأهدافه الشخصية على حساب الآخرين، والاستغلالي إنسان تخلى عن مفهوم العدل والإنصاف والحق، وطوّع ضميره من أجل إشباع غاياته وتحقيق مصالحه من دون أية مراعاة لمصالح الآخرين وحقوقهم،
فمادام المرءُ يفيدهم فهو إذن محبب وخدوم وآدمي بنظرهم، ولمجرد أن يطالب بالإنصاف أو يسعى لأن يكون له كما للآخر، انقلب ذلك المستفيدُ من استثمار طيبته وتنازلاته إلى عدوٍ حقيقي له ولكل من يطالب بالحق وينشد الكرامة، وحيال هذا الأمر وعدا عن الأنظمة المتضررة من الاستفتاء فقد عبّر الكثير من أهل السياسة والثقافة في العراق والوطن العربي عن السخائم التي يستبطنونها تجاه الكرد فور تحديد قيادة الإقليم ليوم الاستفتاء.
علماً أن أي نفر منهم في الحالات العادية تراه يتحدث بفمٍ ملآن عن شرائع ومواثيق الأمم المتحدة بطلاقة، ويتبجح ربما بحفظه لمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما إذا ما تعلق الأمر بالكرد فكل تلك المعاهدات والمواثيق الدولية التي تقر بحق الشعوب في تقرير مصيرها تضرب عرض الحائط، إذ يحق لقبيلة في آخر المعمورة أن تكون دولة، ويحق لفخذٍ من العشيرة أن تشكل دويلة، ويحق لمجموعة مافياوية أو بعض قُطاع الطرق إعلان دولة، كما أن قيام أي دولة في العالم لا يهدِّد السلم العالمي، ولا يؤثر على استقرار وتوازن العوالم، أما إذا حصل الكرد على استقلالهم وصار لهم دولة فعندئذٍ تهتز خاصرة الأرض، يبدأ الخسوف العام، ويحدث الشرخ الكوني العظيم، وهي لعمري من أوضع المكاييل المستخدمة لدى الكثير من ساسة ومثقفي الشرق الأوسط.
على كل حال فمع كل التهديد والوعيد من قبل أعداء الحقوق والعدالة من الساسة والمثقفين في المنطقة، فالإقليم ماضٍ في مشروعه، والإقليم شعباً وقيادة قد حزم أمره وقرّر التخلص من نير الاستحكام، ويسعى ككل شعوب العالم العيش حراً أبيا، وهو ما أكده البروفيسور الألماني أودو شتاينباخ، في حوار مع موقع (دويتشه فيله) والذي قال فيه “إن الاستفتاء لا يمكن تأجيله، فقد أُعلن عن إجرائه منذ فترة طويلة وتأجل مرارا وتكرارا لأن الحكومة المركزية في بغداد تُعارض سعي إقليم كردستان في الاستقلال، واعتبر شتاينباخ ان “ضغط المجتمع الكردي على حكومة إقليم كردستان كبير جداً وتأجيل الاستفتاء أصبح أمراً مستحيلا”، كما أكد الأمر نفسه رئيس الإقليم مسعود البارزاني في إحدى تصريحاته لوسائل الإعلام المرئية حيث قال “بأنه لو لم يكن واثقاً من الخطوة التي اتخذوها لما مضوا بها لأنهم من المستحيل أن يجازفون بمصير الإقليم وناسه” هذا بالرغم من عدم ترحيب بعض الدول كألمانيا وتركيا وإيران بخطوة إقليم كردستان العراق.
وبالنسبة للمهددين بالويل والثبور وما ينتظر الكرد من عظائم الأمور من الحصار الاقتصادي البري والجوي، عليهم أن يدركوا بأن الاتفاقيات الإقتصادية التي يوقعها الإقليم مع الدول الكبرى خير ردٍ عليهم، كما أن عليهم أن يتذكروا بأن بغداد كانت قد أقفلت جميع الأبواب بوجه الإقليم وقطعت حصة الاقليم من االموارد المالية، ولم يكن قد صدر الاقليم النفط من ذلك الوقت، ومع ذلك لم يمت الإقليم جوعا، وحيال ذلك الأمر قال رئيس حكومة اقليم كردستان نجيرفان بارزاني: “لقد قطعوا حصة الاقليم من الموازنة منذ شهر شباط 2014، ووضعونا من وقتها بين خيارين إما أن نخضع لهم، أو نفكر في إيجاد حل وطريق آخر، وقد وجدنا الحل فعلاً بتصدير النفط للخارج منذ بداية شهر أيار”، كما أن زيارة وفد حكومة اقليم كوردستان مؤخراً إلى روسيا ومشاركة الوفد الكردستاني في المنتدى الاقتصادي العالمي في مدينة سانت بطرسبورك هي عملياً جزء من خطة الاكتفاء والاعتماد على الذات، وقد وقّعت حكومة الاقليم عقداً مبدئياً مع شركة روس نفت الروسية حول 3 مجالات، من أهمها تطوير الحقول النفطية في الاقليم، والعمل على تطوير البنية التحتية للطاقة في إقليم كوردستان، وحيث يصدر الاقليم حتى الآن حسب رئيس الحكومة مايقارب الـ700 ألف برميل من النفط الخام بشكل يومي، وأهمية هذا العقد يكمن في كونه بداية جديدة لإعادة وتعزيز الثقة بالسوق النفطية في إقليم كوردستان، وأن هذه الاتفاقية تؤكد على رغبة روسيا في الاستثمار في إقليم كوردستان في مجال الطاقة”، وقد بين رئيس وزراء الإقليم أن هذا الاتفاق المبدئي مع شركة روس نفت الروسية ينص على إيصال الصادرات اليومية للنفط الخام في الإقليم لمليون برميل يومياً بحسب الخطة التي وضعتها الحكومة، حيث تعمل الشركة على توفير هذه الأرضية والبنية التحتية لتصدير هذا النفط للأسواق العالمية، وعن النقطة الثالثة والأهم في الاتفاقية قال بارزاني “إننا كنا نبيع النفط الخام للتجار، والاختلاف هنا أن حكومة الاقليم تبيع النفط الخام ولأول مرة لشركة تمتلك الحكومة الروسية 50 % من أسهمها”، ولعل تأمين الموارد الأولية والعمل على تطوير وتكوين اقتصاد قوي مستقل متمم لخطوات الاستقلال السياسي هو ما سيعمل عليه الإقليم في الفترة المقبلة.
وعن تلازم المسارين الاقتصادي والسياسي والاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة للإقليم من خلال الخطوات الحالية والاتجاه الذي يقصده شعب وقيادة إقليم كردستان، يرى بعض فقهاء القانون الدولي أن لحق تقرير المصير مظهرين هما: المظهر الداخلي والمظهر الخارجي، فمن وجهة النظر الداخلية، ويعني حق الشعب في الاختيار بحرية مؤسساته الوطنية، وشكل الحكم الذي يرغب به وهو ما أشار إليه أعلاه البروفيسور الألماني أودو شتاينباخ، أما المظهر الخارجي حسب فقهاء القانون الدولي فيتمثل في حصول الشعوب على استقلالها، وفي تمتعها في حقوق السيادة على إقليمها، وعلى مواردها الطبيعية، وفي تحديد مركزها السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية.
وفي الختام وبعيداً عن التفكير بالرافضين لفكرة حقوق الشعوب نذكّر القارئ بما أورده الكاتب غسان شربل في مقالة له يوم الاثنين عما وصل إليه حال الاثنيات والدول المهددة بالتفكك من وراء طغيان حكامها وسياساتها الخرقاء حيث يقول شربل:”إننا نحصد ما زرعناه، يقصد أنظمة المنطقة وأردف شربل لم تتنبه دول كثيرة إلى أن الخرائط تحتاج إلى صيانة كي لا تتفسخ، وأن العلاقات بين المكونات تحتاج هي الأخرى إلى صيانة مستمرة” ولكن الجدير بالملاحظة أنه بالرغم من التاريخ الدموي الذي يذكّر كرد العراق بحكام بالسلطة المركزية، فلا يزال الاقليم حريصاً على علاقات حسن الجوار، وقد أكد نجيرفان البارزاني ذلك منذ يومين أي فور عودته من روسيا حيث قال: إن الأولوية لدينا تكمن في إيجاد حل ودي مع بغداد وهذا هو موقفنا الثابت منذ عام 2014 ولم يطرأ عليه أي تغيير، وشدد رئيس الوزراء على ضرورة إيجاد نقاط مشتركة لحل أزمة الثقة من الاقليم تجاه بغداد وتابع بارزاني “إن توفرت الأرضية الملائمة لحل هذه المشاكل مع بغداد سنسير في هذا الطريق بهدف التوصل إلى حل يخرج منه الطرفين منتصران، دون أن يفرض أحد شروطه بالقوة على الأخر، وأن وجود أي اتفاق يضمن أن يخرج الطرفان فيه منتصرين هو ما نبتغيه وما سيكون ذو أهمية كبيرة للإقليم ومن مصلحة شعبه”، فحكومة الاقليم إذن مع فض الشراكة الفاشلة بالحسنى والطرق الأخوية والدبلوماسية بعيداً عن لغة الوعيد والتهديد وقرع طبول الحرب، والكرة لا شك هي الآن في ملعب حكومة بغداد، إن كانت فعلاً مهتمة بإشاعة الوئام وترسيخ مبدأ السلام بين مكونات العراق، أم أنها ستكرس من جديد ثقافة العفالقة في اللجوء إلى آلية فرق تسد كما تفعل بعض الأطراف العراقية مع ذوي النفوس الهزيلة في السليمانية، أم تعيد تجربة العنف كما كان عليه طاغية البعث العربي الاشتراكي صدام حسين، وطبعاً مع إستحالة قدرتها على محاكاة تجربة الإبادة الصدامية وفقاً للظروف الذاتية والموضوعية ومجمل المعطيات العسكرية والسياسية الراهنة.