ما يحتاج إليه جنوب غربي كردستان – الجزء الثاني

د. محمود عباس
خرجت الأحزاب الكردية من رحم تلك البيئة، تشكلت في ظاهرها لخدمة القضية، وامتصاص آلام الشعب، لكن في الواقع سخرت السلطات الإقليمية نضالهم منذ البدايات لأجنداتها، عن طريق مربعاتهم الأمنية، أجبروهم لخدمتهم على مدى نصف قرن، والشعب الكردي كان آخر من استفاد من نضالهم، ولربما الشيء الوحيد الذي يحسب لأحزابنا، هو الحفاظ على وجود حركة سياسية كردية، هزيلة منقسمة على بعضها، وكانت هذه بحد ذاتها سلبية مرعبة، أظهرت للعالم ضعف الشعب الكردي الذي تم قياسه على مقاس قدرات أحزابه. 
وعلى مر نصف القرن الماضي، استطاعت السلطات المحتلة لكردستان عن طريق هذه الأحزاب تقزيم النضال الكردي، وتشويه اسمه داخليا وفي المحافل الدولية، وهو ما أدى بالقوى الكبرى إلى إهمال قضيتنا ولغايات، منها تسهيل استخدامنا كأدوات ترهيب دائمة في وجه القوى الإقليمية، فكلما أرادت أن ترضخ سلطة لأجنداتها، كانت تحرك جهات كردية، وتدعم أحزاب سياسية، وكثيرا ما تدخلت في إثارة ثورات، مددتها وقصرتها حساب الحادة، وجميعها خرجت بدون نتيجة إيجابية، فهكذا بقينا نحن الكرد والأحزاب السياسية وعلى مدى القرن الماضي أدوات للقوتين الإقليمية والدولية، وهو ما نحن عليه الأن، ونعاني كالماضي، ومعظمنا ندرك إشكالياتها، لكن لا نزال لا نعلم كيف نأخذ عبرة أو درسا من ماضي أجدادنا، أخطاؤنا هي ذاتها بأساليب تتماشى والحاضر السياسي – الدبلوماسي.
   صراعاتنا، وتحالفاتنا مع الأطراف الإقليمية، لم تختلف عبر جميع المراحل، بدءً من تلك التي تمت فيها تكوين الكيانات المقسمة لكردستان، إلى الصراعات الجارية بيننا والتي تشمل كل الأجزاء الكردستانية، وتتفاقم في جنوب وجنوب غربي كردستان. فكل جهة لا تزال تخدم أجندات قوى إقليمية، أو تفرض عليهم، وأولها محاربة الطرف الكردي الأخر، وبها يتم تناسي صراعنا مع أعداءنا، والكل له حججه، ومسوغاته، ونظرياته في صحة مواقفه، ووطنيته وحبه لكردستانه، ومعظم الشعارات والتلاسن، ومصطلحات التخوين، تمر من خلال قنوات المربعات الأمنية، والإخوة في الأحزاب أو الشريحة الثقافية الملتزمة، يبررونها بأنه تكتيك، أو تعامل مع الظروف، أو سياسية التعامل مع الواقع، وللأسف جميعها تحوم خارج المصالح الكردية، وإن جندت بعضها لخدمة الشعب، فهي للتغطية على أجندات الأنظمة المحتلة لكردستان، والكردية منها لا تبتعد عن ترضية بسيطة، أو لامتصاص القليل من النقمة الداخلية. والغريب أنه من النادر جداً من يقدم البديل أو حلا متكاملا ومدروسا لهذه الأحزاب، إلى جانب النقد الكثير والتهجم، على الأقل في كيفية تحريرهم من الهيمنة الخارجية.
  واقع حركتنا الثقافية الكردية ليست بأفضل من الأحزاب، فتحت حجة عدم السكوت على الحق، منقسمون إلى طرفين متصارعين، والطرفان بذاتهما إلى مثقفي الداخل والخارج، هذا الانقسام الأخير الذي حاولت السلطات عن طريق قوى كردية إثارتها، وجعلها قضية خلافية رئيسة ضمن الحركة الثقافية، في بدايات الثورة السورية، وقد وقفنا سابقاً على هذه الإشكالية مطولاً، ونبهنا بأنه للداخل الحق معالجة القضايا بمقتضى ظروفه، ومتطلبات الواقع المعاش، والمهمة الرئيسة تقع على الحركة في الخارج، وعلى الشريحة المستقلة رأياً، من تنوير الدروب للحركة السياسية، إلى إيجاد سبل التحرر من إملاءات القوى الإقليمية، والتركيز على نقاط التقاطع وحثهم عليها، وللأسف فهي لا تزال عاجزة عن التنوير. 
  اللافت للنظر، أن الطرفين المتنازعين، أو المنحازين، يستخدمون نفس المصطلحات والاتهامات ونوعية التلاسن، ولكل جهة مفرداتها، والغريب أن الشريحتين مقتنعتين أن نهاية الطرف الأخر قريبة، يبنونها على قراءات معظمها خاطئة، إما لقصر النظر والتنظير، أو على خلفية الالتزامات الحزبية أو لعداوات شخصية: بدءً من التحركات الإقليمية والدولية في المنطقة، إلى تقييمهم لعلاقاتهم مع تلك القوى، وتأويلها حسب مزاجيتهم وليست مصالحهم، إلى تضخيمهم لآراء مؤيديهم، وتقييمها وكأنها رؤية كلية الشعب الكردي.
  والطرفين يتناسون حقيقة شبه مطلقة، وهي بأنه لن يكون لأي منهم نهاية، حتى بعد انتهاء الدول الإقليمية والدولية من أجنداتها، لأنهم سيحتفظون بهم أدوات تحت الطلب، وإن حلت الظروف للتخلص من أية جهة ستكون على الأغلب نهاية للطرف الأخر أو في أفضل حالاتها ضعف مذل، كما كانت عليه الأحزاب في ظل المربعات الأمنية. وعليه فمن الضروريات القومية والوطنية بل وحتى الحزبية، البحث عن نقاط التقاطع والاتفاق، والعمل معا تحت بنود معينة، لمواجهة الأخطار وبلوغ الهدف، وخارج هذه المعادلة، فأية خدمة للأحزاب أو تأييدهم أو دعمهم، تكريس لهيمنة القوى الإقليمية، وخدمة غير مباشرة لأجنداتهم.
   عندما ندرس الأنظمة المحتلة لكردستان، وكيفية تحديدها لإمكانيات الحركة الكردية بشكل عام، وأساليب أضعافها دور الشريحة الرائدة منها، كأحد الطرق التي تؤدي إلى هزال عام لدور الأحزاب، ونبحث في طرق تعتيمهم للرؤية السياسية، وأساليب إضعاف الإمكانيات المادية، وحظرهم علينا الخبرة الدبلوماسية، وتقزيم إعلامنا، وكيف تحركت مربعاتهم الأمنية لتفاقم من خلافاتنا، الداخلية وسوية ارتباطاتنا مع الدول الكبرى، وغيرها من المصاعب، ستتوضح لنا، خلفية تعامل الدول الكبرى معنا بهذا الحذر، وحساسية مصطلحاتها المريبة عنا كشعب وحركة، وعدم التقدير للقوة الكردية الخام الهائلة، والتي لانزال لا نعرف كيفية استغلالها، ومحاولة الاستفادة منها، حيث الظروف الدولية الجارية والمناسبة!   
  فمنذ أن تمت اللقاءات الأولى بين قوات الحماية الشعبية وبعض الضباط الأمريكيين، وعلى خلفية أسطورة كوباني، وحتى اليوم لم ترفع وزارة الدفاع ولا الوزارة الخارجية الأمريكية من سوية مصطلحها (المتمردون) عند تسميتها للقوة الكردية التي تحارب داعش، علماً أن معاركها وعلى مدى السنتين الماضيتين، تخدم أجنداتها قبل أن تكون دفاعا عن أرض كردستان، وحتى عندما يذكرون كلمة حلفائنا يلحقونها بالمتمردين فيقولون (حلفائنا المتمردون الكرد) لا شك لهذه دلالات مستقبلية غير مستحبة وضبابية، يمكن تأويلها بأنها نابعة من ضعفنا، أي العامل الذاتي، وترضية مباشرة لتركيا، والأطراف المتحالفة معها، حليفهم الاستراتيجي، وعليه فلا بد للسلطة الذاتية الكردية السياسية، دراسة العلاقات بأوجهه مختلفة، فالجاري لا ترضي مطامحهم أو لن تدفعهم إلى الاعتراف السياسي بها، بدون تغييرات جذرية، تتلاءم وقوة الشعب الكردي، والفكر الأمريكي واستراتيجيتها، ولهذا فهي تحاول دائما تطمين حليفتها تركيا، وستظل إلى أن نخلق قوة كردية متفقة.
  فإذا ظلت الإدارة الذاتية على هذا النهج السياسي، والانفرادية في السلطة، وإذا استمرت القوة العسكرية حاملة الإيديولوجية الحزبية، دون الوطن الكردستاني ومشاركة الأطراف الأخرى من الكرد، أي إذا ظلت ضد تشكيل القوة الكردستانية حتى ولو شكلياً، ولم تحاول التحرر من هيمنة الهلال الشيعي، وخاصة سلطة بشار الأسد، وحيث الظروف الدولية الأكثر من الملائمة، فالمستقبل أكثر قتامة من المتوقع.
  وإذا كانت وزارة الدفاع الأمريكية توصف القوة العسكرية الكردية بـ(المتمردين) فماذا سيكون وصفها للإدارة السياسية الكردية التي لا تتعامل معها حتى اللحظة؟ وحيث الاعتقالات السياسية للمعارضة الكردية جارية كأي سلطة استبدادية في المنطقة، وتصعيد التخوين يثار بين حين وآخر، ضد أطراف كردستانية تتعامل أمريكا معهم بشكل أو آخر. 
  ولا يستبعد أن تصريح وزير الخارجية الأمريكية مؤخراً كان انعكاس لهذا الواقع، عندما ذكر أن الإدارة الأمريكية ستكون أقل اهتماما على التجاوزات التركية لحقوق الإنسان والصحافة، بعد تهنئة ترمب لأردوغان بنجاحه في الاستفتاء، حتى ولو أنها درجت كبادرة لترطيب العلاقات، لكن التصريح تبين بأن ما يجري في تركيا ليست بأقل مما يجري في المنطقة الكردية حيث الإدارة الذاتية، فلماذا ستفضلها على حليفها الاستراتيجي التاريخي!  ولا نستبعد أن صمتها حيال الاعتداءات الأخيرة على المتظاهرين السلميين الكرد أمام السفارة التركية تنجرف ضمن هذا المنحى…
  
يتبع… 
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
2/5/2017م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…