استقلال كردستان مصلحة شرق أوسطية

هوشنك أوسي
الممانعة العربيّة لقيام دولة كرديّة، سواء في العراق أو إيران أو تركيا، كانت وما زالت تعوّل على الممانعة التركيّة. ذلك أنه جرت العادة أن يُظهر أكثر العرب ديموقراطيّةً وليبراليةً واعتدالاً وانفتاحاً…، تململهم وامتعاضهم من الحديث عن حق الكرد كشعب في أن يكون لهم كيان مستقل. وفي حال ضاقت بهم الحجج والقرائن على «ممانعتهم» الخفيّة، تراهم يعلنون موافقتهم بل تأييدهم لقيام الدولة الكرديّة، مرفقين ذلك: بـ «ولكن، تركيا تمانع في قيام هكذا دولة، وليس نحن»، وتعليل ذلك بأن «تشكيل أي كيان كردي في العراق، سيؤدي إلى تهديد الأمن القومي في تركيا واستهداف استقرارها ووحدة أراضيها، ودفع أكرادها إلى الانفصال أيضاً». وعليه، تصبح تركيا المُلامة والمدانة على موقفها الرافض لقيام دولة كرديّة!
هذه الممانعة العربيّة، المعوّلة على الممانعة التركيّة، كانت وما زالت تتجاهل، أثناء طعنها في شرعيّة قيام دولة كرديّة، أن اللاشرعي في الأمر هو أن يبقى شعب يناهز تعداده الـ 40 مليون إنسان، طيلة هذه العقود، من دون دولة، في حين أن شعوباً، بل قبائل، أصغر كثيراً لديها دول معترف بها. وبالتالي، ثمّة وضع لا شرعي تمّت شرعنته طيلة قرن (1916-2017) حيث باتت أيّة محاولة في التكفير بأي شكل من أشكال التعديل والانصاف سلوكاً لا شرعيّاً، لأنه يمسّ بحدود هذه الكيانات الشرق أوسطيّة التي تأسست وتشكّلت في ظروف لا شرعيّة، ومن دون إرادة شعوب المنطقة.
ومع ذلك، فهذه الممانعة التركيّة، هي أيضاً، ثَبُتَ بطلانها، وسقطت روافعها بالتقادم، لأسباب كثيرة، يطول تعدادها، منها:
1 – منذ 1992 ومنطقة كردستان العراق تحظى بحماية دوليّة، وقد أعلنت الفيديرالية من جانب واحد. هذه الفيديرالية توثّقت في الدستور العراقي بعد سقوط نظام صدّام. وعليه، منذ 1992 ولغاية 2017، وإقليم كردستان العراق شبه مستقل، ودولة غير معلن عنها، ولم يتأثّر الأمن القومي لا في تركيا ولا في إيران بأي تهديد وجودي جراء ذلك! ولم يطالب لا أكراد تركيا ولا أكراد إيران بالانفصال. على العكس تماماً، فكرد تركيا، بقيادة حزب «العمال الكردستاني» صاروا يرفضون ويستهجنون ويهاجمون الدولة القوميّة.
2 – تركيا وإيران لديهما علاقات ديبلوماسية وقنصليات في إقليم كردستان العراق. وإذا أعلن الإقليم الاستقلال يوم غد، سيرتفع التمثيل الديبلوماسي لأنقرة وطهران في العاصمة هولير (أربيل) إلى مستوى سفارة. ذلك أن حجم التبادل التجاري بين تركيا والإقليم الكردي وصل إلى ما يزيد على 12 بليون دولار، وهو يتجاوز حجم التبادل التجاري بين أنقرة وبغداد، بل يتجاوز حجم التبادل التجاري بين تركيا ودولة أخرى مستقلة كلبنان مثلاً. ولتركيا ما يزيد على 1300 شركة عاملة في كردستان، وما يزيد على 30 الف مواطن تركي يعملون في هذه الشركات وفي قطاعات اقتصادية وخدمية أخرى داخل كردستان. وعليه، فإقليم كردستان الفيديرالي، وضمن وضعيّته الحالية، كان نعمة على تركيا، وليس نقمة. وسيتضاعف حجم التبادل في حال أعلن الإقليم الاستقلال، فتصبح دولة كردستان شريكاً اقتصادياً استراتيجياً لتركيا في المنطقة.
دول الخليج أيضاً، وفي مقدّمها المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات، لم تعد تنظر إلى قيام دولة كردستان من تلك الزاوية القوميّة الضيّقة، المتأثّرة بالدعاية البعثيّة. بل صارت تنفتح أكثر على إقليم كردستان. وتحتل دولة الإمارات المرتبة الأولى بين الدول العربيّة التي لديها استثمارات في كردستان.
في هذا السياق، وعلى هذه الخطى، ثمة مؤشرات إلى أن مصر أيضاً باتت تتجه نحو القبول بقيام دولة كرديّة في منطقة الشرق الأوسط. وصارت القاهرة تحاول أن تجد لنفسها حضوراً في عاصمة الإقليم. وفي حال إعلان الإقليم دولة مستقلّة فلن تعارضها مصر. وعليه، إذا كانت تركيا ومنطقة الخليج ومصر تتقبّل فكرة قيام دولة كرديّة في المنطقة بوصفها صديقة للعرب والترك، وشريكة استراتيجيّة لدولهم وشعوبهم واقتصاداتهم، فماذا يبقى لدى الممانعين مما يعوّلون على رفضه لهذه الدولة، سوى إيران؟ وهذه الأخيرة أيضاً، ستتراجع، وتحاول كسب ودّ دولة كردستان، واستمالتها، في إطار المكاسرة والمضاربة على دول الخليج ومصر.
ولئن كان أنضج الظروف لقيام الدول أكثرها اكتظاظاً بالاضطراب والقلاقل، بدليل أن أغلب دول العالم ظهرت في هكذا ظروف، فإن قيام الدولة الكردية لا يعتمد فقط على تدهور ظروف الشرق الأوسط الملتهبة، كما يروّج البعض، بل ثمة تجربة كردية عمرها يمتد من 1992 ولغاية 2017، جرّب فيها الكرد السلطة وإدارتها، وتخلّت أحزابهم في كردستان العراق عن ذهنية حركات التحرر الوطني. كما أن 25 سنة من الحكم والإدارة الكرديّة كافية ومؤهّلة لإعلان الدولة، بل تتجاوز فترة خضوع سورية والعراق للانتدابين الفرنسي والبريطاني اللذين تركا لهذين البلدين مؤسسات وقوانين وأنظمة تأسست عليها سورية والعراق.
وتبقى ضرورة انعاش الديموقراطية والتنمية البشرية وتطوير الاقتصاد ومكافحة الفساد في رأس الأولويّات المحلّية والحيوية التي ينبغي ان تتصدّى لها الدولة الكردية القادمة قريباً. وعليه، فالاستفتاء على استقلال الإقليم الكردي، والتحوّل من الفيديراليّة إلى الدولة المستقلّة، المزمع في أيلول (سبتمبر) المقبل، ستكون نتائجه تحصيلا ًحاصلاً. وغالب الظنّ أن إعلان الاستقلال لن يكون في شكل اوتوماتيكي فور إعلان نتائج الاستفتاء. لكن ما هو مفروغ منه أنه يمكن اعتبار الفترة الفاصلة بين 1992 و2017 بمثابة التمرين على إدارة الدولة.
لقد انتهت مرحلة المزاح، وستبدأ مرحلة الجد وتحدّيات إعلان دولة كردستان وشكل إدارتها. ذلك أن مصالح دول المنطقة وشعوبها باتت متوافقة مع قيام هذه الدولة. وصار قيامها منفعة ومصلحة شرق أوسطيّة أكثر منه منفعة ومصلحة كرديّة وحقاً كردياً أصيلاً وشرعياً. أمّا حملات التهويل من قيام كردستان على انها «إسرائيل الثانية»، وكل هذا النحيب والعويل الاستباقي على الأمن القومي العربي ووحدة الأمة العربية… الخ، فحجج وخرافات بان بطلانها، وسقطت بالتقادم.
* كاتب كردي
صحيفة الحياة

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…