د. ولات ح محمد
قامت القوات التركية فجر الثلاثاء الماضي بقصف متزامن لكل من قوات حزب العمال الكردستاني pkk في منطقة شنكال العراقية ووحدات حماية الشعب ypg في كرتشوك بشمال شرق سوريا. وإذا كان مثل هذا الهجوم يبدو طبيعياً ومتوقعاً كما صرح الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd السيد صالح مسلم، فإنه من غير الطبيعي أن تقوم الطائرات التركية ذاتها وفي الوقت ذاته بقصف موقع لقوات بيشمركة إقليم كوردستان، نظراً للعلاقة الطيبة السائدة بين حكومتي الإقليم وتركيا خلال السنوات الماضية.
في اتصال هاتفي ليلة اليوم ذاته وفي ما يشبه اعتذاراً غير مباشر عبّر كل من رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدريم لرئيس الإقليم مسعود بارزاني عن أسفهما على سقوط شهداء وجرحى من البيشمركة جراء ذلك القصف الذي تم “بالخطأ” حسب تعبيرهما. وأضاف بيان صادر عن رئاسة الإقليم أنه ” قدم كل من رئيس جمهورية تركيا ورئيس الوزراء تعازيهما الحارة للرئيس بارزاني ولذوي الشهداء وقوات البيشمركة، وتمنيا الشفاء العاجل للجرحى، وأكدا بأن هذه الحادثة لم تكن متعمّدة وكانت نتيجة لخطأ في إحداثيات الطائرات التابعة للجيش التركي”. هذا في العرف الدبلوماسي كاف لإزالة الشبهة وتطييب النفوس في مثل هذه الحالات عادة، خصوصاً أن أردوغان كان قد صرح في مقابلة صحفية بأن قوات البيشمركة لم تكن مطلقاً من ضمن أهداف الهجوم. ولكن هل كان الهجوم التركي على البيشمركة فعلاً نتيجة خطأ في تحديد الهدف كما يحصل عادة في المعارك أم كان من رائه غايات ومقاصد ؟.
عند إعلان الأتراك انتهاء عملية (درع الفرات) في شمال سوريا بصورة مفاجئة قبل نحو شهر صرح عدد من مسؤوليهم الحكوميين بأنها لن تكون العملية الأخيرة وأن ثمة عمليات قادمة تحت مسميات جديدة بعد انتهاء الحكومة من إجراء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في 16 نيسان. في هذا السياق يأتي هجوم الثلاثاء بوصفه تنفيذاً لتلك التهديدات الاستباقية ضد حزب العمال الكوردستاني ووحدات حماية الشعب. ومن هنا ينتفي احتمال حدوث خطأ في تنفيذ العملية، إذ لا يمكن التصديق بأن الطائرات التركية التي خططت منذ أسابيع للهجوم على أهداف محددة بعينها وفي بقعة جغرافية محددة أن تخطئ تلك الأهداف وتقصف موقعاً آخر. هذا قد يحصل في الحروب المحتدمة ذات الأهداف المتعددة والمتداخلة، وليس في عملية بسيطة مخطط لها ومدروسة بتمهل وينفذها جيش ليس في حالة حرب. ومن هنا يتقدم السؤال الآتي: لماذا يقصف الجيش التركي موقعاً لبيشمركة إقليم كوردستان؟.
التقارب الأخير بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردساتني واتفاقهما المفاجئ على إجراء الاستفتاء على استقلال إقليم كوردستان ورفع العلم الكوردي فوق المباني الرسمية في كركوك وغير ذلك من الأمور أثارت حفيظة كل من طهران وأنقرة. ردة فعل طهران تمثلت في إرسال مبعوثها قاسم سليماني قائد فيلق القدس إلى السليمانية للاستماع من حلفائهم في الاتحاد الوطني وكوران إلى ما يطمئنهم ويبدد مخاوفهم. أما أنقرة فإن حركتها مقيدة إلى حد ما بهذا الخصوص؛ فأي تصرف من هذا النوع باتجاه الحزب الديمقراطي الكوردستاني سيفسره الأخير على أنه نوع من الازدواجية والنفاق في الموقف التركي من الإقليم وحكومته خصوصاً ومن الكورد عموماً، علماً أن الأتراك أطلقوا تصريحات قاسية بحق حكومة الإقليم اعتراضاً على رفع العلم الكوردي في كركوك. من جهة ثانية يدرك أردوغان أنه غير مسموح له بالاقتراب عسكرياً من البيشمركة وحكومة الإقليم المحمية أمريكياً منذ ربع قرن والمدعومة من معظم دول العالم في السنوات الأخيرة. ولذلك وجد في هجومه على قواعد حزب العمال الكوردستاني في شنكال فرصة للقيام باستهداف ” خاطئ ” لموقع يعود لبيشمركة الإقليم بغية تحقيق مجموعة من الأهداف لم يكن قادراً على تحقيقها دون ارتكاب هذا ” الخطأ “.
الغاية الأولى من اقتراف هذا الخطأ هي تحذير حكومة الإقليم من المضي في عملية الاستفتاء على الاستقلال المزمع إجراؤها خلال هذا العام. ومن هذه الناحية يعد قصف البيشمركة نوعاً من (فش غل) التركي الذي كان وما زال عاجزاً عن وقف مسيرة الإقليم في كل المحطات التي مر بها، وكأن لسان حال أنقرة يقول في هذا الجانب: صحيح أن العلاقات الاقتصادية جيدة بننا وأننا نتعامل مع الإقليم ومؤسساته ومسؤوليه بصفة رسمية لأننا بحاجة إلى ذلك ولأنها خارجة عن إرادتنا، ولكن ليس لدرجة أن نرى بجوارنا دولة كوردية تدغدغ مشاعر عشرين مليون كوردي داخل حدودنا دون أن نحرك ساكناً. فمن المعروف أن العلاقات المتميزة بين تركيا والإقليم هي من جهة تأتي من باب قبولها بالأمر الواقع الذي لا تستطيع تغييره (مكره جارك لا صديق)، ومن جهة ثانية هي ضرورة تركية لفتح نافذة أمام الإقليم لكي لا يتحول إلى ساحة نفوذ إيرانية كحال بقية العراق، الأمر الذي سيضعف من قدرة تركيا على المناورة مع طهران، إضافة إلى حاجة الإقليم ذاته إلى هذا المتنفس. وهذا ما لم يحاول بعض الكورد تفهمه وتقبل ضرورته.
أما الغاية الثانية من قصف البيشمركة فهي إبلاغ أربيل بأن عليها أن تخرج قوات العمال الكوردستاني من شنكال (وهي من المناطق المتنازع عليها مع بغداد وليست تابعة إدارياً إلى إقليم كورستان حتى الآن) وأنها إن لم تفعل فإن ضربات (الخطأ) سوف تتكرر في المستقبل. وهذه الرسالة من شأنها (حسب التوقعات التركية) أن تدفع حكومة الإقليم إلى ممارسة الضغط على قوات pkk لإخراجها من شنكال، ما يمكن أن يؤدي بدوره (إن فعلت أربيل) إلى نشوء نزاع مسلح بين البيشمركة وقوات حزب العمال الكوردستاني ترغب به كل من تركيا وإيران في هذه الآونة لزعزعة استقرار الإقليم.
وأما الغاية الثالثة من وراء هذه العملية – وهي مرتبطة بسابقتها – فتتمثل في إثارة فتنة بين pkk وحكومة الإقليم لأن مثل هذه الضربة المزدوجة للقوتين الكورديتين المختلفتين أساساً من شأنها أن تدفع الطرفين إلى تبادل الاتهامات حول المتسبب بذلك الهجوم؛ فالعمال الكوردستاني سيتهم حكومة الإقليم بالتعاون والتنسيق مع تركيا والسماح لها بدخول أراضيه وضرب قوات الحزب، أما حكومة الإقليم فستتهم الحزب بتوفير الأرضية وتقديم الحجج لأنقرة لدخول أراضيه وقصف قراه وزعزعة أمنه الداخلي بذريعة وجود قوات العمال الكوردستاني وبأنها لو لم تكن موجودة هناك لما تعرضت تلك القرى وقوات البيشمركة للقصف التركي. هذا ما تتوقع أنقرة حدوثه من سجال وتبادل اتهامات بين الطرفين الكورديين. وإن حدث فإن مواجهة مسلحة ما قد تقوم بينهما، وهو ما من شأنه إحداث توتر كبير في الإقليم لأن بعض الأطراف الكوردية المختلفة مع حكومة الإقليم ستقف مع pkk وبعضها ستقف على الحياد وبعضها ستقف مع حكومة الإقليم. وكل هذا من شأنه نسف تجربة الإقليم من أساسها وضرب التقارب الحاصل بين القوى الكوردية المختلفة وإفشال مشروع الاستفتاء على الاستقلال. إن حدث هذا تكون تركيا قد حققت هدفها بضرب الكورد بعضهم ببعض، وقامت بزعزعة الاستقرار في الإقليم من جديد وإعاقة عملية الاستفتاء وإضعاف قوات البيشمركة والعمال الكوردستاني في آن معاً وإشغال بعضهما ببعض دون أن يكلفها ذلك شيئاً سوى بضعة صواريخ جو- أرض. وهذا ما لا يمكن تحقيقه بضرب قوات pkk وحدها لأن ردة الفعل ستكون فردية ومختلفة حينذاك.
ما تم خلال اليومين الماضيين هو العكس تماماً؛ فالقيادة في الطرفين الكورديين التزمت الهدوء عندما رأى كل طرف أن الآخر أيضاً قد تضرر من القصف التركي. وبذلك لم يعد مقبولاً ومنطقياً أن يتهم طرف طرفاً تعرضت قواته للضرب. فلو لم يتم قصف موقع البيشمركة ولم يسقط منهم شهداء لوجهت وسائل إعلام pkk اتهاماتها لحكومة الإقليم بالخيانة والتآمر مع الحكومة التركية على محاربة قوات الحزب في شنكال. إذاً لم يكن قصف موقع البيشمركة بـ”الخطأ” حسب قناعتي، بل كان مخططاً له ومأمولاً منه أن يحدث مواجهة مسلحة أو على الأقل تبادلاً إعلامياً للاتهامات بين حكومة الإقليم وحزب العمال الكوردستان، الأمر الذي كان سيحدث شقاً في الصف الكوردي في الإقليم من جديد بين (مع) و(ضد)، وهو ما من شأنه أن يضرب كل مشروع كوردي يحلم به الكورد من استفتاء واستقلال وتنمية وغير ذلك إلى الأبد. ولكن لحسن الحظ ولحسن التصرف الكوردي لم تسفر الضربة التركية لقوات البيشمركة حتى الآن عن النتائج التي خطط لها الأتراك.
لكل ما سبق يتوجب على الأطراف الكوردية من كل الاتجاهات أن تسمع وتعي جيداً نواقيس الخطر التي تدق على عملها وعلى وجودها إن ظلت تربط مصائرها بأجندات الدول القريبة والبعيدة وبقيت مصرة على أن تضع بيضها دائماً في سلة إحدى تلك الدول؛ فما أسهل ضرب تلك السلة بالأرض حتى ينكسر البيض كله، فلا ينفع حينئذ أكله ولا يمكن إصلاحه. كما يتوجب عليها نبذ حملات التشهير والتشويه والتخوين بعضها بحق بعض وكأن قضية أحدهم تحت وسادة الآخر ناسين أو متناسين أن خصمهم واحد، وأنه إذا تعدد واختلف توحد في وجوههم.
إذا لم يكن لدى الكورد القوة العسكرية الكافية (وهذا ليس بأيديهم) التي تمكنهم من الرد على الاعتداءات التركية وغير التركية المتوقع حدوثها في المستقبل فإن بإمكانهم أن يمتلكوا من الحكمة ما يكفي لسحب الذرائع التي تفتح الطريق أمام الأتراك وغيرهم لقتل الكورد وإفشال مشاريعهم الكوردستانية، وكذلك بإمكانهم أن يمتلكوا ما يكفي من التعقل (وهذا بأيديهم) لكي لا يكونوا وقوداً وأدوات للصراع التركي الإيراني في المنطقة، أو بتعبير أكثر تحديداً للصراع السني الشيعي، وهو نوع الصراع القادم الذي لا ناقة للكورد فيه ولا جمل، ولا حمامة ولا حجل…
” هي (…) صرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح فقد تذهب غداً بالأوتاد ..”
عبد الرحمن الكواكبي (طبائع الاستبداد)