زاغروس آمدي
إرهاب المُستعمَر في مواجهة إرهاب المستعمِر
قبل كل شيء أريد أن أؤكد بأن أي نضال مسلح للكرد ضد مستعمريهم الباتيزميين (1) لا يمكن أن يحقق أهدافه لأسباب معروفة، كالتفاوت الهائل في عناصر القوة بين الطرفين من حيث العدد والعتاد في المؤسسة العسكرية والتنظيم والاقتصاد والاعلام والعلاقات الدولية. هذا إذا غضينا الطرف عن العوامل والأسس المجتمعية والقيمية والأخلاقية والدينية والمذهبية والتفاوت في مستويات الوعي العام والإنسجام الإجتماعي والوحدة الثقافية واللغوية والتماسك القومي والتعليم ونسب الأمية بين الشعب الكردي من ناحية، والشعوب التركية والفارسية والعربية من ناحية أخرى.
ورغم إنحياز الظروف الظروف الجيوسياسية والعلاقات والتحالفات الدولية في النظام الدولي الراهن لصالح الكرد، فليس ثمة ملامح دولية صريحة داعمة لإستقلال اقليم كردستان العراق، رغم تصدي الاقليم ومكافحته لقوى الظلام الداعشية (الدولة الإسلامية). وأعتقد أن سبب عدم تحمس القوى الدولية لدعم استقلال الاقليم الكردي عن العراق هو عدم قدرة أحزاب الاقليم على إظهار قدرتهم على التكاتف والتعاون على تشكيل رأي واحد وقوة موحدة يمكن الإعتماد عليها من قبل هذه القوى الدولية لخدمة مصالحها. فلا يمكن لأية دولة أن تقدم خدمة مجانية للإقليم. ويبدو أن السياسات الدولية ما تزال تفضل الإعتماد على الحكومات الباتيزمية لتحقيق مصالحها على أية حكومة كردية ما تزال تفتقر إلى الإنسجام والوحدة والقوة.
ومع أن الظروف الدولية الراهنة مناسبة ومهيئة أكثر من أي وقت مضى ليس فقط لإستقلال اقليم كردستان العراق، وإنما لإستقلال كامل كردستان، وكذلك هناك رغبة دولية لدعم الشعب الكردي لنيل حقوقه، إلا أن الكرد بأحزابهم وقواهم المختلفة وبسبب تباعدها واختلافاتها فيما بينها من جهة، ومن جهة ثانية تمسك حزب العمال الكردستاني بايدلوجيته التقليدية التي تعادي الرأسمالية والإمبريالية والتي من غير الوارد التخلي عنها أو تغييرها ما تزال غير قادرة على اللحاق بتطورات الأوضاع في المنطقة لتحقيق مكاسب قومية. حتى أنها غير قادرة على الإتفاق فيما بينها على عقد مؤتمر قومي كردي، بسبب عدم قدرتها على تقديم تنازلات حزبية خاصة في سبيل تحقيق مكاسب عامة، لأنها ما تزال تُقدم مصلحة الحزب على مصلحة الشعب. وبرأي أن حزب العمال الكردستاني هو المسؤول الأكبر عن إعاقة عقد أي مؤتمر قومي كردي، رغم أنه من أكثر الأحزاب المطالبة بعقد هكذا مؤتمر، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول:
العقلية المؤدلجة المتصلبة لحزب العمال الكردستاني التي لا تقبل الحوار إلا من منطلق إنصياع الأطراف الأخرى وخضوعها لإرادتها، وفي حال قبولها لأي حوار يكون ذلك بدافع تحقيق مكاسب وقتية تكتيكية من جهة، ومن جهة أخرى إظهار نفسها للشعب الكردي كطرف غير رافض للحوار.
السبب الثاني:
طالما أن عوامل التغاير والإختلاف تطغى على عوامل التوافق والتقارب الشبه المعدومة بين أهم قوتين كرديتين متنافستين، وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني- عراق وحزب العمال الكردستاني، فإن أي حوار وفي أي مؤتمر قومي سيكون مصيره الفشل. وأولى هذه الإختلافات هو التوجه القومي لحزب الديمقراطي الكردستاني الهادف لخدمة الأمة الكردية المغبونة المغاير للتوجه الأممي لحزب العمال الكردستاني الهادف لتأسيس أمة ديمقراطية متخيلة. فالطرف الأول يعمل على تحقيق مشروع واقعي وملح وهو إستقلال دولة كردية في كردستان العراق، بينما الثاني يعمل على تحقيق مشروع ذهني مُتخيل لأمة ديمقراطية شرق أوسطية. علما أن توجه الطرف الثاني يذهب في الواقع الراهن في إتجاه خدمة المشروع الإيراني الطامع لتأسيس هلال شيعي ممتد من إيران إلى العراق بما في ذلك أقليم سنجار الذي سيربط هذا الهلال المذكور بسورية عبر كردستان سورية ومن ثم إلى لبنان، ولهذا السبب يرفض العمال الكردستاني سحب عناصره الذين تمركزوا في منطقة سنجار بعد أن حررتها البيش مركة من (داعش) تنظيم الدولة الإسلامية.
السبب الثالث:
التبعية السياسية للقوى الكردية للقوى الباتيزمية، أو لنقل بصورة ألطف التحالف الغير المتكافئ للقوى الكردية مع القوى الباتيزمية، مع الأخذ بعين الإعتبار التمييز بين تحالف حزب العمال الكردستاني الغير الرسمي مع ملالي الشيعة الإيرانيين والأسد العلوي الذين لا يعترفان به لا رسمياً ولا علناً، وبين تحالف الحزب الديمقراطي الكردستاني-عراق مع حكومة أردوغان السنية التي تعترف رسميا وعلنا بالإقليم.
السبب الرابع:
بروز ملامح واضحة للصبغة المذهبية العلوية في تحالف أو علاقة حزب العمال الكردستاني مع بشار الأسد العلوي وملالي إيران الشيعة. وبروز الصبغة المذهبية السنية التي تجمع حزب الديمقراطي الكردستاني مع الحكومة التركية.
ثمة ظاهرة عند أغلبية المثقفين بمختلف إنتماءاتهم تنبذ الطائفية والمذهبية، ولكن أرى أن مجرد النبذ والانكار للطائفية والمذهبية لا يلغيهما من الواقع السياسي والإجتماعي والديني من ثقافة الشعوب، لأن هذه الإنتماءات مترسخة في الوعي الشعبي بقوة. ونبذ أو تجاهل هذا الإنتماء سهل جدا، لكن الغاؤه ومحيه من ذاكرة ووعي الشعوب يتطلب عملا شاقا في الإشتغال على تشكيل وعي بديل، فالمرأة مثلاً تستطيع بسهولة تغيير شكلها كليا بأدوات المكياج الحديثة وإرتداء الألبسة المصممة حديثا، لكنها لا تستطيع تشكيل وعي جديد إلا بصعوبة وبحهد كبير قد يمتد لعشرات السنوات. ومما يؤكد على ما أذهب إليه هو ظهور هذه الإنتماءات المذهبية والطائفية بقوة بعد فشل التيارات العلمانية المختلفة في ايجاد بديل قوي لها. لذلك عادت هذه الإنتماءات تفرض نفسها بشكل ملفت سواء في لبنان أو سورية أو العراق، فاللجوء إلى مبدأ المحاصصة في المناصب الحكومية للدولة في كل من لبنان والعراق حسب الإنتماءات الطائفية والمذهبية والعرقية كان الحل الواقعي الأمثل، لأن القفز فوق الواقع يؤدي إلى السقوط في مخاطر مدمرة، فنظام المحاصصة على علاته يبقى الأصلح، لأنه يحقق العدل ولو نسبيا، ويمنع الصراع المبطن على النفود والسلطة بين أطراف هذه الإنتماءات والذي يفضي إلى نتائج وخيمة كالحروب الأهلية التي شهدتها وماتزال هذا الدول، عدا لبنان الذي أقتنع بأن نظام المحاصصة هو الأنسب على الأقل على المدي القريب والمتوسط، وذلك بعد حرب أهلية مدمرة استمرات أكثر من 15 عاما.
السبب الخامس:
التهديدات الشديدة اللهجة لمسؤولين في حزب العمال الكردستاني للحزب الديمقراطي الكردستاني-عراق بحرق عاصمة الإقليم أربيل وتحويلها إلى حلب ثانية أو تحويل جنوب كردستان إلى جنوب فيتنام. ورغم تنصل قيادة العمال الكردستاني من هذه التهديدات إلا أنه من المعروف أنه لا يمكن لأي مسؤول في العمال الكردستاني إعلان أي تصريح دون موافقة القيادة. بالإضافة إلى التصريحات الشبه اليومية لهذا الطرف التي تدين التعاون الرسمي بين إقليم كردستان العراق وتركيا في مجالات عدة.
السبب السادس:
الخلاف حول من سيترأس المؤتمر القومي الكردي في حال إنعقاده.
وبالعودة إلى سياق الموضوع الأساسي نجد أنه من خلال التجربة التاريخية لم تثبت حرب العصابات نجاحها في الحالة الكردية، بل بالعكس أدت نتائج سلبية وإلى معاناة كبيرة للشعب الكردي.
واريد أن اشير هنا بإختصار إلى مفهوم الإرهاب في المفهوم السياسي السائد في العالم، بأنه مجموعة الأفعال والإجراءات العنفية التي تتَّسم عادةً بالبشاعة والفظاعة لإدخال الذعر والخوف في نفوس البشر. وبالتالي بسط السيطرة والنفوذ عليهم وأخضاعهم.
والإرهاب قديم قِدم الزمان، لكن تم تداوله مجددا في النصف الثاني من القرن العشرين من قبل الإعلام الغربي لوصم بعض الحركات اليسارية المتطرفة بالبشاعة، إلى أن ظهر مفهوم الإرهاب بقوة مع عمليات منظمة القاعدة الإسلامية التي دمرت برجي التجارة العالمي في نيويورك 2001.
من حيث المبدأ، فإن كل مظلوم له الحق برد الظلم ومقاومته بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك بالعنف أوبالقتل أو بالترهيب، لأن العنف أو الإرهاب هنا ينشأ بفعل الاضطرار والضرورة الموضوعية، والنضال المسلح الكردي سواءً سمي عنفاً أو إرهاباً فهو إجراء مشروع طالما أنه هنا ليس غاية بحد ذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لرد الظلم ودفعه عن الشعب الكردي، أي رد إرهاب أكبر، وهو إرهاب الدولة المتسلطة المستعمرة.
فأي إجراء يقوم به الكردي أو أي إنسان مظلوم آخر، سواءً سمي بالإرهاب أو بالعنف أو بالنضال المسلح، فإنه يكتسب صفة الشرعية، لأنه يستخدم لغاية سامية وهو مكافحة الظلم. ولكن ثمة شروط أربعة محددة يتوجب توفرها عند ممارسة أي مقاومة أو عمل مسلح كي يحقق هذا الإجراء الغاية المحمودة والمرجوة منه، ويكتسب بالتالي الشرعية اللازمة له، وإلا لأصبح هذا العمل أو هذه المقاومة وبالاً وخيماً ترتد إنعكاساته السلبية على فاعليه، وهذه الشروط هي التالية:
الشرط الأول:
عامل الاستمرارية والتصاعدية في الفاعلية والدقة الذكية في تحديد واختيار الأهداف وضربها، أي توفر الإمكانية والقدرة لاستمرارية هذا الفعل المقاوم دون توقف، كالذبابة التي تسببت في مقتل الأسد(2)، وتصعيده إلى مستويات أعلى طرداً مع الزمن، لدحر الإرهاب الأكبر وهو إرهاب الدولة، وتحنب القيام بأية عمليات مسلحة بين المدنيين، واللجوء إلى عمليات في عمق أراضي العدو، التي يمكنها أن تؤدي إلى نتائح أفضل إن تمت بإحكام وبذكاء، وإلا فإن عواقبها وخيمة. ويجب التركيز والإقتصار على الأهداف الاقتصادية فقط، لأن ذلك يمكن أن يشل حركة الدولة ويجبرها عل أن ترضخ للمطالب المشروعة، وإلى الاستجابة لمطالب المقاومة والبحث عن حل حقيقي وجذري للقضية المطروحة. لأن التركيز على قتل عناصر الدولة من جيش وشرطة في هذه الحالة، لا يضعف الدولة بل يؤدي إلى تقوية الدولة.
امكانية الإستمرارية إذن في هذه العمليات المسلحة من أهم العوامل، لأنّ أي توقف أو انقطاع أو إنحسار هنا يعيد بصاحبه إلى المربع الأول، وكأنه يبدأ من جديد، وقد يرتد إليه سلباً أيضاً، وهذا ما يحصل غالباً في الحالة الكردية بسبب التفاوت الكبير بين إرهاب المحرر وإرهاب المستعمر. وهذا ما يؤدي غالباً إلى ضمور الحركات المسلحة وهزالها أو حتى إلى انتهائها وانهيارها نهائياً. وليس هذا وحسب وإنما يمكن أيضاً أن تصنف تاريخياً كحركة إرهابية.
وهذا ما حصل لعدد من حركات التحرر الوطني في العالم فقد إنتهت حركة نمور التاميل المسلحة، لقلة الدراية في كيفية التعاطي السياسي السليم مع الواقع السياسي المحيط، من ذلك إعلانها وقف إطلاق النار في العديد من المرات من أجل التفاوض مع الحكومة السريلانكية دون توفر عوامل موضوعية وواقعية للعملية السياسية التفاوضية، وكذلك تخلي هذه الحركة عن موضوع إستقلال التاميل الذي تأسست الحركة من أجله. وقد استغلت الحكومة السيريلانكية تلك الفترات السلمية لإعادة ترتيب قواتها من جهة، ولتسريب البرود النضالي والتقاعس لتلك الحركة من جهة أخرى، وفعلاً نجحت في ذلك، فقامت الحكومة السيريلانكية بإلغاء المفاوضات مع هذه الحركة حول تشكيل حكومة اتحادية، بعد فقدان هذه الحركة لأي تعاطف دولي بعد عمليات الاغتيال التي نفذتها، أشهرها كانت عملية اغتيال الرئيس الهندي راجيف غاندي 1991 والتي تسببت في وضعها على قائمة الإرهاب في أمريكا وأوروبا، وشنت الحكومة السريلانكية حرب شاملة ضد الحركة وقتلت زعيمها فيلوبيلاي برابهاكاران عام 2009، فأعلنت الحركة بعد ذلك إلقاء السلاح والاستسلام وإنهاء الكفاح المسلح نهائياً.
والجدير بالذكر هنا هو تشابه هذه الحركة مع حركة عبدالله أوجلان في أوجه عدة، مثل تبنيها للأيديولوجية اليسارية الماركسية، وتوزع الشعب التاميلي في أربع دول هي الهند (63 مليون تاميلي) وماليزيا (1.5م.ت) وسنغافورة (250 ألف.ت) بالإضافة طبعا إلى سريلانكا (2.6 م.ت)، وتنازلها لاحقاً عن حق الاستقلال، ومن أوجه التشابه أيضاً إعلانها المستمر لوقف إطلاق النار من طرف واحد.
ويذكر أن حركة نمور التاميل إنطلقت منذ 1983 أي قبل سنة من انطلاق حركة حزب العمال الكردستاني، وراح ضحية المعارك بينها وبين الحكومة السيريلانكية ما يزيد على 65 ألف شخص.
العبرة هنا في النتائج، فالنضال المسلح المشروع لحركة نمور التاميل الذي كان يهدف إلى تحرير الشعب التاميلي من سيطرة سيريلانكا الدولة المستعمرة، أي من إرهاب الدولة، تحول إلى إرهاب أو اجراء غير شرعي (لأنه لم يحقق الهدف)، بسبب أخطائه العديدة، كوقف إطلاق النار المتكرر من طرف واحد، والانخداع بسياسة الحكومة المركزية، وتخليه عن هدف الاستقلال الذي قامت الحركة من أجله. والأهم أن هذه الحركة لم تتمكن من رفع وتيرة الإرهاب بحيث تجبر الحكومة السريلانكية على الالتزام بحل جذري للمسألة. وقد تسببت هذه الحركة في خلق كارثة للشعب التاميلي الذي عانى من الطرفين تقتيلاً وتهجيراً وتفقيراً طيلة 29 عاماً.
وما حصل مع حركة العمال الكردستاني أو حتى ما يحصل في الوقت الراهن لا يكاد يختلف كثيراً مع ما جرى مع حركة نمور التاميل، سوى أن الحركة الأولى مازالت على قدمين رغم أن زعيمها الآن مسجون. فقد أعلنت هذه الحركة العديد من المرات وقف إطلاق النار من طرف واحد، رغم أن ذلك كان نزولاً عند رغبة المخابرات التركية(3) غالباً بحجة إجراء مباحثات سلام، لكن هدفها الحقيقي كان غير ذلك تماماً، لأن هذه المباحثات في هذه المرات العديدة لم تقدم أو تؤخر الأمور في شيء، إلا كسب الوقت لصالح الدولة التركية وإحداث تململ في صفوف الحركة وفوضى الانشقاقات ثم استئناف القتال من جديد. حتى نجحت الحكومة التركية في جهودها وألقت القبض على رئيس الحركة أوج آلان عام 1999 كما هو معروف.
وما يحصل مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية الماركسية – الجيش الشعبي – يسير بنفس الاتجاه والخطوات، وتحول العديد من قادة هذه الحركة المنشقين إلى رؤساء عصابات تهريب المخدرات وتكديس الأموال، وقسم كبير من أعضاء الحركة غادروها وسلموا أنفسهم للسلطات، ويعيشون الآن حياة عادية مثل غيرهم. أما الباقي فما يزالون يمارسون نضالاً عقيماً. ومن الملفت هنا أنه تردد في الآونة الأخيرة أن بعضاً من أعضاء هذه الحركة ينوون القدوم إلى سورية أو العراق للتضامن مع الحزب الاتحاد الديمقراطي الشقيق في الإيديولوجيا للقتال ضد داعش. ومن الجدير ذكره هنا أن قائد الفصيل الرئيسي في هذه الحركة الذي يلقب بـ (تيموشينكو) توصل أخيراً إلى حل سياسي مع الحكومة الكولومبية المركزية وسيصبح الكفاح المسلح شيئاً من الماضي، إذا ما تم الإستفتاء بنجاح على اتفاقية السلام كما هو متوقع(4).
إن مقارنة حركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية الماركسية مع حركة العمال الكردستاني هي مقارنة صعبة من عدة أوجه، أهمها أن الحركة الكولومبية هي حركة كان من أهم أهدافها تغيير النظام القائم في البلاد وفرض نظام اشتراكي ماركسي على البلاد. أي تغيير نظام الحكم. بينما حركة العمال الكردستاني حركة تحررية قومية بالدرجة الأولى حتى وإن غيرت هذه الأهداف، إلا أن ما عقد الوضع أكثر هو إحلال مشروع الأمة الديمقراطية محل مشروع الأمة الكردية، الذي صار يشمل الشعب التركي وكامل شعوب تركيا. أي تغيير النظام التركي الحالي، وبهذا التحول صار صورة شبيهة للحركة الكولومبية المسلحة (فارك). ومعنى ذلك أن أمد الصراع سيطول كثيراً، وبالتالي ستتضاعف معاناة الشعب الكردي. إن استمرت هذه الحركة في ممارسة الكفاح المسلح الغير مستوفي لشروط النجاح.
وأعتقد بأن حركة العمال الكردستاني تسير أيضاً في نفس الاتجاه، فهي تحاول الآن أو بالأحرى أعلنت إدارات ذاتية في بعض البلدات والمدن الكردية من جانب واحد بناء على توجيه قائدها،وذلك بعد فشل طرح مشروع الأمة الديمقراطية، لكنها تجابه بإرهاب الدولة فتضطر هذه الإدارات إلى إلغاء نفسها والتراجع. وهذا ما حصل فعلا. أي أن الحركة أصبحت في طريق مسدود، رغم التصريحات النارية لقادتها القابعين في كهوفهم في جبال قنديل(5).
وقد خسرت الحركة الكثير من الأعضاء والتضامن الشعبي بعد تخليها عن الحلم الكردي في تحرير واستقلال كردستان، والخطأ الأكبر الذي وقعت فيه هذه الحركة أنها تحاول أن تحول الصراع بينها وبين العدو التركي من صراع حركة قومية تحررية إلى صراع إيديولوجي بين الماركسية والدين الإسلامي. أي أنها محت تماماً من برامجها أية إشارة إلى قيام دولة كردية، بل أنها وعلى لسان مسؤوليها أعلنت أنها ضد قيام هذه الدولة الكردية القومية، لأن عهد الدول القومية قد ولى حسب زعمهم.
يعتقد الكثيرون بأن هذه الحركة أصبحت حركة كبيرة وشاملة لأجزاء كردستان الأربعة، صحيح أن لها أحزاب ومؤيدين في الأجزاء الأربعة من كردستان، لكن الصورة مضخمة كثيراً عبر بروباغندا الحركة ووسائلها المتعددة العائدة لها.
طبعاً أنا لا أنكر تأثير هذا الحزب وحجم قوته وإمكانياته، لكن المبالغة في تقدير حجمه لا يفضي إلى نتائج صحيحة، بدليل تعثره في تحقيق أي تقدم يذكر ضد المستعمر التركي، حتى أن نداء صلاح الدين ديمرتاش الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطية لأهالي ديار بكر بالتظاهر أحتجاجاً على إعتقال الدولة لعشرة أعضاء من البرلمانيين الكرد لم يدفع بسوى بضع مئات من الأشخاص لم يتجاوز الأربعمائة شخص، رغم أنه نال في هذه المدينة قرابة 70 ألف صوت في الإنتخابات الأخيرة. وهذا سببه حسب اعتقادي أن الاهالي هناك لم يرضوا عن سياساته المتماهية مع سياسات حزب العمال الكردستاني التي تسببت في تشريد أكثر من 300.000 ألف شخص وتدمير جزئي لعدة مدن وبلدات كردية(6).
وكان من نتائج أخطائه الكبيرة ممارسة الإرهاب الذاتي على شعبه في المراحل الأولى -كما سبق وأشرت إلى ذلك- إذ نشأت قوة كردية مسلحة مضادة له من قبل الدولة التركية، بلغت أعداد مهولة في السابق، لكن بعد اعتقال زعيم الحركة أوجلان نزل العدد إلى 53 ألفاً ممن يسمون بحراس القوى، وقد وصل عددهم في الوقت الحاضر إلى 63 ألفاً،بعد أن انضم إليهم حديثاً عشرة آلاف حارس قرى جديد، بعد تفجر القتال مجددا، بعد العملية الانتحارية البشعة 20/7/ 2015 في بلدة سروج المقابلة لبلدة كوباني على الطرف المقابل من الخط الفاصل بين سورية وتركيا، والتي لم يعلن أحد مسؤوليته عنها. إلا أن حزب العمال الكردستاني اتهم أردوغان ومخابراته بالضلوع في هذا التفجير بالتنسيق مع داعش (الدولة الإسلامية).
وهنا وقع العمال الكردستاني في كمين خطير جداً ربما أُعد عن قصد من قبل الدولة التركية، ليس باتهام هذا الحزب الحكومة التركية بتدبير هذه المجزرة، وإنما بإعلانه على أثر ذلك البدء في استئناف القتال، بعد أن توقف لمدة سنتين لإعطاء فسحة للعملية السلمية(7)، حيث بدا هنا هذا الحزب متسرعاً وكأنه كان ينتظر مسوّغ أو حجة لإعلان القتال، ويرجح أن مرتكب هذه العملية الإجرامية هو ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ودافعه في ذلك واضح، وهو إحداث وقيعة بين طرفين معاديين له، بعد تحول الموقف التركى من داعش 180 درجة.
كما ورَّط العمال الكردستاني بسبب إعلانه للإدارة الذاتية والدفاع عنها وإستئناف القتال السيد صلاح الدين ديمرتاش الرئيس المشترك لحزب الشعوب الديمقراطي – الذي تعتبره تركيا الجناح السياسي للعمال الكردستاني- حين صرح هو الآخر بأن الشعب الكردي سيحمي نفسه بنفسه، إلا أنه وبعد سنة تقريباً من القتال الذي تسبب في أضرار كبيرة للمدن والبلدات الكردية، وعزل 28 رئيس بلدية في المناطق الكردية وسحب الحصانة الدبلوماسية من معظم البرلمانيين المحسوبين على هذا الحزب، وغير ذلك من النتائج التي ألمت بالشعب الكردي نتيجة القتال، غيّر السيد ديمرتاش رأيه كلياً، حين صرح أثناء زيارته الأخيرة /ايلول 2016/ لإقليم كردستان العراق “أن حزبه لا يرى في القتال وحمل السلاح سبيلاً لتحقيق حقوق الشعب الكردي وحل معضلاته، وأن النضال السياسي المتمدن هو السبيل الأنجع أمام الشعب الكردي لنيل حقوقه”. ويذكر أن الحكومة التركية قامت باعتقال السيد ديمرتاش ومجموعة كبيرة من أعضاء حزبه فيما بعد مستغلة بعض تصريحاته السابقة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يعلن فيها ديمرتاش تفضيله النضال السلمي على الكفاح المسلح، إذ سبق له أن فعل ذلك مراراً، لذلك فإن آراءه في هذا الصدد لا تُأخذ مأخذ الجد من قبل معظم المراقبين السياسيين والأتراك منهم خصوصاً.
وقد يعتبر البعض إن زيارة صلاح الدين ديمرتاش لكردستان العراق ورغبته في النضال السياسي السلمي المتمدن، جاء على خلفية نشر رسالة عبدالله أوجلان الأخيرة /ايلول 2016/ من قبل أخيه محمد اوجلان، وطلب فيها وقف الأعمال القتالية من طرفي النزاع، وأعلن أنه لو استمر القتال ثمانون سنة أخرى فلن يجدي. ولا بد أخيراً من اللجوء إلى المفاوضات السلمية.
ومن الجدير ذكره هنا أن أحدا من المقربين أو المحسوبين على حزب العمال الكردستاني لم ينتقد قرار هذا الحزب في إستئناف القتال وتوريط الكرد فيها بإعلانه الإدارة الذاتية بهذه الصورة الكرتونية. إلا أن السيد أحمد ترك المقرب من هذا الحزب والذي تولي منصب رئيس بلدية ماردين مناصفة من شريك أو شريكة، تجرأ أخيرا ولو بعد سنة ونصف وأعلن بأن حرب المدن التي أعلنها هذا الحزب (ب ك ك) في العام ما قبل الماضي كان خطأً.
إن الشعوب لا تجمعها وتقويها وتوحدها إلا إحساسها الجمعي بتحقيق الأهداف الكبرى المتمثلة في تحقيق العدالة والحرية والإستقلال والراية القومية الواحدة، وليس الإيديولوجيات التي تقسم الشعب والأفكار التخيُّليّة والتصورات القاصرة وما شابه.
إن الأحزاب العقائدية تعجز بالضرورة عن خلق قيم سامية ومبادئ كبرى مثل الحرية والعدالة والديمقراطية، لأن هذه القيم والمبادئ لا تتوافق بل تتنافض مع ايديولوجية أو عقيدة هذه الأحزاب ومذاهبها التي لها مقاساتها الخاصة حول هذه القيم والمبادئ والتي تفصلها بحيث أنها تخدم عقائدها وأيديولوجياتها.
وكما ذكرت، فإن المتخيّلات الثورية العقائدية تحد من قدرة الإدراك السليم وتؤثر إلى حد كبير على قدرة العقل على التفكير السَّوي. والسبب في ذلك هو انغلاق العقل وعدم انفتاحه على الأفكار الأخرى، وتفضيله البقاء في شرنقته الأيديولوجية من إختراقها والطيران في مجال الأفكار الفسيح.
وهذا ما يؤدي بأصحاب هذه المتخيلات إلى إقصاء الآخرين الذين يرفضون الإقامة في شرنقتهم والخضوع لهم، باعتبارهم خونة وعملاء، لأن العقلية الشمولية لا تنفي أي فكر آخر فقط، وإنما تعتبره أيضاً ضاراً ومسيئاً للإنسانية، ومن هنا تطلق الأحكام التخوينية على المخالفين. وبناءً على ذلك فإن العقلية الشمولية تعطي نفسها الحق الحصري في تمثيل الشعب، بإعتبارها المنقذ الوحيد ليس فقط للشعب وإنما يذهب بهم الشطط بسبب التشوه في الإدراك، إلى الإدعاء بإنقاذ للبشرية جمعاء. ولا يختلف أتباع الأيديولوجيات أطلاقاً عن أتباع الأديان من حيث تشبثهم بالاعتقاد بأنهم الطرف الوحيد الذي يسلك الطريق السليم والصحيح وأنه بإمكانهم وحدهم فقط تحقيق الأهداف الكبرى والخير الأسمى للإنسان.
لذا تراهم وبفعل إدراك المؤدلجين القاصر يتكلمون باسم الشعب كله، ويطلقون على قائدهم بأنه قائد لكل الشعب، ويزيدون أحياناً في الإفراط بتسمية قائدهم بالقائد العالمي. إلا أن خطر الإيديولوجيا هنا يكمن في عدم قدرتها على أن تحظى بتأييد أغلبية الشعب، فتلجأ إلى العنف والإكراه والإرهاب لتحقيق ذلك. وعندها تكون أضرارها أكثر من فوائدها بكثير. وهنا تكمن بؤس الأيديولوجيا.
الشرط الثاني:
هو أن لا يكون الإرهاب أو العنف أو الكفاح المسلح ضعيفاً وسبباً في جلب نكسات وويلات أكثر إيلاماً وأشد ضررا للمظلوم.
فإن سطا لصوص على بيتك، فبالتأكيد سوف لن تنتظر شروق الشمس لتقدم شكوى لقسم الشرطة أو للمحكمة ضدهم، وإنما ستطلق الرصاص عليهم للدفاع عن بيتك وأهلك إذا كنت تستحوذ على سلاح ناري، أما إذا كنت لا تملك هذا السلاح، فمن الطبيعي بأنك سوف لن تهاجمهم بسكين مطبخ. رغم حقك في فعل ذلك. لأنك تعلم بأن الضرر سيكون أكبر. فربما تُقتل أنت وسائر أفراد عائلتك في هذه الحالة نتيجة هذه الحماقة. ولو أن القادة الكرد وقادة نمور التاميل فكروا كصاحب البيت هذا وقاموا بدراسة العدو وتقدير قوته وإمكانياته وردود فعله تقديرا سليما،وقارنوها بإمكانياتهم، لوفَّروا على أنفسهم وشعوبهم الكثير من الخيبات والمصائب.
أما عن شرعية الإرهاب فهي قضية لا تتعلق كثيراً بالحق وإنما تتعلق بالقوة أولاً، فلو أن القائد النازي أدولف هتلر إمتلك القوة النووية لما تردَّد في إستخدامها لهزيمة الأعداء، لأنه كان يعتقد أنه على حق، تماما مثلما أعتقد هاري ترومان الرئيس الأمريكي أنه على حق وألقى بقنبلتين نووييتن على اليابان لهزيمة العدو.
الفارق الوحيد في هذه الحالة هو أن هتلر كان دكتاتوراً قامر بمصير أمته الألمانية وبمصير العالم بسبب مزاجه المنحرف وأفكاره العنصرية، لكن بالنسبة إليه وإلى شعبه كانت أفكاراً عظيمة وأن إجرامه وإبادته لبعض الشعوب كان نضالاً لصنع عالم نظيف أفضل لشعبه ولشعوب العالم قاطبة، بينما ترومان اضطر إضطراراً لاستخدام القوة النووية لوقف الحرب، ولرد الهجوم الياباني الذي فاجأ الأمريكيين، ولولا إنتصار الأمريكيين لصنف ترومان أكبر إرهابي في التاريخ.
فإذا كان من حق دولة عظمى كالولايات الأمريكية إستخدام الإرهاب من أجل رد الظلم ومنع الخطر، فمن باب أولى أن يتمتع الضعيف المظلوم بهذا الحق لرد الظلم. إلا أن الضعيف هنا عليه إبتكار طريقة فعّالة ومجدية لممارسة الإرهاب، فليس لديه قوة نووية مثل ترومان، وإذا لجأ إلى سكين المطبخ سيلقى حتفه بالتأكيد. وإذا لم يعثر الضعيف على طريقة فعالة لممارسة الإرهاب، فلابد له من البحث والعمل لإيجاد أو ابتكار طريقة أخرى مناسبة ومجدية تناسب الظروف وتحقق له الهدف. وصاحب الغاية لا يعدم الوسيلة. وإلا فإن الإقدام على الإرهاب أو العمل المسلح في هذه الحالة وكيفما اتفق ضرب من التهور والمغامرة أو المجازفة إن لم يكن جنوناً.
في الهند مثلاً لجأ المهاتما غاندي إلى إستخدام طريقة مبتكرة لرد الظلم والتحرر من المستعمر، تمثلت في العصيان المدني، وهي عبارة عن ممارسات سلمية خالصة وخالية من أي شكل من أشكال العنف أو الإرهاب.
لم يكن المهاتما غاندي ملاكاً حتى نبذ العنف، بل لأنه كان يعرف أنه بالطريقة التحررية الكلاسيكية العنفية سيدفع العدو إلى العمل على أن تتقاتل شعوب الهند فيما بينها بسهولة، وبالتالي إلحاق الهزيمة به وبالهند. عدا عن أنه ما كان بإمكان غاندي الاستحواذ على تأييد شعبهِ الساحق، لو أنه لجأ إلى طريق الكفاح المسلح. ثم أن البون الواسع في امتلاك القوة المسلحة والمال والتنظيم والخبرة والقدرات القتالية بين أية حركة مسلحة وبين العدو المستعمر بريطانيا العظمى لعب دوراً هاماً عند غاندي في عدم التفكير في اللجوء إلى الكفاح المسلح، مع أنه خسر بذلك بعض زعماء الهنود الذين كانوا يؤمنون بالعنف المسلح لطرد المستعمر.
الشرط الثالث:
العمل على الوصول إلى الغاية أو الهدف بالكفاح المسلح أو بالإرهاب بأقصر فترة زمنية ممكنة، لأن أية حركة في بدايتها تبدأ بحيوية ونشاط متواضع، ويظل هذا النشاط يكبر إلى أن يصل إلى نقطة معينة، يبدأ عندها إما بالمراوحة في مكانه، أي عدم قدرة الحركة على تفعيل نشاطها أكثر، فتدخل في حالة عدم الفاعلية. وبالتالي تتحول هذه الحركة إلى عبء ثقيل على داعميها ومؤيدها، ويزداد هذا الثقل كلما طالت فترة إنعدام الفاعلية أو التعطيل، وإما أن يبدأ هذا النشاط بالنزول والانحسار. وبالتالي تصاب الحركة بحالة من الإحباط تعرضها لتحولات وانزياحات عن أهدافها الكبرى، فتبدأ بتقديم التنازلات وتتحول إلى شبه مؤسسة إدارية أكثر منها حركة أو ثورة، أو تنهار كما حصل لثورة التامليين.
الشرط الرابع:
القدرة على الفعل القتالي المؤثر بموازاة الفعل السياسي الناجح. وتجنب ما أمكن ردود الفعل السلبية من العدو، والتي تنعكس سلباً على الشعب، وخاصة إذا كانت الحركة غير قادرة على الدفاع عن الشعب، كأن لا تورط المدنيين في خضم القتال بالإنتشار بينهم. وقد فشل الشهيد قاضي محمد في الفعل القتالي والسياسي، لكنه نجح في تجنيب شعبه خسائر أو كوارث كبيرة، كالقتل الجماعي أو التهجير القسري أو الطوعي. أما المرحوم الملا مصطفى البرزاني فقد نجح في العمل القتالي وجنَّب شعبه خسائر كبيرة، لكنه فشل في الفعل السياسي، وتسبب في إنهيار ثورته المسلحة.
أما ابنه مسعود البرزاني الذي رفع راية الثورة من بعد أبيه، فلم ينجح لا في العمل القتالي ولا في العمل السياسي حتى مرحلة احتلال العراق، بل أنه فشل في أدائه السياسي وتسبب مع جلال الطالباني في كوارث كبيرة ألمت بأكراد العراق أكبرها وأفظعها عمليات الأنفال والتي كانت بمثابة تطهير عرقي ضد الأكراد، مارسه النظام العراقي البائد بقيادة الدكتاتور صدام حسين الذي أعدمه الأمريكان بعد احتلالهم للعراق بالتعاون من بعض الكرد المعادين للبرزاني، وتم فيها إستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين وتدمير آلاف القرى الكردية وترحيل أعداد كبيرة منهم إلى جنوب العراق حيث تمت عمليات الإعدام الجماعي بحقهم، أما الأعداد الأخرى فقد تم تجميعها في مراكز كبرى تشبه المعتقلات العسكرية، شيدت خصيصاً لتجميع أهالي القرى فيها بهدف قطع أي اتصال بين الثوار والأهالي . وكانت حصيلة هذه العمليات الإجرامية من قبل النظام العراقي فقدان 182.000 مواطن كردي لحياتهم بين رجال وشيوخ ونساء وأطفال. ومن الكوارث الكبيرة الأخرى التي ألمت بأكراد العراق نتيجة السياسة الفاشلة والخاطئة للزعيمين مسعود البرزاني وجلال الطالباني وخاصة أثناء الحرب الإيرانية-العراقية التي استمرت ثمان سنوات، اضطرار رحيل مئات الآلاف من الكرد أكثر من مرة وفي ظروف قاسية جداً إلى كل من تركيا وإيران. ومعاناتهم البائسة من جراء هذا اللجوء.
أما حركة حزب العمال الكردستاني التي أعلنت الكفاح المسلح سنة 1984 ضد الجمهورية التركية بهدف تحرير واستقلال كردستان، فهي الأخرى فشلت في الفعلين القتالي والسياسي فشلاً ذريعاً، مما تسبب ذلك بتدمير وإحراق أربعة آلاف قرية كردية وتهجير سكانها قسراً إلى مناطق بعيدة في تركيا. بهدف تجفيف مصادر الدعم لمقاتلي العمال الكردستاني. ويقدر عدد الكرد المهجرين من مناطقهم إلى الداخل التركي ما يقارب الأربعة ملايين شخص.
وفي السنة الأخيرة 2015/2016 بعد أن استأنف هذا الحزب أعماله القتالية، تم تدمير عدة مدن وبلدات كردية جزئيا من جراء الأعمال القتالية بين هذا الحزب والعسكر التركي، وتم تهجير مئات الآلاف منهم إلى أماكن أخرى، بعد محاولة فاشلة لهذا الحزب في إنشاء إدارات ذاتية في بعض المدن الكردية من طرف واحد.
نلاحظ هنا بسهولة أن الحركات الكردية لم تستطع تحقيق هذه الشروط الأربعة، وبالتالي لم تحقق أي نجاح. بغض النظر عن الوضع الحالي لكردستان العراق الشبه المستقل والذي ما كان ليحصل لولا الاحتلال الأمريكي للعراق.
أي أن النضال التحرري المسلح للحركات الكردية، كان نضالاً بائسا، تسبب في عذابات وويلات وكوارث فظيعة وبشعة بحق الشعب الكردي، دون أن يحقق مكاسب تذكر بالمقارنة مع حجم التضحيات، وهذا يثبت قطعاً، بأن هذه الحركات الكردية كانت في الحقيقة تفتقد المسؤولية الموضوعية والحس السياسي السليم والقدرة على التعاطي الصحيح مع الواقع ككل، ويؤسفني القول بأنّ فعلها القتالي والسياسي كان أشبه بمغامرة غير محسوبة العواقب أو بمقامرة غبية بمصير الشعب الكردي، ولكن فقط عن حسن نيّة.
إذن العبرة هنا هي في القدرة وفي الكيفية في ممارسة الإرهاب أو العنف بنجاح، وليس في أنه مشروع أو غير مشروع، فالشرعية أمر متحول دائماً ويتعلق بالنتيجة، وليس بالحق، وكما أشرت سابقاً، فلو أن أدولف هتلر انتصر في الحرب العالمية الثانية لصار بطلاً بنظر العالم رغم جرائمه الفظيعة، ولرأيت تماثيله تزين العديد من ساحات المدن الكبرى في العالم. مثلما نصبت في ساحات مدن الإتحاد السوفيتي تماثيل المجرم ستالين في أيام الإتحاد السوفيتي، الذي لم يكن أقل وحشية من هتلر بل أنه فاقه في احتقاره للإنسان والإنسانية. وليس دفاعاً عن هتلر وإنما فقط للمقارنة أقول بأن هتلر على الأقل لم يقتل شعبه كما فعل ستالين.
وهناك العديد من الحركات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي وصِمت بالإرهاب من قبل الغرب، لكنها أجبرت الخصوم على التنازل بفعل ممارستها المستمرة والفعّالة للإرهاب. بل أنّ ثمة قادة كانوا مصنَّفين على قائمة الإرهاب في العالم ومع ذلك حازوا على جوائز نوبل للسلام، كالزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والزعيم الإسرائيلي مناحيم بيكن، كما أن نيلسون مانديلا الشخصية التي نالت إحترام العالم، صُنِّفَ حينا من الدهر في أمريكا على قائمة الإرهاب، إلا أنه حصل بعد ذلك على أكثر من/ 100/ جائزة دولية من ضنمها جائزة نوبل للسلام.
إلا أن أسوأ أشكال الإرهاب هو “الإرهاب الذاتي” أي أن تمارس الإرهاب على شعبك أو حزبك أو جماعتك، ويعتبر ستالين رمزا عالميا لمثل هذا الإرهاب. ولم تخلُ – وللأسف الشديد – حركة من الحركات الكردية على هذه الممارسة المُهينة، إلا أنها لم تكن ممنهجة ومدروسة، ولا أعني هنا تبرير هذا “الإرهاب الذاتي” طبعاً، لكنه بالتأكيد ليس كالإرهاب الذاتي الممنهج، والحزب الكردي الوحيد الذي مارس الإرهاب الذاتي الممنهج هو حزب العمال الكردستاني في السنوات الأولى من انطلاق كفاحه المسلح، فقد مُورس الإرهاب الذاتي هنا مستهدفاً الإقطاعيين ورجال الدين الكرد بشكل خاص بطريقة ممنهجة وهادفة بدوافع أيديولوجية بحتة، حيث قام عبدالله أوجلان وبمنتهى التهور والتعصب بتطبيق نظرية “العنف الثوري” الماركسية على الواقع الكردي، مما أدى ذلك إلى مقتل الآلاف من الكرد. وأدى هذا بالتالي إلى حصول شرخ كبير بين فئات الشعب الكردي في كردستان تركيا. كما مُورس هذا الإرهاب الذاتي من قبل الحزب المذكور على أعضائه المنتقدين له أو المنشقين عنه.
وتجدر الإشارة هنا أن عدد حراس القرى من الكرد الذين تصدوا لهذا الحزب كنتيجة لعنفه الثوري وإرهابه الذاتي على شعبه وبحسب مصادره في وقت من الأوقات وصل إلى ثلاثمائة ألف مسلح من حراس القرى في عهد رئيسة الوزراء تانسو شيلر، بينما لم يكن يتجاوز عدد مقاتلي الحركة البضعة آلاف آنذاك.
وفيما يتعلق الأمر بممارسة “الإرهاب الذاتي” عند الحركات الدينية والإيديولوجية فقد مورس كثيراً في التاريخ البشري وأدى إلى وقوع مئات الملايين من الضحايا.
فقد مورس هذا الإرهاب الذاتي من قبل معظم الأديان كبيرها وصغيرها. أما عند الحركات الإيديولوجية فقد مارسه لينين وستالين وماو وبول بوت بدم بارد وبوحشية بالغة ضد شعوبهم.
تستمد ممارسات “الإرهاب الذاتي” الممنهج تبريراته من الأفكار العقائدية والأيديولوجية، التي تجعل من الإرهاب الممارس بشكليه العمومي والذاتي أمراً لا غنى عنه في بسط سلطته وفرض وجوده. ويسمى هذا الإرهاب عند الأديان بالجهاد المقدس وعند الحركات الثورية الإيديولوجية بالعنف الثوري.
الخلاصة المنطقية التي يمكن قولها هنا بخصوص النضال الكردي المسلح، بأنه ضرب من الإنتحار، لأنه نضال بائس أضعفَ الكرد وقَوَّى أعداءهم، فالضربة التي لا تقصم ظهر العدو تقوّيه.
_____________________________________
(1) ا لپاتيزمية بالإنكليزية PATISM أو بالألمانية PATISMUS مصطلح أُطلِقه إختصاراً على المثقفين والسياسيين من نُخب الفرس والعرب والترك، الذين يعادون الكُرد ويبثُّون الحقد والكراهية بين الكرد وشعوبهم، لدواعٍ عنصرية ومصالح قومية شوفينية محضة، ويعملون بشتى الوسائل المتاحة لديهم ضد الشعب الكردي وضد حق تقرير مصيره بنفسه ومنعه من الحصول على حريته وإستقلاله.
(2) يُحكى أن ذبابةً وقعت على قدم أسد، أدار برأسه إليها وأخذ يرمقها بنظراته الحداد، علّها تخاف او ترتدع، لم تعره اهتماماً قط، وبقيت تلعب بها وترتع منها كيفما تشاء، أخذته العزة بالإثم وأنسته حميته حمية الجاهلية الأولى مهام الملك ومسؤولياته العظام التي خلقه الله من أجلها، نسي حقيقتها وحقيقته وبدأ يراوغها عن جناحها وتراوغه هي عن ملكه، فما انفكت هي تطير وترجع. ولا زال هو يتصاعد غضبه ويكبر، وتكبر غيرته على نفسه اكثر واكثر في كل مرة تحط على قدمه وتعود، وكأن تحديها للأسد العظيم ملك الغابة بدأ يعجبها، خُيّل إليها أنها أضحت نداً له وخصيماً، وهذا ما حصل؛ إذ صارت كلما جرحت هي كبرياءه أكثر بسقوطها الحر على قدمه، صار هو يجرح في قدمه أكثر وأكثر. لا زال الأسد عظيم الغابة يضربها بمخالب قدمه على القدم الأخرى، حتى شُجّت قدمه وانكسرت، ولم يعد يستطيع المشي عليها فكيف بالركض بها.حتى أدى ذلك الى خذلانه وموته.
(3) باستثناء المبادرة التي تمت في عهد الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال والتي تسببت في قتله على الأرجح، كما تقول بعض المصادر. وتبين فيما بعد أنه قتل مسموماً، حين أجرى ابنه فحوصات طبية لرفاة والده بعد سنوات طويلة على وفاته.
(4) يذكر أنه جرى استفتاء شعبي تم بموجبه رفض هذا الإتفاق، مما حدى بالرئيس الكولومبي ورئيس الحركة إجراء بعض التعديلات على الإتفاق المذكور وتمريره عبر البرلمان دون استفتاء عام.
(5) بعد عودة حزب “العمال الكردستاني” إلى العمل المسلح في أيار/مايو 2015، أرسل هذا الحزب عناصره إلى الداخل التركي وتم حفر الخنادق حول وداخل بعض المدن الكردية وجرى إنشاء حواجز مسلحة وتم إعلان الحكم الذاتي من طرف واحد في خطوة طائشة من قبل الحزب المذكور، وقد جرت معارك طاحنة بين عناصر هذا الحزب والجيش التركي عدة أشهر، أدت إلى تدمير هذه المدن جزئياَ وتهجير 500 ألف مواطن من مدنهم كما افادت بذلك تقارير منظمة العفو الدولية، وكانت من أكثر المدن ضررا حي سور الذي هو المركز التاريخي لمدينة ديار بكر أكبر المدن الكردية في كردستان تركيا. هذا بالإضافة إلى مئات الضحايا وآلاف الجرحى.
(6) تم تقدير هذه الأرقام من قبل وكالات أنباء مختلفة وقبل صدور تقرير منظمة العفو الدولية.
(7) يذكر أن الزعيم عبدالله اوجلان أطلق في ربيع 2015 مبادرة سلام لإنهاء النزاع المسلح بين حركته والدولة التركية، دعا فيها حزبه لعقد مؤتمر عام لمناقشة مسألة إلقاء السلاح، لكن يبدو أن قادة هذه الحركة في جبال قنديل لم يكونوا متحمسين بنفس درجة زعيمهم لمبادرته السلمية، وقد يكون من غير المستبعد أن إيران لها شأن أيضاً في هذا الموضوع..
.