ماجد ع محمد
وفق قواميس اللغة أن الوعيُ هو “الحفظ والتقدير والفهمُ وسلامةُ الإدراك، والشخص الواعي هو الفقيهُ الحافظُ الكيِّسُ، والوعي هو الرشد واستعادة المرء لحواسه، وفي علم النفس الوَعْيُ هو شعورُ الكائنِ الحي بكل ما يحدث في نفسه وما يحيط به في العالم الخارجي” وبناءً عليه فغياب الوعي معناه أن الإنسان مجرد كائن من الكائنات التي من السهل جداً انقيادها وسوقها في مجاهل الحياة من قبل أي شخصٍ قادر على أن يقوده ويستخدمه متى ما أراد.
وههنا لا نتحدث عن غياب الوعي أو تغييبه عفو الخاطر، إنما ثمة ضرورات حياتية تدفعنا إلى مقاربة هذا الموضوع ولو بعجالة، بما أننا نودع ذكرى انتفاضة قامشلو التي انطلقت في الثاني عشر من آذار، وكذلك نتهيأ للاحتفاء بذكرى إنطلاق الثورة السورية بعد أيام، لذا فنرى بأن الوعي الجماهيري الذي كان مغيَّباً عن عمد من قبل النظام البعثي وأبواقه وجلاوزته استمر على حاله حتى ما بعد انطلاق الثورة السورية، فلم يتم العمل على استنارة الناس من قبل الطرف الآخر من المعادلة، والتأكيد على ذلك هو استمرار الناس بالانخداع بنفس الديباجات التي كان يبثها نظام العفالقة بين الناس، ودوام الانسياق الجماهيري وراء أية قصةٍ مختلقة أو خبرٍ كاذب أو حدوتة طائفية أو اثنية ملفقة، إذ أن شهر آذار يُذكّرنا بما نعاني منه على المستوى الجماهيري العام، لذا نحاول أن نقارب الحدثين كأناسٍ عايشوا وقائع المناسبتين، ونقارن بين تداعيات وتأثيرات كل من انتفاضة قامشلو والثورة السورية على سلوكيات الشارع السوري قبل وبعد، وهو ما يدفعنا دوماً إلى استحضار تجارب الآخرين من شعوب المعمورة، وفي هذا الصدد فلربما من المفيد والمحزن في الوقت ذاته أن واحدنا عندما يتصفح فصلاً أو باباً من أبواب سيكولوجيا الجماهير لغوستاف لوبون يلاحظ بأن أوصاف الحشود والتصرفات التي تحدث عنها لوبون قبل حوالي قرن تتكرر أمامه الآن، وكأن عجلة التاريخ لم تتقدم عشر خطوات للأمام لدى أناس منطقتنا مقارنةً بزمن لوبون وناسه، بل وكأن من الوقت الذي عاين وشرّح فيه لوبون أخلاقيات وسلوكيات مجتمعه، كان سكان منطقتنا في المغارة التاريخية مع أهل الكهف ماكثين.
إذ وبالرغم من أن الثورة السورية دخلت عامها السادس إلا أن الجماهير لا تزال على حالها فيما يتعلق بالوعي الجمعي، وقدرة التلاعب بمشاعرها واقتيادها، ويظهر أن كل الخراب والدمار والقتل الوحشي لم يدفع المعني بتوعية الناس لأن يدفع المواطن ليقارن الأقوال والأحداث والمواقف، أو يقارب بين الوقائع الآنية والماضية منها، ليخرج بنتيجةٍ منطقية تساهم نوعاً ما بتنوير الذات والآخرين، باعتبار أن مَن يُسمَون بقادة الرأي يطلون في الوقت الحالي من على المنابر الفضائية بدلاً من الخشبة الأرضية، حيث لا يزال بمقدورهم أن يتحكموا باتجاهات الناس كيفما تقتضي مصالحهم التظيمية أو العشائرية أو الشخصية، فيما المواطنون على حالهم في وضعية السرنمة يمضون قُدماً وفق إيقاع الشعارات والهتافات التي يسمعونها من أولئك الذين يقودونهم من خلال وسائل الإعلام، والمؤسف أن حال معظمهم راهناً هو كما جاء وصفهم قبل قرنٍ من الزمان لدى غوستاف لوبون بالتفصيل، حيث يذكر صاحب سيكولوجيا الجماهير”ما أن يتجمع عدد ما من الكائنات الحية، سواء أكان الأمر يتعلق بقطيع من الحيوانات أو بجمهور من البشر، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سلطة زعيم ما أو قائد من القادة الذين يحركون الجماهير وفق مصالحهم” باعتبار أن الحشد لا يفكر، ولا يحلل، ولا يلجأ إلى المقارنة بين الوقائع السابقة أو الحالية، ولا لدى المنساق القدرة العقلية على أن يكشف مدى صدق أو كذب ذلك الذي يقوده بالاتجاه الذي يريد، وذلك لأن الوعي الجماهيري لم ينشغل عليه لا من قِبل القائد الحالي ولا من قِبل القائد السابق، فالسابق أبقاهم مسرنمين مذهولين بشعاراته وهتافاته وبطولاته الوهمية لعقودٍ من الزمان، إلى أن ضجر من وجودهم، وبدأ بصيدهم واحداً تلو الآخر بشتى الطرق والأدوات المتوفرة لديه مع الاستعانة بمن يتمم معه مهمة القنص، وكأنه أمير ضجِرٌ راح في الغابة يمارس هواية الصيد لا أكثر، والقائد الحالي كذلك الأمر لم يهتم بالنهضة الفكرية للناس على ما يبدو، وربما لا يهمه فهم ووعي الجماهير وتنويرها وإلاّ فإنه إذا ما قام بإيقاظهم فهذا يعني بأنهم لن ينساقوا مع ما يقوله إلى الجهة التي يود توجيههم صوبها أو دفعهم باتجاهها وهم فرحين بالحقن الأيديولوجي المتواصل وبما لقُنوا به من مورفين الخطابة وبهذا الخصوص يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش ” بأن الخطابة هي الكفاءة العالية في رفع الكذب إلى مرتبة الطرب، وفي الخطابة يكون الصدق ذلة لسان”!.
وطالما أن الإنشغال على يقظة الجماهير لم يكن لا من مصلحة القائد السابق ولا ربما من مصلحة القائد الحالي، فهذا يعني بقاء المواطنين كمجرد حشود بشرية جاهزة للإنطلاق بأي اتجاهٍ كان، حيث بمقدور أي قائدٍ أن يسوقهم إلى الجبهة التي يبغيها، علماً أن لوبون يشير صراحةً إلى أن “أولئك القادة ليسوا رجال فكر، ولا يمكنهم أن يكونوا كذلك، وهم قليلو الفطنة وغير بعيدي النظر، وأنهم مجرد خطباء ماهرين لا يفكرون إلاّ بمصالحهم الشخصية” ولكن كيف للناس أن تميّز بين الصادق والكاذب منهم، طالما غاب عن العامة اكسير كشف الأكاذيب، أي عدم امتلاكهم لمفاتيح الفكر الحر، أو تسلُّحهم بالثقافة الكونية، أو تطويقهم بمشاعل الاستنارة؟ بما أن ما يضمن المصالح الشخصية لمُحركي الجماهير هو فقط الإبقاء على جهل الرعية قدر المستطاع، وإبعادها قدر الإمكان عن إعمال الفكر والعقل، بل وقد لا يسمحوا للعامة بأن تعود حتى إلى ذاتها، إنما يستمرون في تغذيتها بالخطابات السياسية الأقرب إلى العاطفة من العقل والمنطق، والمقدمة على شكل تصاريح وبيانات ولقاءات مرئية مع التمسك بذيل الشعارات، باعتبار أن الهتافات والشعارات لدى الحشود البشرية تماثل تماماً إيقاع الناي الذي يقود القطيع إلى مصادر المياه أو المراعي.
عموماً فإن مناسبة ما قلناه أعلاه هو أننا وبعد ست سنوات من عمر الثورة السورية، وحسب المعطيات الملموسة نرى بأن الشعب السوري لم يستفد ليس من تجارب الشعوب الأخرى فحسب، إنما وكذلك الأمر لم يستفد من تجاربه الخاصة أيضاً، ولعل الكثير منا لم يرتقي إلى مستوى إدراك مَن كان عليه الاستفادة من خميرة الوقائع المأساوية لتكون بمثابة العبرة، لأن ما كان قد لجأ إليه نظام البعث السوري تجاه الكرد وباقي الاثنيات والطوائف يتكرر اليوم، ولكن هذه المرة مع بعض قادة الرأي أو النشطاء المعارضين، إذ معلومٌ لدى مَن عاصر انتفاضة 2004 أن دولة البعث كانت قد كفّرت الكرد أجمعين في 2004 وقدّمتهم للشارع العربي على أنهم خونة وعملاء للغرب وأمريكا وإسرائيل، واليوم يلجأ إلى الآلية نفسها بعض قادة الرأي المحسوبين على المعارضة السورية الذين يستقبحون صورة الكردي ويصبون اللعنة عليه من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي، وذلك سواءً أكانوا ساسة أم إعلاميين أو نشطاء برزوا على حساب تأجيج الصراعات والمزاودات، باعتبار أن الذي يشتم اليوم الأسد والعلويين ليل نهار هو نفسه الذي كان يؤلِّه أسد البعث والعروبة ويتقرب من العلويين قدر المستطاع لينال رضاهم!
وبما أننا كنا يوم أمس نعيد إحياء ذكرى انتفاضة قامشلو التي انطلقت شرارتها في 12/3/2004، وبما أن الكثير من المفاهيم لا تزال على حالها، أي قبل انتفاضة قامشلو وكذلك بعد إنطلاق الثورة السورية في آذار 2011 ، لذا نعيد التأكيد على أن الوعي الثوري ـ هذا إن كان هنالك وعي ثوري حقيقي وفق التصور الماركسي ـ فيجب بل ومن المفروض أن يسبق الثورة ويمتد لما بعدها، ولكن بما أن الوعي الثوري لم يكن حاضراً أو متكاملاً لدى شريحة واسعة من الشعب السوري، لذا فإن وقائع الراهن تؤكد على مداومة خلل الماضي، وللتأكيد فإن كل التشوهات العسكرية، والمنازعات الثورية، والاحتقانات الجماهيرية، والصراعات الجارية بين المفاهيم الفكرية والسياسية والقانونية التي تجري اليوم بين أطياف الشعب السوري هي من نتاج الثقافة السابقة التي تم تغذية الشعب السوري بها، الشعب الذي يحاول اليوم أن يُغيِّر أركان وبنية النظام من غير أدنى محاولةٍ منه أو مِن لدن مَن يحركه بالعمل على تغيير ذاته، عقليته، تصوراته، آرائه بالتوازي مع التغيير المرجو في كنه وبنية النظام.
وفي الختام فليس من باب نبش الضغائن أو تحريكها أو بثها لا قدّر الله إنما للتذكير فقط نقول: بأنه في 12 آذار 2004 تم تخوين الكرد وصُنفوا من قِبل إعلام البعث العنصري برمته على أنهم عملاء للغرب وأمريكا وإسرائيل، والغريب أن معظم من ثاروا على النظام لاحقاً، يتصدرون اليوم صفوف المعارضة السورية ويحاولون بين الفينة والأخرى إسقاط تصوراتهم البعثية السابقة على الكرد من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي، مع العلم أن أغلبهم ربما كانوا من العاملين الفاعلين ضمن الماكينة البعثية الشنيعة آنذاك، هذا عدا عن طغمة وجلاوزة النظام في الوقت الحالي، إذ أن هؤلاء أنفسهم أي الكثير ممن صاروا قادة رأي لدى طيف واسع من الجماهير المعارضة للنظام، كانوا وقتها على استعدادٍ تام للتعاون مع أسد البعث والعروبة لقمع انتفاضة قامشلو والقضاء على الكرد وانتفاضتهم، إلا أن المفارقة الكبرى هي أن نفس أولئك الذين اعتبروا الكرد خونة ومندسين وعملاء لأمريكا والغرب وإسرائيل يستنجدون اليوم بالغرب الكافر وأمريكا لتخليصهم من براثن نظام الأسد، كما أنهم أنفسهم مَن تم استقبال الآلاف من أقربائهم وذويهم وعوائلهم كلاجئين في الدول الغربية الكافرة، وهم أنفسهم مَن يتم مداواة مقاتليهم في مشافي إسرائيل!!!