م. رشـيـد
البارزاني اسم تغنى به الكتاب والشعراء، حاز على احترام واعجاب الأصدقاء والأعداء، احتل مكاناً مرموقاً في سجل الأبطال والعظماء، كتب بأحرف من نور في ذاكرة المناضلين الشرفاء، تنطق به وتشهد له جبال كردستان وسهولها على حد سواء، …..
عرفته وأنا طفل، حفظت صورته وأنا صبي، أحببته وعشقت سيرته وأنا فتى يافع، فهمته واحترمته وأنا راشد يانع، افتخرت به عندما بلغت من الوعي والثقافة قسطاً، وأزددت إعجاباً وإيماناً وإلتزاماً بنهجه ومدرسته كلما تقدمت في السن، وتعمقت في البحث والاطلاع ….
أحداث ومواقف كثيرة وكثيرة تذكرني بأهمية هذا القائد الخالد، إلا أن محطات مميزة ومختارة توقفت عندها لأنها تخدم عنوان المقال:
— 1 —
في نهاية الستينات من القرن الفائت في عهد الرئيس نورالدين الأتاسي، زارنا بعض أقاربنا ومعهم أطفالهم من فوق الخط (سه رخه تي)، حينها كنت طفلاً أيضاً، ذات يوم سألني أحدهم: ما اسم رئيسكم؟ أجبته بدون تفكيرأوتردد: برزاني، ثم أحلت إليه نفس السؤال فقال: برزاني، سمع أحد الكبار حديثنا وأكد صحة جوابينا وقال: البرزاني رئيس كل الأكراد …
— 2 —
وفي نهاية السبعينات من الألفية المنصرمة، إلتقيت بگروب سياحي قادم من عدة دول آسيوية وأوربية….، أرادوا التعرف عليّ، فقدمت لهم نفسي بأني كردي، نهض أحدهم من مكانه وهو يرسم بسبابته دائرة فوق رأسه مستفهماً: بارزاني …؟؟، قلت نعم، هزّ سائح آخر رأسه معقباً الأول: كردستان..!! فهم الباقون ورددوا: أوكي .
— 3 —
مرة أخرى وفي نهاية السبعينات، وقف مديرالمدرسة أمام الاجتماع الصباحي بثانوية في مدينة القامشلي، يخطب غضباً وتوبيخاً وشتماً… قبل أن يتلو قرار العقوبة بالفصل بحق الطلبة المتغيبين عن الدوام بسبب احتفالهم بعيد نوروز، واحالة بعضهم إلى جهازالأمن، ووهو يصرخ قائلاً: كلكم برزانيون …….!!
— 4 —
عندما قرأت كتاب ضابط الأمن السوري محمد طلب هلال المعروف بعنصريته، والمشهور بتوصياته الشوفينية المقيتة ضد الكرد، والداعي لإجتثاثهم وتهجيرهم وإبادتهم ….، لاحظت أن الاتهام الأخطر والاجرام الأكبر للكرد كما يوصفهم: أنهم برزانيون …
وفعلاً نفذت السلطات السورية بعض نصائحه، فكان مشروع الحزام العربي العنصري والإحصاء الاستثنائي الجائر و…، وجعلت مقولته قاعدة يحاكمون الكرد بها على أنهم برزانيون أوعلى صلة بالبرزاني.. ومازال القانون ساري المفعول لدى محكمة أمن الدولة العليا إلى تاريخه..
— 5 —
وحينما قرأت عن الرحلة الملحمية للبارزاني الخالد ورفاقه الأشاوس، وكيف أوصلهم إلى الإتحاد السوفياتي السابق، إثر سقوط جمهورية مهاباد 1947، توقفت عند مقولته (( كردستان ــ الحركة التحررية الكردية ــ هي التي جاءت تدق أبوابكم وليس البارزاني، فحسب …)) في رده على استفسار القادة السوفييت عن سبب قدومه آنذاك ..
— 6 —
إن الكثير من يعتز بالكردايتي ويفتخر بكردستان، يزين صدر بيته بصورة للبرزاني، أو يسمي أحد أبنائه ببرزان، بالرغم من المنع والمضايقة والمعاقبة…، وبالرغم من تشويه الاسم و تحريفه إلى طرزان، وخيزران، وبدران،…. من قبل موظفي السجل المدني في القيــود والهويات …
— 7 —
وفي بداية السبعينات علمت أن البارزاني دعا طرفي الخلاف في البارتي في سوريا آنذاك (اليمين واليسار) إلى ناوبردان في كردستان العراق، سعياً لتوحيد الحزب وإنهاء حالة الانقسام الحاصل، وإنتخاب قيادة مؤقتة للحزب في مؤتمرأشرف بنفسه على جلساته…، في ذكراه كم نحتاج إليه كأكراد سوريين وفي هذا الوقت العصيب والحرج ليوحد صفوفنا وجهودنا وخطابنا وطريقنا …..
— 8 —
وفي الأول من آذار 1979، كنت مع أفراد أسرتي نتناول العشاء، والراديو مولف على محطة ال bbc البريطانية، ننتظر نشرة الأخبار، وفجأة سقط كأس الشاي من يد والدي، وتأوه بعمق و بشدة …ثم قال: الله يرحمه …. انصعقنا جميعاً … لقد كان النبأ الأسود والمؤلم وطريقة إعلانه وتلقيه بمثابة الصدمة التي أيقظتني على عظمة رجل أسطوري هو البارزاني…..
أجل ! إنه الملا مصطفى البارزاني، الشخصية التاريخية في المرحلة الصعبة وقد توجّها ببيان 11 آذار، بعد كفاح مرير ونضال دؤوب بثورات بارزان (أبرزها أيلول) والدفاع عن مهاباد الشهيدة…..، اقترن اسمه بالحركة الكردية لمدة تزيد النصف قرن… كرمز وطني وقومي، مؤسس لمدرسة نضالية فريدة، تخرج منه قادة بارزون يكملون مسيرته أمثال الرئيسين مام جلال وكاك مسعود …
كان محارباً صلباً، وسياسياً محنكاً، ومفاوضاًعنيداً، ومحاوراً ذكياً، وحكيماً مسالماً،….كان كل جهده وتفكيره منصبين في مهمة مركزية وأساسية له، وهي الاستقلال والحرية وتحقيق الديموقراطية وتوفيرالأمن والسلام والسعادة والتقدم في ربوع كردستان …
لذلك لم يترك باباً إقليميا أو دولياً إلا وطرقه … فكان العاصفة بالنسبة للصين، والجنرال الأحمر في الإتحاد السوفياتي، والثوري الديموقراطي في أمريكا وأوربا، والتحرري في هند المهاتما غاندي، والوطني العراقي في مصرعبد الناصر، والنصير لقضية فلسطين، والمدافع عن التركمان والآشوريين و……، والحامي للملاحقين من المناضلين والسياسيين والمفكرين ……
أحبوه الجميع وعرفوه، زعيماً وطنياً وقومياً وأممياً … بكل معنى الكلمة، لم لا وهو يملك الرصيد العشائري والزخم الديني والمنهج العلماني والديموقراطي، والامتداد الكردستاني والوطني، والدعم الشعبي والجماهيري… لقد نجح وبجدارة أن يجمع هؤلاء جميعاً في خندق واحد ويزجهم في المعارك ضد الدكتاتورية والشوفينية والجحوش …
حُرب كثيراً، وتعرض للإغتيال مرات عديدة، اتهموه بالتمرد والعصيان المسلح ضد الحكومة، وبالشيوعية والتآمر والعمالة بسبب علاقاته وصداقاته الكثيرة، وبالرجعية والعشائرية، ….إلخ من الإدعاءات الكاذبة والإتهامات الباطلة، والتي لم تثنيه عن عزيمته وصموده واستمراريته على خطه النضالي، الذي أثبتت الأحداث والتجارب بأنه كان صحيحاً وسليماً وناجعاً، وكل كردي سلك خلاف ذلك فشل أوتهورأوتعثر…
لقد كان يفهم اللعبة الدولية والإقليمية، ويميز خطوطها ويعرف أين يكمن مفتاح الحل للقضية الكردية، والآن تأكد صحة رأيه رؤيته من خلال قراءة ومشاهدة الواقع الكردستاني والإقليمي حالياً .
في ذكرى رحيله، نقف إجلالاً وتكريماً لملاحمه ومآثره، نستلهم من دروسه وخبراته، ثقة ً بالذات، وإيماناً بالقضية، ويقيناً بالنصر… في ذكراه نجدد العهد والوفاء لنهجه وفكره …، وسيبقى حياً خالداً في ضمائرنا وقلوبنا…..
ـــــــــــــــــ انتهت ــــــــــــــــ
1/3/2006