ابراهيم محمود
طرقت باب شاعرنا الكبير فرهاد عجمو، الساعة الحادية عشرة صباحاً من يوم الأحد، في 8-1-2017، في قامشلو إذ كنت في زيارة سريعة إليها، وكلّي شوق من نوع خاص إلى رؤيته، وكل قلبي امتلاء واحتواء بألم المشاهدة المتوقعة، وقد أجرِيت له جراحية لاستئصال ورم في دماغه، قبل أشهر، وسُمِح لي بعد تردد بالدخول إليه، في البناية المشتركة له ولأخوته، والمطلة على الطريق المؤدي إلى الحسكة، ووجه التردد: استحالة التعرّف، جرّاء وضعه الصحي، والكهرباء كانت مقطوعة، ودخلت غرفة نصف مضاءة بنور مختلس من الخارج، ونظرت إلي عينان تومضان بضراوة في زاوية الغرفة، وتلتفتان إلى المتقدم نحوه، وانذهلت حين رفع يديه وهو يشهق ببكاء عميق ومتحشرح، ويحتضنني، قم وجدتني منجرفاً في نهر المشهد الوجداني المجتاح لضفة كل وصف، وبلاغة كل لسان.
في العتمة قرأت الألم النافر من عينيه اللتين زادتا انغواراً وضيقاً على مجرى حياة جسد لم يبخل باستيلاد وتحليق روائع الشعر الكردي المغني ” أليس كذلك يا فناننا الكبير الراحل محمد شيخو؟ أليس كذلك أيها الفنان المأهول بعذوبة محتوى شعره شيدا قبل غيره، وأكثر من غيره، كما هو لقبك المعانق لفرهاد الاسم واللقب؟ ” وكما يعلٍمني شعوري الاستنفاري. عينان غارتا بعيداً، كما لو أنهما تؤذنان باختتام وشيك لحياة تعدَّت جمرة روح فرهاد، وهو في المجمل ينثر سنّي عمره بين بيته الذي لم يعبأ به، بصفته فرض على نفسه الإقامة الجبرية والمرغوبة في حياة تتجاوب مع زرافات معاني شعره، ومحله ” قطع غيار حصّادات مختلفة “، إذ تكون المفارقة الصارخة، كما لو أن الحديد والسيور الجلدية على وقع أنفاس الشاعر استحالا في وضعية استثناء إلى كلمات تتجاوز محيط المنطقة إلى حيث تكون الآذان الكردية، ومن يمتلك أهلية الأصغاء إلى سلاسة الصوت المنبثق، تأكيداً على أن أجمل الشعر وحده فيه ما يذيب الحديد ويبهجه ويحرجه وهو يخرجه من جماديته إلى عماديته.
يداه اللتان كانت ترتعشان، جسمه الذي أوشك على الانقصاف رغم جلِده في الوقوف ومرافقتي حتى الباب، برهاناً على أنه واقف حتى وهو مستلق اضطراراً في سريره الذي يئن في صمت تحت وجعه الثقيل، اختلاط السواد بالبياض في ذقنه، وجلاء حضور للبياض أكثر، كما لو أن الألم يفجّر بياضه الخاص، على حساب ليل الشاعر الطويل الطويل.
ثمة شماخ أحمر على كرسيه لإخفاء نصف رأسه من الخلف وهو حليق بسبب العملية الجراحية، شفتاه اليابستان، تلعثم لسانه، صعوبة النطق لديه، سوى أنه كان يعيش تفاعلاً وتركيزاً رغم بطش الألم وطاغوتية المرض وجنسه.
ماالذي يمكنني القيام به يا فرهادنا الشعري؟ وبيننا الكثير من شهود عيان الكلام والكتابة والمصارحة، وأنت تجوزتَّ الحرف ولم تنجب إلا نصوصاً قادرة على الطيران في فضاء الصوت المغنى وهي في المهد، كما لو أنها ذريتك. هل من خدمة؟ تحشرج صوته، وهو يحتضن يدي بيديه، ويتحدث بصعوبة: أريد أن أموت سريعاً. قالها وكررها تالياً.
يا للصاعق الكهربائي في الروح! قبلها، بدا منسوف الروح ممن كان يجب عليهم الاعتناء بمن لم يدخر جهداً في تغذية جسد الشعر الكردي بالكثير مما يبقيه نضراً وفي حداثة فالقة، وأهملوه، أهملوه، تجاهلوه، تجاهلوه، ولعلم ينتظرون رحيله السريع، ليتفقهوا كعادتهم لبعض الوقت، ولينسج كل دعي أفاق من خانة الساسة الكرد، أنه كان الأقرب إلى حزبه ومنه أكثر من سواه، وربما ينسج أكاذيب على لسانه وقد ووري الثرى، وتعيَّن باسمه مناسبة سنوية أو دورية كآخرين، ليس حباً في اسمه إطلاقاً، كحال جكرخوين، اوصمان صبري، تيريج، كلش…الخ، إنما لكي يعلم الكرد المغلوبين على أمرهم أنهم أولو أمر من توفُّوا.
الكثير من الكلام قلناه، وفي زمن قياسي، وكان الذي يتوسطنا وسط مناظرة صامتة أمضى من كل كلام، كاشفاً عن عورات تترى في القرب والبعد، بدءاً بالمقربين منه، وانتهاء بمن زعموا أنهم معنيون بأمره هنا وهناك.
وحيداً في الغرفة: القبر، طريح الفراش، وحيداً في الفراش الكفن المعجون بعرق مسامات جسد يتنفس بصعوبة، وحيداً في جسد تتجاذبه أجندة الموت والحياة، وحيداً في ساحة لا يعلمها إلا هو، وهو يلحق سيكارة بأخرى، ليشهق الشريط الذيلي والملولب والدواماتي للدخان على مدار اليوم بكامله، كما لو أنه يترجم ناراً لا تتقد إلا طي أنسجته، كما لو أن فرهادنا يريد من دخانه أن ينتشر إلى ملكوت الله بالذات، وحينها تعلَن النهاية التي يتمناها خلاصاً من ألم فاغر فاه بمساحة كامل الجسد، ومن الذين وعدوا بالمتابعة وما وفوا، ولن يفوا بوعدهم كعادتهم تاريخياً
لكم أنا على يقين، حين خرجت من عنده، وأنا وئيد الخطا، وئيد نبض القلب، وئيد الأمل بالموعود الكردي وعلى أعلى مستوى، لكم أنا على يقين، أن الكرد لا يحبّون الشعر، رغم كل المتردد عن أنه خلاف ذلك، أن ساسته الذين يصفقون للشاعر ليحموا أيديهم، ويلفتوا الأنظار إليهم، إذ لا أبخس من الشعر الكردي لبخس قيمة شاعره، ما أرخص الشاعر الكردي، جرّاء الكم المتكاثر من مرابي السياسة الكرد، ما أكثر المتشعرنين السوقيين، طالما أن ليس من ذاكرة تنفع في ذلك، لأن الثقافة الكردية لما تزل ثقافة الذاكرة” الشفاهة “، وهي ذاكرة مشوهة من الداخل كما يشتهي أولو أمر هذه السياسة القبيحة المستقبحة، كما تقول الوقائع من يمين الكردي إلى يساره، وما بينهما من معتدله، والكل سواء على وقع التضعضع الكردي.
العزيز فرهاد، أخي فرهاد، شاعرنا فرهاد، لقد كتبتك ميتاً رغم أنك مازلت تحيا، تحت وطأة ألم يشهد على أنك تموت في كل لحظة، وأنت في غرفة مقفلٌ عليك بابها، ولا يفتَح إلا اضطراراً، وربما سيقفل كلياً أو يفتَح كلياً، إلى حين ينقفل عليك باب، لا يزعجك فيه أحد، حتى جسدك، لأن روحك ستُبث حينها في جهات أرضينك وسماواتك، وليخسأ المشعوذون من ساسة الكرد.
دهوك-في 18-1-2017