الكرد والإيديولوجيات

د. محمود عباس

   على مدى التاريخ، كان الكرد ضحية أيديولوجيات دينية؛ فلسفية؛ سياسية، صدرت إلى مجتمعنا، قسرا أو تقبلوها رهبة، أو تدويرا ومرقت بليونة، سادت في البدايات بالعموميات، وتغلغلت في شعابه، فتزايد تمسك الكردي بها وعلى مراحل، فآمن بها وبصدق، أنقى من ملهمها، ودون تدوير عميق للمجالات العقلية، إلى درجة أصبح يتوسع فيها ليشبع ذاته منها، ويستورد ملحقاتها وثانوياتها، ويتعمق في خصوصياتها، لكن حتى عندما أضفى عليها تأويلاته، لم يتمكن الخلاص من نتائجها الكارثية، فعلى منصاتها تحطمت أحلامه، وضاع مستقبله، وأصطدم بسلبياتها، وكانت من إحدى أسباب تخلفه الاجتماعي والسياسي والحضاري، وعدم بلوغ غاياته. 
 والإيديولوجيات التي نبعت من أحضانه، فلسفية، أو دينية كالروحانية الزرادشتية والمانوية، أو تلك التي لم تبلغنا آثارها، وكانت تعوم بها المدارس المعروفة في التاريخ، كمدرسة حران وجنديسابور وآمد ونصيبين وأربيل والمدائن، الذين وردتهم أسمائهم على صفحات التاريخ القديم، وضاعت بعد الغزوات الإسلامية الأولى، وكانت هذه المراكز العلمية والأدبية تتبع إيديولوجيات تلاءمت وإقامة كيانات وحضارة، وأسندت بنيانها وعلى مدى قرون متتالية، مثل الحضارة الساسانية المندثرة، بعد أن هشمت معالمها، ودمرت تحت سلطان القوة، لتحل محلها الغازية، والغريبة عن ثقافة ومفاهيم المجتمعات الزراعية، والمتضاربة للذات الكردية وثقافتهم.
  ظل الصراع بين القديم والجديد مستمراً، ونتجت عنها ثورات فكرية، دينية أو فلسفية، وهي ما أدت إلى انتشار المذاهب الصوفية بين الكرد، حتى أصبحوا يعدون من أحد أكثر الشعوب تخريجا للمشايخ الصوفية، وكانت الإيديولوجيات، القديمة والحديثة، سببا في صراعات واسعة بين المجتمع الكردي ذاته، لإيمانه المطلق مع الرفض المطلق لنفس المفاهيم. والشعب الكردي لا يزال يعيش المجالات الفكرية ذاتها، فليس عبثا، وفي هذه الفترة المصيرية، بل ومنذ قرابة قرن من الزمن، تتم تصدير الأيديولوجيات الطوباوية، أو استيرادها، ترافقها المفاهيم الساذجة، والأجندات العبثية؛ مع واجبات وفروض عليهم تنفيذها، في الوقت الذي نجحت فيه الشعوب المجاورة وعلى بنية الوعي القومي بدون الاستماته على تلك الإيديولوجيات. 
 علينا ألا ننسى أننا وعلى مدى قرن كامل نواجه سلطات، ذات خبرة طويلة في العبث والتلاعب بإرادتنا، تعرف وبخباثة كيف تسخر قدرات الشعب الكردي لمصالحها، وأحد أبسط طرقها، تسخير الأحزاب الكردية، لتنهش في أحلامه وأهدافه، وتحرف نضاله، بوضع الثانويات من الأمور في مقدمة الأولويات، وتصعد من خلافاتهم، أو تسعر الاختلافات بينهم على أمور كانت فيما مضى بحكم التوافق الكردستاني:
1- تم زعزعة الإيمان بالوطن القومي الكردستاني، بين شريحة واسعة من الحركة الكردستانية، عن طريق نشر مفهوم الوطن المتكون على نهج الأممية من الماركسية إلى الإيكولوجية.
2- وتم التخطط لتغيير علم كردستان الواحد، وإدراجه ضمن صراع الأحزاب، والخلط بينها وبين رايات الأحزاب. والصراع لا يزال جاريا، وهي من أحد أسهل الأساليب التي تفاقم من الخلافات بين الكرد، وتخدم الأعداء.
3- والعبث: بالقوة الخام الكردية الهائلة، وهدرها على الخلافات الساذجة، الحزبية، تحت يافطة الاستراتيجيات والإيديولوجيات، مع التغاضي عن جغرافية كردستان السياسية والديمغرافية والطبوغرافية، والتلاعب بالمصطلحات القومية وتاريخ الأمة الكردية.
4- سذاجة الصراع على أفضلية التبعية للقوى الإقليمية واستراتيجياتها، من هيمنة الأجندات الإيرانية واللهث وراء استراتيجية الهلال الشيعي، إلى تركيا واستراتيجية الحلف السني، وبينهما غابت كردستان والنهج الكردستاني.
مفاهيم متشعبة الأطراف، يرافقها أخطبوط مرعب، قبض على أطراف عديدة من ضمن الحركة الكردستانية، إلى درجة جعل البعض يؤمنون بأن المطروح المعادي للقومية الكردية فكرة عالمية، وبإمكانها السيادة على الشرق الأوسط، بل والبعض يفرض نهجه كنظرية عالمية، ويشبهونها بالإسلام وسيادته على البشرية، وقد يكون لها صداها وإيجابياتها، فيما لو كانت على الشروط الكردستانية، حيث الاستقلالية من الإملاءات والأجندات الإقليمية. وآخرون ينادون بالديمقراطية شكلاً، وينتهكونها بأفعالهم وتعاملهم، وبين الطرفين خلافات تبتذل فيها الإيديولوجيتين، وليتهما خدمتا الحاضر والمستقبل الكردي، كما خدمت فكرة المذهب الشيعي بناء دولة الفرس، أو إيران لاحقاً، وسخرت العلمانية الكمالية في بناء الدولة الطورانية وبعدها تركيا.
  لسنا ضد ظهور أحزاب كردستانية إيديولوجية، وطنية، أو قومية مثل غيرهم من شعوب المنطقة، أو تتبع استراتيجيات إقليمية أو عالمية، وبينهم خلافات متشعبة،  وأن تكون في المنطقة الكردية أو في الأقاليم الفيدرالية أو في كردستان القادمة، أحزاب تهيمن وأخرى معارضة، حتى ولو كانت بسلطة مركزية، لكن شريطة ألا تسقط في الاستبداد، أو تفرض إملاءات المستبد، وتفضل استراتيجياته وأجنداته على الغايات الكردستانية، فخدمة الشعب الكردي أو الانحراف عنه قد يحدث بخباثة بسيطة من الأعداء، أو عن طريق نشر مفاهيم تندرج ضمن خانة الأيديولوجيات أو أفضلية الاستراتيجيات، فعلينا جميعا أن ندرك، وخاصة الأحزاب أو الأطراف الكردية المتصارعة، أن السلطات المستعمرة لكردستان لا تريد ولم ترغب يوما خيرا للشعب الكردي، ولا حتى لشعوبها، وهي ذاتها التي أوصلت المنطقة إلى الكوارث الجارية ودمرت شعوبها، ولن يتقاعسوا عن مساعدة كل فصيل يبعد الكرد عن قوميته، وعن النهج الديمقراطي، وتشويه سمعة الحركة الكردستانية في المحافل الدولية وأمام القوى الكبرى. فالحنكة تكمن في إيجاد تفاهم كردي على نقاط رئيسة، رغم الخلافات، والاتفاق على عدم التخوين أو التلاسن عند مجاراة القوى الإقليمية المفروضة التعامل معها على الحيز الاستراتيجي أو تقبل أيديولوجيته، وتسخيرها للقضية الكردستانية.
 
الولايات المتحدة الأمريكية 
mamokurda@gmail.com
26/11/2016م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…