بصدد التصرف التركي في العراق وسوريا

جان كورد
من خلال متابعة حوار الدكتور نعمان كورتولمش، نائب رئيس الوزراء التركي والناطق الرسمي باسم الحكومة التركية، مع برنامج  (بلا حدود) للسيد أحمد منصور، في يوم 19/10/2016  (أنظر الرابط أدناه)، وكذلك بعد متابعة طويلة لقناة (TRT  العربية وTRT الكوردية)  وقراءة أو سماع العديد من المدافعين عن سياسات أردوغان في المواقع الإخبارية والمقابلات السجالية، يجد المرء نفسه مضطراً للتحدث عن هذه السياسة الخاطئة ولربما الفاشلة التي تنتهجها حكومة أنقره اليوم، في كلٍ من سوريا والعراق، وهي الحكومة  التي لا تستطيع الخروج من ظل “السلطان” أردوغان، حيث هو الذي يحدد المسار وأسلوب السير والأهداف على طريق حزبه الذي يكاد يسيطر على كل مرافق الدولة والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبخاصة بعد حملات التطهير الواسعة في صفوف الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والإدارات المختلفة بذريعة  التخلص من مؤيدي وأنصار المعارض فتح الله غولان الذي يعتبر  انقلاب ال15 من سبتمبر (أيلول) مجرّد “سيناريو أردوغاني” من أجل الاستفراد بالسلطة وتحويل  البلاد من نظام جمهوري برلماني إلى نظام “سلطنة” تكون فيها كل السلطات في يد الرجل الأوّل في الدولة. 
 في البداية، عندما وصل السيد أردوغان إلى حكم البلاد، معتمداً على أصوات المتدينين السنة وغالبية أصوات الكورد، الذين عانوا الكثير على أيدي الحكومات المتتابعة من حكومات البورجوازية التركية، الطورانية، المعادية لكل طموحات الشعب الكوردي، واستبشر الكورد كما الطبقات الفقيرة في تركيا كلها خيراً، ووجدوا فيه السياسي التركي المؤهل للاقتراب من حلٍ سياسي سلمي للقضية الكوردية بسبب أنه ليس من ملاكات الأحزاب البرجوزاية الكلاسيكية التي لها موقف عدائي معروف من الكورد وكوردستان، وصرّح باستمرار أنه سيحل المشاكل مع كل جيرانه، بل مع الكورد أولاً، ولأن حزبه المنتصر في الانتخابات البرلمانية يمتلك أكثرية كبيرة يمكن بها القيام بتغييرات قانونية لصالح السلام في البلاد، ويخاصةٍ فإن ضمن تلك الأكثرية كتلة كوردية هامة من نواب المناطق الكوردية، إلاّ أن السيد أردوغان بعد أن أنتخب رئيساً للبلاد تغيّر يشكل تام، من داعٍ إلى التآخي بين الكورد والترك وسائر مكونات تركيا، إلى مهاجمٍ شرس على كل مخالفٍ ومعارضٍ لسياساته الداخلية والخارجية.
وعلى الرغم من أن رئيس وزرائه الشهير، الدكتور أحمد داوود أوغلو، قد أعلن بأن سياسته ستكون “سياسة تصفير المشاكل”، إلا أنه لم يتمكّن من الاستمرار في ظل رئيس يتصرّف بدكتاتورية ويفرض إرادته ونفسه على كل من حوله ويتجه بتركيا إلى مزيدٍ من الخلافات مع “حلف الناتو” ومع “الاتحاد الأوربي” وبعض دول المنطقة مثل “إسرائيل ومصر والعراق”، وبالنسبة إلى القضية الكوردية فقد بدأ السيد أردوغان في التراجع عن مساعيه السابقة من أجل حلٍ سلمي لها، بل على العكس مما دعا إليه في البداية فإنه يسعى منذ توليه الرئاسة إلى تصفية الوجود الكوردي المعارض له في الشارع الوطني وفي داخل البرلمان وفي الإعلام والإدارة، وزاد من حملاته العسكرية على المناطق التي فيها بؤر قتالية لحزب العمال الكوردستاني، ليس في تركيا فحسب، وإنما في العراق أيضاً، بحيث بدت سياسة أردوغان الرئيس استمراراً لسياسة أحزاب السيدة جيللر والسيدين ديميريل وأجاويد العدائية السافرة حيال الكورد وكوردستان.
صحيح أن حزب الشعوب الديموقراطية في تركيا وحزب الاتحاد الديموقراطي في سوريا لا يزالان تابعين مخلصين لقيادة حزب العمال الكوردستاني القابعة في جبل قنديل في جنوب كوردستان، وهذا يمنح فرصةً هامة للسيد أردوغان وأتباعه الذين لا يختلفون عنه مواقفاً واتجاهاً قومياً عنصرياً مرتدياً وشاحاً إسلامياً خادعاً للأكثرية الشعبية الكوردية في شمال كوردستان ولكثير من العرب، فهو يؤكد من دون حق على “إرهابية” الحزبين المذكورين، تماماً مثلماً يصر على “إرهابية” الحزب الأم، على الرغم من أنهما لم يقوما بأي عملية إرهابية، ضد الحكومة والشعب في تركيا وضد الحكومات والشعوب الأخرى، ويتصرّف السيد أردوغان حيالهما تصرّفاً خاطئاً وخارجاً عن القانون الدولي. إلا أن المشكلة هنا ليست مع هذين الحزبين أصلاً وإنما مع حزب العمال الذي أوقف القتال من طرفٍ واحد لمراتٍ عديدة، ولكن الحكومات التركية المتعاقية، يمينيةً كانت أو اشتراكية – ديموقراطية أو شبه إسلامية، لم تتمكّن من تسخير طاقاتها الكبيرة لإحلال السلام الوطني وإنما استمرت في سياسةٍ أدت بها إلى هذه المواقف المتناقضة والخاضعة لتقلبات الأمزجة في أنقره.
لقد فشل أردوغان في إدخال تركيا في الاتحاد الأوربي، على عكس ما كان يطمح فيه في تصريحاته التي أطلقها على التوالي قبل وصول حزبه إلى السلطة وبعده، وهذه ضربة قوية لنظام “السلطان” أثرت فيه تأثيراً نفسياً سلبياً للغاية، وفشل في “تصفير المشاكل” مع الجيران كما  طمح إليه رئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو الذي تركه وابتعد عنه، بل زادت المشاكل مع حكومة الدكتور حيدر العبادي في بغداد، ومع نظام الأسد، ومع مصر وإسرائيل وسواها، وفشل في اقناع العالم بأنه يحارب داعش، إذ يتساءل الناس في تركيا وخارجها عن سبب وقوف الجيش التركي بلا حراك على بعد أمتار من مدن (كرى سبي “تل أبيض” وسرى كاني “رأس العين”  وكوباني “عين العرب”) حين هاجمتها ودمرتها التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها داعش؟ بل هناك إشارات ودلائل تبيّن أن السيد أردوغان قد فتح حدود بلاده لعبور الإرهابيين إلى سوريا ومنها، وتمت مساعدة داعش في كوباني وسواها بشكل واضح كما تتهمه الأوساط الكوردية.
هذا الفشل المتعدد الوجوه أدى إلى وقوع تركيا في مطبات كان يمكن تفاديها، وازداد التصرّف سذاجةً بحادثة سفينة المساعدة التركية لأهل غزة المحاصرة، وبعدها بإسقاط طائرة سوخوي روسية، قد تعمّق جداً بحدوث محاولة الانقلاب العسكري الذي منح أردوغان فرصة تطهير صفوف الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية وسلك القضاء والتعليم والإعلام من كل المعارضين لسياسته وغير المؤيدين لمواقفه المتقلبة، حتى وصل عدد المعتقلين في تركيا إلى أكثر من 50.000 إنسان، فهل يعقل أن يكون كل هؤلاء مساهمون في عملية إنقلاب عسكري؟ 
وبالتعامل مع موضوع تحرير الموصل وشمال سوريا وكأن تركيا هي القوة التي يجب قيادة المعارك تحت أمرتها، وبدونها لا يستطيع أحد القيام بشيء، تظهر حقيقة واضحة، ربما كانت مخفية عن أعين الذين يطبلون ويزمرون لحزب العدالة والتنمية، ألا وهي أن السيد أردوغان يسعى لهدفين:
1- الظهورأمام العالم الإسلامي وأمام شعب تركيا وكأنه الرجل الذي سيعيد مجد الأمة الإسلامية وتجديد الخلافة. مع الاستمرار في الإبقاء على تركيا كعضو في حلف الناتو وعدم اليأس في محاولة إدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أن هذا السعي والبقاء في الناتو مناقضان تماماً لفكرة إعادة السلطنة العثمانية أو بناء النظام الأردوغاني المزيج.
2- استغلال الأوضاع السياسية والداخلية لكلٍ من العراق وسوريا لإحياء المشروع التركي القديم الذي يزعم أن لواء الموصل وشمال سوريا جزء من أراضي الأمة العثمانية والدولة التركية، وعلى هذا الأساس يأتي التحرك العسكري التركي بذريعة محاربة داعش، ضارباً عرض الحائط طلب الحكومة العراقية من تركيا سحب قواتها من بلادها، ويجدر بالذكر أن الميزانية السنوية التركية لا تزال تخصص (ليرة تركية) واحدة للواء الموصل بشكل رمزي، فلماذا لا يتخلى الأردوغانيون عن حلمٍ عنصري، وما حجم التركمان الذين ستدافع عنهم جيوش تركيا في العراق وسوريا؟ حتى يزعم السيد أردوغان بأن الكورد الذين يتهمهم بالإرهاب بدون حق يغيّرون من الديموغرافيا السكانية في كلٍ من العراق وسوريا؟ ولماذا لم يجد الجنود الترك لدى دخولهم مدينة جرابلس السورية جثة أي قتيلٍ داعشي إن كان قد حدث فعلاً قتال بينهم وبين التنظيم في المدينة، وأين هم الجرحى والأسرى إن وجدوا؟ 
إن التصرّف الأخرق لنظام السلطان في العراق وسوريا سيضر بتركيا مستقبلاً بدون شك، وثمة اتهام للسيد أردوغان بأنه شخصياً وراء أمر قصف المنطقة الكوردية في شمال غرب سوريا (جبل الأكراد) هذه الأيام، كما أن هجوم داعش على كركوك ليس إلآّ جزءاً من الخطة (ب) للسيد أردوغان التي صرّح بأنه سيلجأ إليها في حال منع قواته من المساهمة في “تحرير الموصل”، وهناك مخاطر من أن تهاجم القوات التركية على شرق الفرات أيضاً، وهذا يعني السعي للقضاء على نفوذ حزب الاتحاد الديموقراطي في الجزيرة وكوباني، حيث قال السيد كورتولوش في مقابلته مع السيد أحمد منصور بأن حكومة بلاده لن تسمح بقيام أي كيان كوردي بالقرب من حدودها…  والله أعلم.
‏22‏ تشرين الأول‏، 2016

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…