د. محمود عباس
صفحات قاتمة من تاريخ محرف، فبركتها السلطات الاستبدادية في مجتمعاتنا، خرجوا على أثرها شرائح غارقة في الفساد الفكري والخلقي، ولا زالوا يدرسون تلك المفاهيم وذاك التاريخ، وينشرونها ويغذون بها فكر الأطفال، خلقوا ويخلقون منهم أجيال جديدة تحمل تراكمات معرفية ملوثة، خيمت وتخيم على أثرها الأساليب الشاذة والخاطئة على تعاملهم وعلاقاتهم مع الأخرين. نهج الأنظمة والسلطات هذه لم تختلف على مدى مراحل التاريخ الماضي، عن الجارية ضمن منطقتنا، فأوصلت بشعوبنا الشرقية إلى ما هم فيه اليوم من الدمار.
عتمت بعض السلطات الاستبدادية ومعهم شريحة من المعارضة العربية، نهجها العنصري بالغطاء الوطني، ورغم قصر هذه المرحلة وتواترها، تبينت بان القوى التي غذتها وحكمت بها لم تكن أفضل من غيرها، وعليه تفاقمت العلاقات بين الشعوب في العديد من جوانبها، ومنها العلاقات العربية الكردية، والتي بوادرها ظهرت بشكل جلي من بدايات القرن الماضي.
فبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم في فترة الانتداب، والتي برزت حينها هيمنة الشريحة العروبية على مقاليد السلطات في سوريا والعراق، ومثلها في الدول الأخرى التي تستعمر كردستان، تصاعد الصراع بكل أنواعه، وتضخمت الصور النمطية الشاذة عن البعض، فلم تتجرأ أية منظمة عربية سياسية أو ثقافية أو حتى اجتماعيه على عرض فكرة إجراء حوارات فكرية أو سياسية، أو حتى فولكلورية بين الشعبين العربي والكردي، فلقد كانت السلطات العروبية لهم بالمرصاد، وكل من حاول التبوء بها من العرب أو الكرد، كان مصيره قاتماً ومؤلماً. وعليه حتى ولو كان للبعض من المثقفين العرب والسياسيين الوطنيين رغبة في ذلك كانت تعدم من قبل المربعات الأمنية وهي في مهدها، وكانت العواقب وخيمة، بلغت في فترات حدود تخوينهم، وحكموا على أسسها.
بالإمكان اعتبار، السنتين الأوليتين من بعد قيام الثورة، أي بدءً من مرحلة نهوض شباب الشرق بالثورات، والموئدة بيد السلطات والتيارات الإسلامية الليبرالية أو الراديكالية التكفيرية، قمة المراحل التي بلغتها نزعة فتح الحوارات بين الشعبين العربي والكردي، ولكن وللأسف بسبب الطمس الذي ألحقت بالشريحة الشبابية الثورية، لم تبلغ المحاولات غايتها، وما حدث بعدهم لا ترقى إلى سوية حل القضايا العالقة بين الشعبين، لأن الطرف العروبي ألغى ويلغي مسبقاً أحد أهم بنود الخلاف بين الطرفين من طاولة الحوارات، ولا يقبلون بعرض القضية الكردية بأعلى من قضية المواطنة، ويرفضون مسبقاً الطرح الكردي لقضيته، كشعب يعيش على أرضه التاريخية، وأن جغرافيته ضم إلى جغرافية الدولة السورية الوليدة باتفاقية دول استعمارية مرفوضة من الطرفين.
وعلى صعيد السلطة، حدثت ولأول مرة في تاريخ سوريا بأن طلب بشار الأسد، في إطار أوسع من التعامل الأمني مع الكرد، وعلى سوية الحيز السياسي، وفي بداية الثورة، الاجتماع بالأحزاب الكردية، تحت صيغة البحث في قضيتهم، لكن الطرف الكردي رفض الانصياع لأنهم وبحكم الخبرة توقعوا بأنها ستكون إملاءات وليست حوارات، وأدركوا أن العرض لن يتجاوز سوية حقوق المواطنة.
أما على صعيد المعارضة، خلال السنوات الأربع الماضية، فقد حدثت اجتماعات سياسية، وحوارات ثقافية، ظهرت على خلفية تصاعد الاسم الكردي في المحافل الدولية وعلى ساحة المنطقة، وتوسعت بعد ظهور الطرح الكردي، للفيدرالية وبنظام لا مركزي لسوريا القادمة، ومعظم الحوارات كانت على أطراف المؤتمرات المنعقدة حول القضية السورية، وللأسف لم تخلى اجتماع أو مؤتمر من التناحرات، والتهجم المباشر على الشعب الكردي عامة، وبرزت فيها أو على مسوداتها أو بياناتها الختامية نفحات التاريخ الماضي، وهيمنت عل الأجواء منطق ونزعة السيادة والموالي المعروفة، بدءً من مؤتمر يالطا، ومرورا بمؤتمرات القاهرة، واجتماعات استانبول وانتهاءً بمؤتمر الرياض، إلى جانب المؤتمرات الاستثنائية التي جرت في أوروبا أو ضمن تركيا، أو التي أقامتها بعض المراكز الاستراتيجية الأوروبية أو الأمريكي. تبينت على أثرها بان الشريحة السياسية العربية وقسم واسع من الثقافية، وأغلبية الشريحة التقدمية، أضعف من تتمكن من فرض النهج الوطني، وهذا الضعف تعكس ظاهرة شاذة ضمن المجتمع العربي، الذي تربى تحت سيادة السلطات الاستبدادية العروبية الشمولية، والتي لم تنشر سوى تاريخ غارق بالتلفيق والأوبئة الفكرية، وأغلبية المجتمع العربي لا يزال في معظمه أسير تلك الثقافة، حتى اللحظة. فرغم كل ما قدمه الكرد سابقا من شعارات وطنية، كالأخوة العربية الكردية، لم تجدي نفعاً، حتى ولو كانت مبنية على منطق الضعف، لكنها كانت تحتضن الروح الوطنية، وكان بالإمكان تنميتها وتوسيع مفاهيمها لخلق التقارب على أسسها، فيما لو ملكت الحركات الثقافية والسياسية العربية الوطنية أو التقدمية الإمكانيات الذاتية، والقدرة على تجاوز صورهم النمطية عن الكرد، كالكرد الانفصالي. وللأسف هذه واحدة من أبشع العيوب التي لا تنفصل عن أي حوار جرى بين الكرد والعرب، والتي قتلت أغلبية المحاولات في مهدها.
ومن الغريب، أن أغلبية القوى المعارضة العربية السورية، السياسية أو العسكرية، تعكس نفس نهج السلطات الاستبدادية السابقة، وتكاد تعدم الأمل ببلوغ أية نتيجة إيجابية من الحوارات التي قد تحصل، خاصة وهي لا تتوانى من إبراز النمط الفكري ذاته، والتي يظهرها شخصيات معروفة بينهم.
القيام بخطوات إيجابية، وإنقاذ المفاهيم الوطنية من الدمار، تبدأ بدعم الإعلانات والرسائل المطالبة بفتح الحوارات، وإظهارها إلى الواقع العملي، وبها يمكن إزاحة الغطاء عن الكثير من سلبيات الماضي، وتمهيد الطريق لسيادة الإيجابيات، ولا شك بأن الطرفان سيلاقيان الكثير من المصاعب. وللخلاص من هذه المعضلة، لابد لها من تجاوز التاريخ المفبرك المأزوم، وخلق حوارات جدية، وعلى سوية الاعتراف بالكرد وقضيتهم ضمن سوريا، كشعب يعيش على أرضه التاريخية، وعدم استخدام الأساليب الحديثة في محاربة الكرد كصيغة الاعتراف بالكرد في حيز المواطنة! وحل قضيتهم في المحاكم! فسوريا إذا أرادوها أن تكون وطن الجميع، يجب هدم النظام السابق بمفاهيمه، وتحرير الدستور من الصيغة العروبية السابقة أو التكفيرية السنية التي يطمحون إليها، ليكون للكرد والشعوب الأخرى فيه وجودا كالوجود العربي، وللأديان الأخرى اعتراف، كالإسلام والمذهب السني، فبدونها سوريا ستظل تحت سيادة سلطات استبدادية، والصراع سيستمر، والدمار الفكري سيظل مهيمنا، والحديث عن أية حوارات سيكون خداع للذات قبل الأخرين.
مع كل هذا فالأمل بقادم أفضل لم يغب بعد عن الوعي البشري، ولا بد وأن يكون بعد هذا الدمار للمجتمع السوري، والأخلاقي للسلطات، نهوض حضاري للمنطقة التي كانت يوما مهد الحضارات.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/8/2016م