الاتجاهات الأربعة في المسيرة الكوردية السورية

جان كورد
المسيرة الكوردية السياسية في سوريا في هذه المرحلة لا تزال قومية كلاسيكية، مطالبة بحقوق قومية – سياسية وثقافية، ضمن حدود الدولة السورية، ذات السيادة التامة على أراضيها، على الرغم من تعرضها المستمر منذ نشوء الحركة الوطنية الكوردية في خمسينيات القرن الماضي للعواصف الشديدة التي عصفت بها أثناء مرحلة الحرب الباردة، وفي مرحلة ظهور ما سمي ب”نظام العالم الجديد”. ومن أهم تلك العواصف: الشيوعية السوفيتية من خلال نافذة الحزب الشيوعي السوري الذي كان يرأسه الكوردي خالد بكداش، والمد الإسلامي القوي المنافس للشيوعية من خلال الاحتكاك الكبير والمتواصل بين الكورد والعرب السنة في المدن السورية
هذا المد الذي كان اثنان من الدعاة السوريين الكبار له من الكورد، محمد سعيد رمضان البوطي وسعيد حوى، وكذلك تيار الاضمحلال اللا قومي الأممي للسيد عبد الله أوجالان، رئيس حزب العمال الكوردستاني، الذي هرب بعد الانقلاب العسكري في تركيا (1980)  والتجأ إلى لبنان وسوريا ومن ثم تم اختطافه في كينيا وتسليمه لتركيا في نهاية القرن الماضي، حيث انقلب من زعيم قومي كوردي انفصالي، يدعو فجأة إلى نبذ الفكر “القومي الرجعي” ورفض “الدولة الكوردية” والمطالبة بإقامة “منظومة مجتمعية كونفدرالية في الشرق الأوسط” بعد أن خاض حزبه حرباً مريرة لسنواتٍ طويلة من أجل “حرية واستقلال الكورد وكوردستان”.
هذه المسيرة السياسية الكوردية الطويلة العمر حافظت على وجودها وديمومتها رغم كل سياسات القمع والقهر والاقصاء التي مارستها الحكومات الشوفينية في سوريا ضد الشعب الكوردي وحراكه السياسي- الثقافي، وبخاصة بعد اغتصاب حزب البعث العربي الاشتراكي حكم البلاد السورية في عام 1963 م وهو يحمل شعارات قومية ولا يجد حرجاً في صهر القوميات الأخيرة ويشجع على إعلامٍ ونشر ثقافة تمجد بالتاريخ العربي والفتوحات الإسلامية وتحلم باستعادة اسبانيا وتنشد “وطني امتد وصار كبير… وبكرا أكبر رح يصير” ويضع الكورد وطموحاتهم في ذات الدرجة التي عليها وجود وطموحات الشعب الإسرائيلي، بل يعتبر منح الكورد في سوريا خطوةً نحو إقامة “إسرائيل ثانية!”. وقد سعى هذا الحزب العربي عملياً إلى تغيير السمة السكانية لمنطقة الجزيرة بإقامة ما سمي ب”مزارع الدولة”، أي إقامة أكثر من (40) مستوطنة عربية تم جلب المواطنين العرب إليها قسراً من حوض الفرات (عرب الغمر)، وذلك تطبيقاً لأفكار ضابط أمن سياسي سوري، يدعى محمد طلب هلال، الذي كتب دراسةً غريبة على غرار ما كان النازيون الألمان يكتبونه عن التواجد القومي للشعوب في أوروبا، ضمنها (12) نقطة تستهدف صهر الشعب الكوردي في سوريا عن طريق ممارسة سياسات وتربوية وثقافية وسط تعتيم إعلامي شديد، أقل ما يقال عنها بأنها لا أخلاقية ولا إنسانية وتتعارض الشرائع الدينية والدولية، كما نفذ البعثيون مشروع (الإحصاء الاستثنائي) في الجزيرة، لسحب الجنسية السورية عن مئات الألوف من المواطنين الكورد، بطريقة اعتباطية وغير دستورية،  واعترف نظام بشار الأسد بعد وصوله إلى الحكم بأنه كان مشروعاً خاطئاً ووعد بإلغائه وتصحيحه، من دون أي تعويض للكورد الذين تم الإضرار بهم في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية من جراء تحويلهم بموجب ذلك الإحصاء إلى أناسٍ بلا حقوق. 
بعد اندلاع الثورة السورية المجيدة، نتيجة السياسة الدموية المدمرة التي مارسها نظام حافظ الأسد وحزب البعث في عموم سوريا، وسار عليها نجله بشار الأسد من بعده، حدثت تطورات هامة في مجال الحياة السورية بشكل عام وفي سياسة الأحزاب والحركات السورية عموماً، فمنها من ارتمى في أحضان الدول المجاورة لسوريا، ومنها تركيا العضو في حلف الناتو والتي تطمح وتسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت ذاته تعمل على استعادة موقعها الريادي في العالم الإسلامي، ومنها من تكاتف مع القوى الظلامية في ساحات الحرب ضد نظام الأسد المتهور، ومنها من تحالف مع حركة “الإخوان المسلمين” وسعى لإقامة “ائتلاف” سياسي واسع، يضم مختلف القوى العلمانية والإسلامية “المعتدلة” والحركة الوطنية الكوردية المطالبة ببناء نظام علماني فيدرالي يضمن لمختلف المكونات القومية والدينية حقوقها ضمن إطار سوريا حديثة وقادرة على استيعاب سائر اتجاهات السياسة والفكر مستقبلاً. 
وفي خضم هذا التطور الهائل، وفي ظل التحارب المسلح على الساحة السورية ونمو قوة كوردية مسلحة كما في المناطق الأخرى للبلاد، فإن مسيرة الكورد قد تشعبت بحيث ظهرت فيها اتجاهات أربعة واضحة للعيان، ألا وهي: 
1-الاتجاه اللاقومي الذي يسير فيه حزب الاتحاد الديموقراطي العامل على تطبيق وتنفيذ أفكار زعيمه المعتقل عبد الله أوجالان الخيالية عن “كانتونات ذاتية الإدارة” في سوريا التي تعيش في مستنقع دموي، وكأن الحزب يناضل في سويسرا المتقدمة ثقافياً وسياسياً وإدارياً عن سوريا بعقودٍ بل قرونٍ من الزمن الحضاري، ولكنه رغم انتهاجه هذه السياسة لا يزال يستخدم مصطلح “غرب كوردستان!”، وزعيمه قد رفض وجود جزءٍ من كوردستان في سوريا، منذ سنواتٍ عديدة، في مقابلةٍ له مع نبيل الملحم (أنظر: سبعة أيام مع القائد آبو). 
2-الاتجاه الوطني السوري الذي يخضع لهيمنة “الإخوان المسلمين” وحلفائهم الذين لا ينكرون لفظ “الحقوق القومية!” للشعب الكوردي في سوريا، إلا أن معظمهم يرفضون منح الكورد “فيدرالية” أو “حكماً ذاتياً، وبخاصة فإن هذا الاتجاه أو (الائتلاف) يسير وفق احداثيات موضوعة له من قبل الحكومة التركية الرافضة لأي حق قومي ملموس للشعب الكوردي، حتى على سطح المريخ حسب التصريحات الرسمية للقادة الأتراك وممارساتهم على أرض الواقع اليومي، وخاصة لدى مراقبة تحركهم العسكري صوب الداخل السوري، من دون أي إذن من قبل مجلس الأمن الدولي أو أي دعوة رسمية معلنة من طرف نظام الأسد.
3-الاتجاه الدمشقي في الحركة الكوردية، وهو اتجاه عريق وله وجود مستمر، ويدعو إلى إقامة علاقة صريحة على أرض “الواقع الجيوبوليتيكي!” الذي “يؤكد” على أن “حل القضية الكوردية في دمشق!” وليس في أي مكانٍ آخر من العالم، وعلى هذا الأساس، فإن سياسات وممارسات هذا الاتجاه الذي يضم أحزاباً وقوى وشخصياتٍ من الاتجاهين الأول والثاني أيضاً قائمة ومبنية على هذه الفكرة، ويتذرّع الدعاة لهذا الاتجاه بأن نظام الأسد باقٍ لا يزول لأسباب تتعلّق بجوهر الصراع الديني والسياسي في المنطقة، من دون تقديم أي ضمان أو أمل في أن يعترف نظام الأسد بقضية الشعب الكوردي القومية ويمنحه حقه القومي حتى في أبسط صوره لأنه محكوم أيضاً بإحداثيات الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة برمتها، في مواجهة الاستراتيجية التركية المدعومة من قبل بعض الدول العربية الهامة.
4-الاتجاه الكوردستاني، الذي ازداد حيويةً ونمواً في السنوات الأخيرة، وصارت له قوة عسكرية مهمة أيضاً، على الرغم من تواجدها حتى الآن في إقليم جنوب كوردستان، وليس في غربها، لأسبابٍ تتعلق بمعاداة حزب الاتحاد الديموقراطي له، الرافض لمجيء هؤلاء المقاتلين الكورد إلى مواطنهم للقيام بواجب الدفاع عنها، والمهدد بنشوب قتالٍ معها في حال اجتيازها الحدود بين إقليم جنوب كوردستان وغربها. هذا الاتجاه يؤكّد على أن لا مستقبل للشعب الكوردي في سوريا بعد هذه الحرب الشرسة، وبخاصة فإن نزعة عنصرية ضد شعبنا تسود على فئات واسعة من المعارضة السورية، القومية المشبعة بالأفكار الشوفينية والإسلامية الرافضة للقومية أصلاً. كما أن اتفاقية سايكس –  بيكو المنعقدة في عام 1916 قد مرّ عليها مائة عام وفقدت أهميتها وبريقها ولا يعترف بها سوى النظام ومن على شاكلته في المعارضة، ثم إن الحدود بين إقليم جنوب كوردستان وغربها قد صارت بلا معنى ولا قيمة في ظل التطورات الكبيرة في شمال سوريا. ويؤمن هذا الاتجاه بأن ضم المنطقة الكوردية شرق نهر الفرات ” أي حيث الأغلبية الكوردية تعيش منذ عهد الميتانيين ومن قبل مجيء العرب إلى المنطقة بقرونٍ عديدة” إلى إقليم جنوب كوردستان، فإن المنطقة ستتمكن من اللحاق بمسيرة الإنجازات التي حققها الإقليم بسرعة، وهذا ما سيساعد شعبنا الكوردي والأٌقليات التي تعيش بينه تجاوز المحن التي جلبتها الحرب السورية له ولها. 
تبقى هناك مشاكل يصعب إيجاد حلول لها من قبل هذا الاتجاه الكوردستاني، ألا وهي:
-كيف يمكن حل مشكلة المستوطنات العربية التي أقامها النظام الأسدي – البعثي رغماً عن الكورد في الجزيرة، أي كيفية حل “الحزام العربي” الذي بطول مئات الكيلومترات وعرض ما يقل عن (20) كم بمحاذاة الحدود السورية – التركية – العراقية، ويضم الألوف من العوائل العربية، والذي كان الهدف من اقامته الفصل التام ديموغرافياً بين الكورد في هذه الأجزاء الثلاث من وطنهم كوردستان، وفق سياسة عنصرية متفق عليها مع نظام صدام حسين في العراق والحكومة التركية في عهد حافظ الأسد ورفاقه البعثيين من قبله.
-كيف سيتم التعامل مع منطقة جبل الأكراد التي مركزها عفرين وتضم 365 قرية كوردية وهي منطقة غنية بالثروات الزراعية ولكنها تبعد مئات الكيلومترات عن شرقي الفرات، فهل سيتم التخلي عنها لنظام الحكم في دمشق أم للحكومة التركية لتضمها مثل لواء الإسكندرون إلى بلادها، أم سيترك أمرها للمستقبل في سوريا حرة ديموقراطية فيدرالية ومؤمنة بحق جميع سكانها في الوطن المشترك أو “النهائي!!!” على حد وصف بعض السياسيين السوريين الأعزاء على قلوبنا. بل ماذا يقول أصحاب هذا الاتجاه بصدد “جبل الأكراد” الآخر الذي يضم عشرات القرى الكوردية بالقرب من اللاذقية، وكيف سيتم التعامل مع الكورد المتواجدين منذ قرون أو عقود في المدن السورية، ومنها حلب وحماه وحمص ودمشق؟
-كيف سيتم إبعاد الأخطار الخارجية عن شعبنا، وهي أخطار الغزو التركي لشمال سوريا، ذي الهدف الواضح والجلي في منع قيام أي كيان قومي كوردي، وخطر التشييع الإيراني في سوريا، وهو خطر على القوميتين العربية والكوردية بالدرجة الأولى وله عداء صارخ للكورد يعود إلى زمن قضاء السلطان صلاح الدين الأيوبي (الكوردي) على الدولة الفاطمية في مصر، وخطر النظام الأسدي الذي سيقضي على أي نشاط قومي كوردي إرضاءً لإيران ولتركيا وكسباً لمودتهما في حال قدرته على إلحاق الأذى بالكورد، وخطر التنظيمات الإرهابية التي تقاد وتسيس من قبل قوى إقليمية تعتبر الكورد أخطر من إسرائيل ولا تصنفهم كمسلمين رغم أن غالبية الكورد العظمى مسلمون سنة. 
لذا، فإن من الضروري للحركة السياسية – الثقافية الكوردية السورية، قبل ركوب المخاطر، أن يتلاقوا في مؤتمر وطني كوردستاني مصغّر، يضم رؤساء والمفكرين والمثقفين الكبار وبعض الكوادر السياسية والثقافية المتقدمة وممثلي الشباب والمرأة، وذلك للحوار والمناقشة حول مستقبل الكورد في سوريا، ومن ثم وضع خطة استراتيجية واضحة يمكن للجميع الالتزام بها والشروع في العمل المشترك، بعيداً عن الخصومات الحزبية والنعرات التنظيمية والشخصية وعن إظهار العضلات، لتنفيذ الخطة التي يجب تحديد مراحلها وسقفها وأسسها للشعب الكوردي.
9 ايلول 2016

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…