محمد قاسم ” ابن الجزيرة “
ديرك 2/9/2016
منذ أعلن عن نظرية الفوضى الخلاقة فإن ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، هو أحداث تديرها قوى كبرى (أمريكا تحديدا) وانسجاما مع النظرية نفسها. فقد زرعت الفوضى في المنطقة؛ باستثمار:
1- استياء شعوب الدول فيها.
2- أخطاء أنظمة الحكم التي دفعت الشعوب إلى أن تتوافق أنشطتها السلمية/الاحتجاجية مع طموحات-بل أطماع-القوى الكبرى.
فجاءت الأمور في الاتجاهين لمصلحتها:
– اتجاه توافق الشعوب مع أطروحات تمثل بيئة مثمرة لما تريد.
– واتجاه ارتماء الأنظمة في أحضانها حماية لنفسها.
وهذا بالضبط ما تريده هذه القوى الكبرى، أن يصبح الطرفان (الأنظمة والشعوب) في حالة تضطر معها إلى الالتجاء اليها.
ومن المؤسف، فإن الشعوب لا يمكنها أن تعود إلى حضن أنظمة لقيت منها الأمرّين، وتتوقّع مرارة أشد في حال التراجع، والعودة عن نهوضها؛ كاحتجاج سلمي، أو ثورة مسلحة –اضطرتها اليها الأنظمة بمنهج الرغبة في التحكم العسكري، وهو منهج اعتمدتها بالتحكم الأمني (الاستخباراتي).
ووجدت القوى الكبرى ظروفا ملائمة لتحقيق ما أعلنه منظروها، مفهوم “الفوضى الخلاقة”.
والمهم هنا، أن كل ما يجري إنما يجري على أراض غير أراضيها، وينال الموت والقتل والتدمير وروح الأحقاد شعوبا ليست شعوبها… وتنتشر حالة فوضى في منطقة ليست منطقتها عموما. وفي ذلك مكاسب لها في جوانب عدة:
1- تدمير البنى التحتية الاقتصادية.
2- خلخلة المنظومة الثقافية المتراكمة خلال قرون، وعناصر قيمية/اجتماعية وثقافية فيها، تعين على تدارك الانفلات، أو التصادم بطريقة ما. وان كانت عموما كمعايير ومفاهيم … غير كفوءة بسبب خلل في الثقافة ومكوناتها ومنها الفهم والممارسة الملتبسة للدين (الإسلامي خاصة).
3- دفع النظم الفاسدة مذ وجودها غير الطبيعي، إلى المزيد من الفساد عبر إجراءات وسلوكيات منفلتة، لا تراعي الروح النضالية الأصيلة، ولا نهجا سلسا في تشكيل المنظومة القانونية، لغياب الحرية والوعي… مما يجعل حالة الاستبداد، هي المهيمنة في العلاقة بين النظم والشعوب–بغض النظر عن التوصيفات والتسميات والشعارات … وهي جميعا، لا تنبع من واقع ما عليه الشعوب ثقافيا وسلوكيا. مما يجعل المنظومة الثقافية السائدة والتي تتبعها النظم-وتنعكس على الشعوب أيضا-هي منظومة التزييف والدجل والارتجال …الخ.
4- تجريب الأسلحة الجديدة التي ابتكرتها، أو القديمة التي طوّرتها في حروب تفتعلها من خلال الحال المتخلفة للشعوب (ونمو نسبة طفولية مرتزقة جاهزة للبيع بأثمان أغلى وأحيانا اضطرارا) وسوء العلاقة مع أنظمة تستبد في الحكم عليها.
يوفر هذا الواقع الذي اكتفينا بملامح رئيسة منه، كل ما تتنماه القوى الكبرى (أمريكا خاصة) من ظروف تقتات عليها بهدوء، وتستثمر صناعاتها وما تنتج من سلع في أسواقه، تحت مسميات البناء وإعادة الإعمار، والقروض الدولية، والمشاريع الإنمائية …الخ. وتنشيط تجارتها وفقا لقواعدها وشروطها هي، فضلا عن الاستفادة من القوى المهاجرة المؤهلة في كثير منها لاستخدامها في مصانعها، ومعاملها ومختلف مؤسساتها الإنتاجية أو الخدمية … سواء في بلدانها أم في بلدان المهاجرين أنفسهم في صورة ما، وهي يد عاملة رخيصة قياسا لليد العاملة لمواطنيها.
مجمل القول إنها تتلاعب بالمجتمعات المتخلفة شعوبا ونظما، لتدفعها في اتجاه ترسمها هي لها. مستغلة الخلل في الحياة السياسية بشكل خاص؛ ومنها المنظومة المعرفية والمفاهيمية… فيها، والتي توفر مناخا دائما للاختلافات والصراعات التي ترتقي أحيانا إلى الإلغاء والإبادة. فتبقى الجروح دوما نازفة، وتبقى النوايا دائما في مساحة من عدم الثقة في جوانب، والرغبة في التغيير وتحقيق أمنيات قد تكون حقوقا مشروعة، وقد تكون منافذ للهروب من واقع مرير.
في كل الأحوال، هناك ميل نحو الهروب -في صورة ما -ومن الهروب ما يدفع اليه اليأس، أو الألم الشديد، فيتحول إلى مواجهة وصراع يتفاقم باستمرار.
فـ”العنف يؤدي إلى العنف”. وهذه خلاصة انتبه اليها أحد الفلاسفة-كانت-في مشروعه عن السلام، بعد ما لاحظ معاناة البشر في حروب أوروبية مستمرة حتى منتصف القرن العشرين. وقد تم تأسيس عصبة الأمم واستبدلت بالأمم المتحدة.
يبدو أن تطور التقنية يدفع الإنسان نحو نهايات غير محمودة. وهذا ما أشار أليه ألكسيس كاريل في مقدمة كتابه “الإنسان ذلك المجهول ” عندما قال:
((لست فيلسوفا ولكني رجل علم فقط، قضيت الشطر الأكبر من حياتي في المعمل أدرس الكائنات الحية والشطر الباقي في العالم الفسيح أراقب بني الإنسان وأحاول أن افهمهم.
إن الإنسان يعلو كل شيء في الدنيا فإذا انحط وتدهور. فان جمال الحضارة بل حتى عظمة الدنيا المادية لن تلبث أن تزول وتتلاشى)).
وينتهي إلى خلاصة أن أسبقية العلم لقدرة الإنسان على ضبط مساره، من الأخطار التي ينبغي التنبه اليها فالإنسان، اخترع العلم. لكنه لا يسيطر على “جماله الطاغي”. والعلم نفسه أعمى لا ينضبط بمعايير خلقية.