يقظة الخادم المجاني

ماجد ع محمد
“شكراً للأشواك، فقد علمتني الكثير”
طاغور
ليس من باب معاداة الإحسان نقول بأن الذي يعمل أو يقاتل مجاناً لأجل غيره ليس فقط لن يجد من يشكره على ما يقوم به، إنما من غير المستغرب أيضاً بأن يرمي الكل مع الزمن بتبعات إخفاقاتهم ومقابحهم على مَن عرض عليهم أوكازيونه النضالي، وفوقها قد يشكون منه كما يشكو النفر الراكبُ ظهر الإبل من غير سرج، ولا شك لم يعد خافياً على أحد ملاحظة الخدمات المجانية التي يقدمها حزب الاتحاد الديمقراطي لأكثر من جهة في سوريا عدا الكرد. 
وفيما يتعلق بحرب الأجنحة العسكرية للاتحاد الديمقراطي مع داعش فالجماعة حاولوا مراراً وبشتى السبل الإثبات للعالم بأنهم يحمون المدنيين من التنظيم الارهابي ولكن عبثاً كانت معظم محاولاتهم تلك، وربما لم يصلوا إلى الاقتناع بعد بفضل الوهم الذي يتغذون منه، بأن جهودهم في ذلك المضمار دائماً وأبداً ستذهب أدراج الرياح، وربما كان عليهم أن يدركوا بأن حكم داعش ومَن هم أسوأ من ذلك التنظيم المتطرف يبقى بنظر المشحون بتراكمات التاريخ أرحم بكثير من أية جهة غير دينية سواءً كردية كانت أم محسوبة على الكرد كما هو الحال بالنسبة لحزب الاتحاد الديمقراطي.
إذ وعقب التقرير التلفزيوني الذي بثته بي بي سي من خلال مراسلها فراس الكيلاني عن تقدم قوات سوريا الديمقراطية داخل منبج بريف حلب الشرقي، في منتصف الشهر الفائت والتقاط المراسل لبعض اللقطات من جبهات القتال المطلة على تنظيم داعش، وتقديمه تقريره ذاك بصفة حيادية بعيداً عن تبشيع هذا أو التطبيل لذاك بالرغم من دموية الدواعش، سرعان ما ظهر أحد الاعلاميين الذين عملوا يوماً مع نفس المؤسسة التي يعمل معها الكيلاني أي الـ: بي بي سي وهو أحمد كامل قائلاً: “بصمت وهدوء ودون اعتراض من أحد، تقوم الطائرات الأمريكية وإرهابيو حزب العمال الكردي وعملاؤهم، بتدمير مدينة “منبج” السورية، وإفراغها من أهلها (300 ألف عربي مسلم سني) إما بالتهجير، وإما بالتجويع، وإما بالقتل، في يومين فقط قتل مئات المدنيين، والمبرر تحرير المدينة من داعش” فهذا هو موقف ورأي إعلامي عمل طويلاً مع المؤسسات الاعلامية الغربية ولم يعمل مع أورينت أو وكالة أعماق التابعة للجزيرة! وهو ما يبدو جلياً بأن المؤسسات والثقافة الغربية غير قادرة على تغيير الآراء الكامنة للشرقيين العاملين معها أو بأمرتها، بالرغم من أنه كانت قد أجريت عشرات المقابلات الميدانية مع السكان المدنيين في منبج وهم يقولون عكس ما يبوح به السيد أحمد كامل، إلا أن المخزون السابق للرجل والصور الذهنية المتشكلة لديه من عشرات السنين لن تقدر شمس حقيقتها على اختراق جدران أدلجته بسهولة، ومن المؤكد أن الرجل لا يجب مطالبته بأن يكون غاندي ولكن على الأقل كان عليه أن يتحلى ببعض الموضوعية باعتباره عَمِلَ مع أعرق المؤسسات الغربية، فكان مراسل البي بي سي في سوريا، ذلك بالنسبة لمِن شغل منصب المستشار الاعلامي لأهم مؤسسة من مؤسسات المعارضة السورية أي الائتلاف، أما بالنسبة لمن شتموا الرجل على ما تفوه به، فكان حريٌ بهم أن يشتموا مَن يضحي مجاناً بالفتيان والفتيات الكرد كرمى مشاريع وهمية لا قيمة لها لا عند الصديق ولا لدى العدو، وذلك في مناطق لا تعنيهم وربما ليس في نية سكانها شكرهم يوماً على ما قاموا به، أي أنصار الحزب الكافرُ بنظرهم، ذلك الحزب الذي حرَّمهم من التنعم في فضاء الخلافة الاسلامية مع اخوة الايمان الدواعش! 
والأغرب من ذلك أنه حتى ذلك الفصيل الكردي المناهض لسياسة الاتحاد الديمقراطي أي المجلس الوطني الكردي هو بنظر بعض قوى المعارضة مثيلٌ للاتحاد الديمقراطي، وربما متممٌ له رغم الخلاف الأيديولوجي العميق بينهم، وتجلى ذلك من خلال ما أعلنه يوم الاثنين التحالف العربي التركماني للقبائل والعشائر في سوريا في اجتماعهم بداية الاسبوع بمدينة اورفا التركية حيث جاء في بيانهم صراحة بأنهم “يرفضون رفضاً قاطعا ما طرحه المجلس الوطني الكرُدي فيما يخص دستور غربي كرُدستان”، لأنه حسب بيانهم “لا يمثل رأي الشعب السوري ولا مكوناته من عرب وتركمان وآشوريين وبقية فئات الشعب”، متهمين في الوقت عينه المجلس الوطني الكردي على “أنه أضحى ناطقاً رسمياً لنوايا عصابة PYD حسب ما جاء في بيانهم”.
إذن فباعتبار أن ما مِن قوى سورية موالية كانت أم معارضة ترى أي خيرٍ في كل ما يقوم به الاتحاد الديمقراطي ووحداته المسلحة في حربه خارج المناطق الكردية مع داعش، فلماذا على هذا الحزب يا ترى أن يقدم الشباب الكردي كقرابين مجانية أمام نعالِ أناسٍ لا يقدرون تلك الضحايا بأي شكلٍ من الأشكال؟ ولعل المشهد الغني بالخذلان يقود الناظر إلى تلك اللوحة الفيزيقية لبعض الأجساد التي يبدو فيها المفعول به في حالة أشبه ما تكون بالوضعية المازوخية للمناضل، حتى يقول المراقبُ في سره: بأن عملك في مدِّ ذراع المساعدة نحو مَن وقعَ أمامك ورحتَ على عجلٍ تهمُ برفعه، لا مراءَ هو عملٌ جديرٌ بمقامك كشخصٍ مجبولٍ بماء الجودِ والإحسان، وأن تُنقذ أحدهم مِن بين براثن عشاق الفناء هو أيضاً فعلٌ حسنٌ لإنسانٍ لا يزال ينشد الحياة ويمتلك النخوة وقتَ ندرتها، ولكن أن تتكرر العملية ذاتها ولمراتٍ عديدة مع نفس الأشخاص، ومن دون أي شعورٍ أو تصرفٍ من قِبل مَن تم إنقاذهم يشير بأنهم ممتنون مِن كل تصرفاتك حيالهم، وفوقها وبالرغم من كل محاولاتك الجمة لتثبت لللآخرين بأنك تعمل لأجلهم وطبعاً من غير أي إقرارٍ بما تراه معروفاً، ومع ذلك تصر بأن تعرض خدماتك النضالية وتضحي بقرابينك على عتبات من لا يستسيغ تذوق كل ما تقدمه لهم، أليس هذه أسرع  طريقة للبحث عمن يحتقرك ويعاملك كما يعامل السادي النفر المازوخي، فماذا لو استيقظت من وهمك البطولي، ورفضت في لحظة صحوٍ البقاء كجنديٍ تحت الطلب، وتراجعت عما تقترفه بحق نفسك قبل الآخرين، واحترمت ذاتك وتوقفت عن تقديم عروضك التي ينفر منها معظم أطراف المعادلة، فعدت أدراجك وتأنيتَ للحظاتٍ مستعيداً يقظتك، متأسفاً على العمل الطويل الذي لم يجلب لكَ غير التوبيخ والإدانة، فرجتَ مذكّراً بعد اليقظةِ بوضوحٍ تام وبلا أي مواربة سكان كل الأماكن التي لا تعنيك بشيء بقول الإمام الشافعي: “ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنتَ جميع أمرك”. 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ريزان شيخموس في الثامن من ديسمبر، سقط النظام الأسدي بعد عقود من القمع والاستبداد، وساد الفرح أرجاء سوريا من أقصاها إلى أقصاها. خرج الناس إلى الشوارع يهتفون للحرية، يلوّحون بأعلام الثورة، وتغمرهم مشاعر النصر والكرامة. لقد ظنّ السوريون أنهم طووا صفحة قاتمة من تاريخهم، وأن الطريق بات سالكاً نحو دولة مدنية ديمقراطية تحتضن كل أبنائها دون إقصاء أو تهميش….

د. محمود عباس   عزيزي إبراهيم محمود، قرأت كلمتك التي جاءت إضاءةً على مقالتي، فلم تكن مجرد “ردّ”، بل كانت استئنافًا لحوارٍ أعمق، طالما تهرّبت منه الساحة الثقافية الكوردية، أو تم اختزاله في شعارات مستهلكة، لم أتفاجأ بجرأتك في تسمية الأشياء، ولا بذلك الشجن الفكري الذي يسكن سطورك، فأنت كتبت كمن يعرف أن لا أحد سينقذ هذا الجسد الكوردي من…

بوتان زيباري   في مسرح الشرق الأوسط، حيث تتبارى الإمبراطوريات القديمة والحديثة في نسج خيوط مصائر الشعوب، تبرز سوريا كقماشةٍ ملوّنة بدماء التاريخ وأحلام الثوار، تُحاك عليها سرديات القوة ببراعة الفيلسوف ودهاء المحارب. ها هي أنقرة، وريثة العثمانيين، تُعيد تمثيل مسرحية “الفوضى الخلّاقة” بأدواتٍ أكثر تعقيدًا، حيث تتحول الجغرافيا إلى رقعة شطرنجٍ وجودية، والسياسة إلى فنٍّ مركبٍ لإدارة الأزمات عبر…

سمعنا عن الأحداث من الراديو، وبعدها حاولت الاتصال مع أخي دجوار، الذي كان متواجداً في ملعب قامشلو البلديّ، لكن ردّ عليّ شخصٌ آخر وهو الصديق حسن، قال: إنّ دجوار ترك هاتفه معي..!، وبعدها علمنا أنّ هناك شهداء، حاولتُ الاتصال بالكثيرين وأخيراً اتّصل دجوار من قامشلو. الساعة الرابعة أتى جوان خالد إلى منزلي، وقال: شعبنا يُقتل.. علينا أنْ نفعل شيئاً، ولا…