في ذكرى ولادة البارتي منظومة البارتي وصراع التغييب

فرمان محمود
في شتاء بارد ودون التوغل كثيراً في التفاصيل كان البارتي على موعد مع حدث جلل قُدر له أن يغير من مساره إلى الأبد، حدث كبير غير مجرى تاريخه وتاريخ الحركة السياسية الكوردية في سوريا بشكل كبير وبالغ الأثر، ولا يزال رغم مضي كل هذه السنوات يلقي بظلاله حتى يومنا هذا على مجريات الأحداث على الساحة السياسية الكوردية والمنطقة، تمثل هذا الحدث برحيل أمينه العام كمال أحمد درويش في حادث سير لم يفصح الكثير عن ملابساته، إلا أن الدلائل والمعطيات والنتائج الكارثية التي ترتبت عليه فيما بعد يؤكد أنه لم يكن حادثا عرضياً كما اعتقد حينها، خاصة اذا تمعنا في تأثيراته التي فاقت كل تصور، وفي غياب اي دلائل او تحقيقات ستظل تلك التوقعات في المنطقة الضبابية من التاريخ حتى تنقشع. 
لقد أصاب هذا الحادث الحركة الكوردية في الصميم، وأدخلها في مرحلة من الركود والخلافات البينية التي باتت تتعمق وتتجذر بين مكوناتها يوماً بعد يوم.
بالعودة الى الواقع السياسي الكوردي في كوردستان سوريا ومحاولة تلمس التطورات التي بدأت ملامحها تلوح في الشارع الكوردي، فقد كانت معظم الأفكار الحديثة العهد على الساحة قد بدأت بالانحسار، تلك الأفكار التي تهجمت خلال الفترة السابقة على المدرسة البارزانية تحت دعوات ومسميات شتى، مدعية التقدمية والثورية ومتهمة النهج البارزاني والمدرسة البارزانية بشتى التهم التهجمية وإنكار دورها الريادي في تعريف العالم بالقضية القومية للشعب الكوردي وما حققته من المكتسبات التاريخية الكبيرة التي لم توازيها أية حركة تحررية كوردية عبر التاريخ. وكان المزاج العام في كوردستان سوريا قد بدأ بالعودة إلى نكهته البارزانية، بالترافق مع تطوير إقليم كوردستان العراق لتجربته النضالية وترسيخ مطالب وحقوق الشعب الكوردي ونقلها من إطارها الداخلي والإقليمي إلى العالمية، وكانت الاحداث الدولية توحي بتغيرات كبيرة في العراق عامة وفي الشأن الكوردي خاصة، اي أن المناخ السياسي والكوردستاني كان يوحي بانتشار نهج المدرسة البارزانية على نطاق أوسع وأشمل، وإمكانية بناء جسور الترابط بين أنصار هذا النهج في كلا الجهتين ليس سياسيا فقط بل جماهيريا وفكريا وثقافيا أيضاً، ولكن الرحيل المفاجئ للرفيق كمال درويش حال دون تحقيق هذا المشروع الكبير ودون التحول لمرحلة الفعل الحقيقي إثر تأزم الوضع السياسي والتنظيمي داخل البارتي لتنتهي بانشقاقه إلى جناحين متصارعين على أحقية كل طرف في تمثيل المدرسة البارزانية والنهج البارزاني، وذلك رغم التعارض الواضح بين هذه التطورات داخل البارتي ومبادئ وقيم وفكر المدرسة البارزانية النضالية المتمثلة في وحدة الصف الكوردي ونبذ الخلاف والشقاق الداخلي السياسي على حساب القضية القومية المصيرية.
رغم ذلك لم تغب هذه الفكرة وهذا الطموح عن بال القواعد الحزبية في كلٍ من جناحي البارتي، ففي الوقت الذي كانت فيه البيانات التهجمية وكيل الاتهامات بين قيادتي الجناحين مستمرة كان الحديث في القواعد الحزبية عن ضرورة عودة جناحي البارتي الى جسد واحد وانجاز المهام الملقاة على عاتقه في تكريس هذا النهج بدلا من تأجيل هذه المهام وارتهانها بفكرة وحدة البارتي. هذا الشرخ بين الفكر والتطبيق الذي فرضته قيادات كلا الجناحيين لا يفهم منه سوى تنصل كلاً منهما معا من المهمة الاساسية وهي تكريس نهج البارزانية كمدرسة سياسية فكرية نضالية ثقافية جماهيرية كوردستانية قومية متشابكة ومتداخلة ومترابطة ومتلازمة، وبدلاً من رأب الصدع ومحاولة تقريب وجهات النظر بين القيادتين المتشكلتين حديثاً والعمل على وضع الخلافات جانباً ومنعها من التأثير على الطموحات الكبيرة للشعب الكوردي، على العكس من ذلك كان الخناق يشتد يوما بعد يوم على الأصوات المطالبة بضرورة إنجاز هذه المهمة وفي كل جناح على حدى.
أحيانا وعندما كانت الغلبة لقواعد الجناحين كانت قيادتي كلا الجناحين تلجأ الى طرح مبادرة او مبادرات وحدوية بينهما لامتصاص هذه الأصوات وإيهامها بان وحدة جناحي البارتي قريبة وإن تفعيل منظومة البارتي كمنظومة شاملة باتت قاب قوسين أو أدنى، وكان يتم أيضا تطعيم هذه المبادرات ببعض الشعارات الرنانة التي تجد صداها مباشرة لدى قواعد الجناحين، بالإضافة لبعض البيانات من تلك الأنواع التي تثلج الصدور وتفتح الباب واسعا أمام الأحلام الوردية الجميلة لدى الرفاق في قواعد الجناحين، أو حتى اللجوء الى شكل ما من أشكال الوحدة الهشة كالتي حدثت بين جناح السيد نصرالدين ابراهيم حينذاك وجناح الرفيق المرحوم عبد الرحمن آلوجي، حيث كانت الضغوط من القواعد الحزبية والجماهير أكبر من أن تنتهي دون شكل ما من أشكال الوحدة الحقيقية هذه المرة وليس كسابقاتها من مشاريع الوحدة بين الجناحين، رغم أنها انتهت مخيبة أكثر للآمال من المشاريع التي سبقتها والتي لم تكتمل أو تبلغ هذا المدى من الاندماج بين طرفين من أطراف البارتي.
وبين المبادرات الوحدوية الكثيرة التي كانت محكومة بالفشل حتى قبل أن تبدأ، تم وأد مشروع ترسيخ فكر ونهج المدرسة البارزانية بين الجماهير وإجهاض كل المحاولات الرامية إلى تحقيقه وإنجازه، وتحطيم الامل يوماً بعد يوم بعودة البارتي إلى سابق عهده وأمجاده والاستعاضة عنه بمفاهيم ومشروعات أخرى استطاعت في النهاية القضاء على آمال وطموحات رفاق البارتي وجماهيره بعودته إلى صدارة العمل النضالي التحرري الكوردي في كوردستان سوريا والحامل لراية النهج والمدرسة البارزانية العظيمة. 
ومع اندلاع شرارة الثورة السورية كان السيد نصرالدين ابراهيم قد استطاع  فرض هيمنة ودكتاتورية داخل قيادة الحزب ومصادرة القرار الحزبي وتكريس نضال الحزب بعيدا عن نهجه الاصيل نهج البارزاني الخالد، عبر دخوله في تحالفات مغايرة لخط ونهج الحزب وشكَّل دائرة مقربة له خالية من أية كوادر حزبية مؤمنة بهذا النهج وهذه المنظومة، لتصبح الظروف مؤاتية للجناح الآخر لحمل راية المدرسة البارزانية عالياً، والعمل بشكل جاد على تطبيق الرؤى التي كان ينادي بها ويعمل من أجلها بين الجماهير، ولكنه بدلاً من ذلك وبدلاً من تكريس هذا النهج وترجمته وتحقيقه على الارض عمد الى الإتيان بمكونات غير أصيلة ودخيلة على منظومة البارتي والاعتماد عليهم، فبدلا من افساح المجال للكوادر البارزانية لتستطيع لملمة نفسها واستقطاب وجذب جميع الطاقات ومن جميع المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية لترسيخ النهج البارزاني والهوية القومية الكوردية واستيعاب الحقوق الكوردية والاستحقاقات السياسية الكوردية، عمد هذا الطرف إلى جذب كل من أراد تحقيق غاياته ومصالحه الشخصية على حساب الفكر والنهج والجماهير وأفسح لها المجال للصعود السريع ومن ثم التحكم في مختلف مفاصل القرار والعمل النضالي الحزبي والسياسي، ليعود الأمر بنتيجة عكسية ويترك أثرا سلبيا لدى الجماهير أضر بالفكر والمدرسة التي ينادي بها بدلاً من تقويتها والتفاف الجماهير حولها.
اذا من كل ما سبق نستنتج أنه تم تغييب الكوادر البارزانية الحقيقية ولا تزال مغيبة عن الساحة من خلال إجراءات وممارسات أبعدت هذه الكوادر عن مراكز القرار داخل البارتي ومنعتها من القيام بواجبها النضالي المطلوب، وتم تهميش دورها النضالي المحوري شيئاً فشيئا لينتهي البارتي إلى الحال الذي وصل إليه، والذي سيستمر ويعود بالأذى أكثر للمدرسة والنهج مالم تبادر الكوادر البارزانية الحقيقية والتي تحمل الفكر والنهج البارزاني في عقولها ووجدانها الى أخذ زمام المبادرة وطرح مشروعها القديم-الجديد وإعادة تفعيل المدرسة البارزانية في كوردستان سوريا كفلسفةِ ثقافةٍ جماهيرية، ومنظومةِ نهجٍ قوميةٍ فكريةٍ نضاليةٍ وسياسيةٍ كوردستانية مسترشدة بالمواقف القومية العظيمة للرئيس مسعود البارزاني وتوجيهاته النضالية السياسية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…