مستقبل حدود «سايكس – بيكو» في ظل صراعات وتمزقات المنطقة

المحامي مصطفى أوسو
  أيام قليلة وتطوي شعوب المنطقة صفحة قرن كامل، على توقيع اتفاقية ” سايكس – بيكو عام 1916 ” بين  الدولتين الحليفتين في الحرب العالمية الأولى ( بريطانيا وفرنسا )، بتفاهم وتنسيق مع ( روسيا ) وبموجبها تم تقسيم الأقاليم العثمانية بشكل عشوائي إلى جغرافية خاضعة بين هاتين الدولتين، والتي تحولت فيما بعد إلى دول (سوريا، لبنان، فلسطين، العراق، الأردن )، وأصبح الكرد أيضاً، شعباً وأرضاً، مقسمين بين أربع دول ( تركيا، إيران، العراق، سوريا )، أكد (مؤتمر سان ريمو1920) على هذه الاتفاقية، وفي 24 حزيران 1924 صدقت ( عصبة الأمم )، على وثائق الانتداب البريطاني والفرنسي على المناطق المشمولة بها، ثم جاءت (معاهدة لوزان 1923) لتعدل حدود بلدان المنطقة بموجب ( معاهدة سيفر 1920 ) وبموجبها تم منح تركيا ( الأقاليم الشمالية من سوريا )، من ضمنها لواء اسكندرون.
 بدءاً من هذا التاريخ، حلت بالمنطقة وشعوبها الكوارث المتلاحقة، لأنها أفرزت من جهة، دول وكيانات سياسية هشة وضعيفة، غير قادرة على النهوض بمجتمعاتها (سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، ثقافياً وفكريا)، تعشش في بنيانها مظاهر الفقر والجهل والتخلف..، الموُلد للعنف والإرهاب والتعصب والتطرف..، إضافة إلى الفوضى وحالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، نتيجة الصراع على السلطة والحروب الداخلية والتجاذبات الدينية والمذهبية والاحتقانات القومية…، ومآلاتها المختلفة من قمع واستبداد وتهميش لفئات واسعة من المجتمع وارتكاب انتهاكات فظيعة لحقوقها وحرياتها، التي وصلت بعض الأحيان حد جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي..، وكانت من جهة أخرى، على حساب مصالح شعوب المنطقة وقومياتها المختلفة، وإرادتها في العيش بحرية وكرامة، بعد قرون من المعاناة والمآسي والويلات..، في ظل حكم الخلافة العثمانية المستبد، وبالتالي القضاء على آمالها وطموحاتها المشروعة في العيش بحرية وكرامة، لتصبح من جديد تحت رحمة أنظمة قوموية عنصرية، أمعنت في اضطهادهم، وطبقت بحقهم سياسات شوفينية، أدت لحرمانهم من ممارسة حقوقهم القومية والوطنية الديمقراطية، وهدفت لمحو وجودهم القومي الأصيل في المنطقة، وخاصة الشعب الكردي والمكونات القومية والدينية الأخرى، مثل: الأرمن والآشوريين والدروز.
  ما تشهده المنطقة اليوم من تطورات سريعة ومتلاحقة، منذ بداية ثورات الربيع العربي عام 2011 وما آلت إليه دول المنطقة من حالة الفوضى والخراب والدمار والعنف والإرهاب..، ماهي إلا نتيجة للوضع الشاذ الذي فرضه عليها هذه الاتفاقية، والتي أسست لخلق الاحقاد والكراهية والعداء بين شعوبها، انسجاماً مع المبدأ المعروف (فرق تسد) الذي تعامل به الدول التي خططت ونفذت تلك الاتفاقية، عززها تسلم الأنظمة المستبدة زمام السلطة في تلك الدول، والتي تفننت في ممارسة القمع والبطش والقهر والإذلال بحق شعوبها وحرمانها من حقها في تقرير مصيرها.
  في ظل هذه التطورات، كَثُر الحديث من قبل المهتمين بشؤون المنطقة، والعديد من الباحثين والمحللين السياسيين والاستراتيجيين، عن مستقبل الحدود التي رسمها اتفاقية ” سايكس – بيكو ” وآفاقها المستقبلية؟ وعن حدود جديدة سيتم رسمها للمنطقة على انقاض تلك الاتفاقية؟
  الحديث عن خرائط جديدة للمنطقة، ظهر قبل ثورات الربيع العربي، وأن كانت تلك الثورات، هي التي دفعت بحكم وقائعها وتطوراتها ومآلاتها، خاصة التمزقات التي حصلت في عدد من حدودها، ليكون لذلك موقع الصدارة، فقد ظهرت في تموز عام 2006 دراسة للكاتب الامريكي (رالف بيترز)، عن ضرورة إعادة رسم خريطة منطقة الشرق الأوسط وتقسيم دوله، كما دعا إلى ” تصحيح الحدود الخاطئة ” في الحوض الإسلامي واستبدالها بحدود أخرى ” صحيحة ” يسميها ” حدود الدم “، ويؤكد الكاتب، أن حدود افريقيا والشرق الأوسط ” أكثر الحدود الدولية تحكمية وعشوائية وتشوهاً وظلماً في العالم ” وأن الحدود الدولية الراهنة القائمة بين دول الشرق الأوسط وافريقيا، هي سبب ” الجمود الثقافي ” و” اللا مساواة ” و” اللا عدالة ” و” التطرف الديني ” بين شعوب المنطقة.
  إن ما آلت إليه ثورات الربيع العربي، وتحول ساحات العديد من دولها إلى حلبة للصراعات الدولية والاقليمية، تسعى كل منها لفرض اجنداتها وتحقيق مصالحها وتقوية نفوذها، جعلتها أشبه ما تكون تماماً بالحروب العالمية وإن بأشكال مختلفة، وكعادة مثل هذه الحروب والصراعات، لا بد أن تكون لها نهاية، تقوم فيها القوى المتنفذة بتوزيع النفوذ والمكاسب، التي من شأنها أن تحدث تغييرات في الخارطة السياسية للمنطقة، كما حصل في نهاية الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأيضاً في بداية تسعينيات القرن الماضي في الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا السابقتين.
  سايكس – بيكو، كانت ولادة قيصرية ولا بد من تصحيح آثارها السيئة، وإعادة رسم المنطقة من جديد، بما يحقق العدالة والمساواة ويحفظ حقوق مكوناتها القومية والدينية والمذهبية، ويؤدي لاستقرار المنطقة والحفاظ على الأمن فيها، ويبقى أمام الكرد فرصة تاريخية، إن استغلوها جيداً، لتأمين حقوقه القومية وتأسيس كيانهم القومي، وإزالة الغبن الذي لحق بهم، نتيجة المصالح الدولية، وما عانوه من اضطهاد وقتل وحرمان وتهجير وتشريد، من قبل الأنظمة الاستبدادية التي تقاسمتهم وذلك يتطلب الانسجام مع السياسات الدولية الداعية لمحاربة الإرهاب واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتجاوز خلافاتهم الثانوية وتركيز كل الجهود والطاقات باتجاه وحدة الصف الداخلي لاتنزاع الحق في تقرير مصيرهم.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…