ضرورة التلازم بين ثقافة اللاعنف والتوجه الديمقراطي

فيصل سفوك
إن البعد المبدئي والأخلاقي لثقافة اللاعنف ، من أكثر الأبعاد استئثاراً باهتمام عالمنا الفكري والسلوكي ، الذي يمتلئ ويتزاحم بالأحداث المأساوية العنيفة ، مقارنةً مع الأبعاد الأخرى ، والتي يحتاج الخوض في تفاصيلها إلى أبحاث ودراسات معمقة ، وخاصة عندما تمس مباشرة جوهر الإنسان المشحون بكم هائل من التوتر والتناقضات ،كما فعل الفيلسوف الفرنسي جان مولر في كتابه  ” مبدأ اللاعنف ” الذي كان حصيلة ثلاثون عاماً من البحث ، قدم اللاعنف بكل أبعاده الأخلاقية والثقافية و الاستراتيجية والسياسية ، طامحاً من خلاله إلى تأسيس مفهوم فلسفي للاعنف .
ولكن ما أود الإشارة إليه هنا ، هو أهمية هذه الثقافة من الجانب الأخلاقي والإنساني ، والذي يساهم بدوره في بناء و نشأة أجيال تتبنى ثقافة اللاعنف ، وتتمسك بقيم التلاحم والتسامح والمساواة والعدالة والتعايش السلمي بين الشعوب والجماعات المختلفة ،دون تعصب أو تمييز ، بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو المذهب او المعتقد .
 و من خلال هذه المعايير التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمفهوم العصري للديمقراطية ، الذي يرتكز في مضمونه وجوهره على احترام حقوق الإنسان و التعددية السياسية و التداول السلمي للسلطة وحرية الرأي والفكر والإعلام ، نستنتج أن الهدف الأعلى و الأسمى من التوجه نحو الديمقراطية ، هو بناء مجتمع حضاري متحرر من سلطان العنف ، كما أنها دلالة واضحة على أن نشر ثقافة اللاعنف والتوجه الديمقراطي ، خطوتان متلازمتان ومتكاملتان ، تعزز إحداهما الأخرى ، وهذا ما يؤكده غاندي عندما يقول : ” أعتقد أن الديمقراطية الحقيقية لا يمكنها أن تنتج إلا من اللاعنف ”  ، و جاء الفيلسوف النمساوي – البريطاني كارل بوبر ليعزز هذه الرؤية بقوله : ” ترتكز الحضارة أساساً على تقليص العنف ” وقال أيضاً :  ” أن الديمقراطية ليست أكثر من وسيلة لتجنب الطغيان .. لا أكثر ولا أقل  ” .
و من هذا المنطلق ، وبغية تحقيق تقدّم ملموس في هذا المنحى ، يتطلب مكافحة الإيديولوجيات التي تبرر وتسوغ للعنف في سبيل إعلاء شأن معتقد أو فكر ، نظراً لخطورة هذه الإيديولوجيات التي تتكاثر بذورُها داخل المجتمع ، وبشكل خاص في زمن الحروب والصراعات الدموية ، و تقف عائقاً وسداً منيعاً أمام التحول الديمقراطي للمجتمع . 
كما أن الآثار السلبية للعنف التي تكاد تتصدر قائمة أخطر النتائج الكارثية على حاضر و مستقبل المجتمعات ، التي تنفض عنها غبار الحرب ، فأنه يحتم على الجميع وبالأخص القوى السياسية الديمقراطية و وسائل الإعلام الحر ومنظمات المجتمع المدني والفعاليات الثقافية ، القيام بدور فاعل ومؤثر في شرح وسائل وطرق تعليم ممارسة اللاعنف و على كافة المستويات ، من خلال نشر الأفكار والمعلومات والآراء والحقائق حول أسباب و مخاطر العنف والسبل الناجعة في مواجهته ، وهنا يجب ألا نغفل نقطة غاية في الأهمية ، ألا وهي ظاهرة نشر الصور ومقاطع الفيديو التي تتضمن مشاهد فظيعة ومؤلمة وقاسية جداً ، من تمثيل بالجثث ، وأساليب بشعة في تعذيب وإهانة الأسرى والمعتقلين ، ونشر صور القتلى أو تصفيتهم بأبشع الوسائل قمعيةً .  في الحقيقة تعد هذه الظاهرة من أكثر الظواهر اللاأخلاقية خطورة ، لأنها تساهم بشكل كبير في تكريس وتشجيع مفهوم العنف أو العنف المضاد .
وبمعنى آخر ، فأننا لن ندرك أهمية مفهوم ثقافة اللاعنف من الجانب الأخلاقي والإنساني ، ما لم نضع أنفسنا مكان الآخر ، الذي يتعرض للعنف أو الاضطهاد أو الظلم ، وليس في مكان المتفرج ، أو من يمارس العنف ، أو  من يكرس لهذا المفهوم تحت ذرائع وحجج واهية و واهمة تغيب عنها العقلانية كلياً ، لأن العقلانية هي أولى ضحايا الحروب والصراعات الدموية ، حين يفقد المجتمع صوابه و يغيب عنه المنطق والعقل ، فيلجأ إلى أساليب بديلة ، في مقدمتها العنف .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين ملاحظة برسم شركاء الوطن باالإدارة الانتقالية واذا كان من حق الإدارة العسكرية ذات اللون الواحد تسييرشؤون البلاد بعد نيلها شرف اسقاط نظام الاستبداد – وهو عمل يحظى بكل التقدير – من جانب معظم السوريين الذين ناضلوايضا منذ عقود، وساهموا في اضعاف النظام، وقدموا في سبيل ذلك التضحيات الجسام، ولاشك انهم يتاملون ان يتم تنظيم الحوارات الداخلية…

فرحان كلش الملاحظ أن هناك تكالب دولي واقليمي مثير للريبة على المساهمة في تثبيت أقدام الإدارة الجديدة في دمشق، هذا الإندفاع ربما له أسبابه بالنسبة لكل دولة، فالدول الغربية تنطلق من الخطورة التي تشكلها الأحزاب اليمينية المعادية لللاجئين والتي تهدد الحكومات اليسارية واليمين الوسط الأوربي، لذلك نشهد أن هذه الحكومات تتقاطر إلى دمشق والمؤتمرات الخاصة بها بهدف التخلص من ملف…

عبدالرحمن کورکی (مهابادي)* يتجلّى الحل الحقيقي لمشكلة الاستقرار والأمن والتعايش في إيران والشرق الأوسط بشكل أوضح، يوماً بعد يوم. وهذا الحل هو “إسقاط دكتاتورية ولاية الفقيه الحاكم في إيران”. فلماذا؟ قبل التطرق إلى الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإقرار بحقيقة جلية وهي أن القوة الوحيدة التي وقفت منذ البداية موقفًا راسخًا ضد دكتاتورية ولاية الفقيه،…

خليل مصطفى اعتقدتُ (وكورد سوريا) أنه مع سقوط نظام البعث وفروعه الأمنية… ستختفي أصوات وكتابات شهود الزور (السُّفهاء) الأشد كفراً ونفاقاً من أعراب سوريا المُعاصرين.؟ لكن: الاعتقاد تلاشى بظهورهم (شهود الزور السُّفهاء) على وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتيوب انستجرام) وهُم ينبحُون دفاعاً عن أيديولوجيتهم النتنة… رغبة منهُم بإبقاء كورد سوريا مُهمشين إلى الأبد بلا هوية قومية، تماماً كنباحهُم (الهستيري):…