أزمة المثقف الكردي

إبراهيم اليوسف

 
ينظر-هنا- إلى
المثقف الكردي، وبعيداً عن أضواء أي من الكليشات  والتعريفات المستنسخة، المتداولة،
والممجوجة، حتى المدرسية منها، بأنه  ذلك الذي يعد منتجاً للثقافة، بأشكالها، سرداً
وشعراً، ويعدّ من المعنيين بشأن من حوله، سواء أكان ذلك من خلال خطابه
المباشر،أو عبر خطابه غير المباشر، والخطاب المباشر، وفق هذه النظرة التي ننطلق
منها، في هذا الاستقراء، يمكن أن يتجسد في تلك النصوص السردية، أو مواقف الرأي
المتلفزة، أو المسموعة، التي أبداها هذا المثقف، تجاه ما هو يومي، متعلق بواقع
ومصير أهله، عبر المتابعة الدائمة، لا عبر ما ينتمي إلى  آراء رفع العتب
الاستهلاكية التي  تم تأسيسها، وإنجازها، بعيد انتفاضة  آذار2004،
 وراح كثيرون يعضون على أصابعهم، نادمين، لأنهم لم يبدوا ولو نصف موقف، أو ربع
موقف، في ما جرى من حولهم، ليس استشعاراً من لدن هؤلاء بتكبيت الضمير، والإحساس
بالمسؤولية، ولو بعد فوات أوانها، وإنما استكمالاً لدور ديكوري، للحفاظ على ماء
الوجه، أو قدح الشراب -الموازي لقدح الأسبقية- في مجالس الواجهات، والوجهات، التي
كان يقدم نفسه، خلالها، على أنه في الصف الأول، من دون أن يمارس أي دور نقدي، بدعوى
أن تموقعه الثقافي، يعفيه من أية ضريبة أخرى، بل راح بعضهم، ينال من السياسي، غمزاً
أو علانية، على أنه لم يكن في مستوى المسؤولية، وإن كان من طبيعة هذا الأنموذج
التمسح بالسياسي، في المحطات التي يمكن لهذا الأخير أن يقدم له الحظوة، مرتبة، أو
ربتة، أو منافع.
ولقد نما هذا الإحساس بأهمية السياسي، بعيد تشكل المجلس الوطني
الكردي، وفتح اتوستراد الملتقيات والمؤتمرات والمهرجانات في هولير، إذ صار أكثر
المثقفين يقدم نفسه، أو يقدم الملامة أو التقريع، لمن بيده أمور الحل والربط، لأنه
لم يزكه، بل تم التحرك من أجل استحداث- دكاكين إعلامية ثقافية- كي تكون معبراً
لهؤلاء نحو الحالة الجديدة التي كانت كل المؤشرات تدل على وشوكها، ليحتلوا
بوساطتها، مقاعد اقتراضية، هنا أو هناك، بل ليحافظوا على مواقعهم، وجاهياً، أية
كانت الوجهة، لا مانع، مادام أن الإمساك بمنتصف العصا يخول بعضاً منهم حرية التحرك،
في الاتجاهات، كلها، بل أن بعضهم الآخر سيختار الإشادة بهذا الرمز، أو ذاك، من دون
أن يكون مستعداً لترجمة ما يترتب عليه، إزاءه، في أية مواجهة، بل لم يكن أكثر
هؤلاء، ممن حضروا أية تظاهرة للحراك الشبابي، إن لم يكونوا ممن وقفوا ضدها، عملياً،
ناهيك، عن أن هناك من ستدفعه استقراءاته، وتخميناته، أو ربما غير ذلك، لاتخاذ موقف
مع من هو مؤهل لامتلاك القوة، إما عن “شطارة” أو “حسن استبصار”، ثم يبدأ برفع صوته
تدريجياً، على إيقاع نجاحات ذلك الطرف، مقدماً نفسه، وكأنه وراء أي منجز يقدم من
قبل  سواه، مادام في إمكان الصوت، أو الصورة، أو المدونة تضليل المتلقي، من دون أن
يجد من يجابهه: قل لي ماذا دفعت كشخص مقابل رؤيتك؟، مقابل ترجمتك لها؟. ولعل كثيرين
من هذا الأنموذج سيصنفون من عداد المستفيدين من المرحلة الجديدة، اومن متوهمي
الاستفادة، من دون أن تكون لهم أية جهود مسبقة، مشهود لها، من قبل الملأ.
وحين
نتحدث عن مثل هذا الملأ، وهو مفرد في صيغة الجمع،  خلال أخطوطتنا العاجلة، البرقية،
هذه، فإننا- وللأسف- نجد ثمة من سيسكت، ويتجنب مغبة إبداء موقفه، حتى على غرار طفل
“إبسن” الذي راح يصرخ: إمبراطوركم عار يا للعار..!!”، وهو ما يزيد من الإقدام في
الانخراط على حالة الزِّيف، من قبل أبعاض المهرجين، المتثاقفين، أو رخيصي المواقف،
مادامت مواجهتهم مكلفة، وثمة أكثر من وسيلة لإسكاتهم: رصاصة كاتم الصوت، أو رصاصة
الوسيلة الإعلامية، ما دمنا نمر في أصعب لحظة يكتب فيها التاريخ، على نحو مزور، في
نسخته الأكثر تداولاً،  في مواجهة تاريخ حقيقي، ناصع، لا يمتلك دعامات هيمنته، لأنه
هيمنة حالة التزوير، تتم عبر جوقات متكاملة، في ظل هيمنة الزور، وشهود الزور، لأن
المطلوب طمس كل ما هو مضيء، في المجالات كلها، وهو ما يجري العمل له، على قدم وساق،
بعد أن تم تحطيم منظومة القيم الأخلاقية، والجمالية، واجتثاث أرومتها،  عن بكرة
أبيها، وأمها، وأجدادها، وجداتها…!.
ومن جهة أخرى، فإن هناك أصواتاً قدمت
نفسها، قبل خمس سنوات، وبعيد شرارة البوعزيزي2010، وعلى وجه التحديد بعيد آذار2011،
متناغمة مع الحالة الجديدة التي بدأها الحراك الشبابي، وباتت تتوارى، ويمكننا تفهم
ما جرى لها، نتيجة ظروف الحالة الجديدة، داخل الوطن، منذ أن غدا كلهم مطلوباً من
قبل كلهم، وبات السكوت تدبيراً مسوغاً لمواجهة الموت المجاني، بل و الأنكى من ذلك،
أن الضحية سيقدم كما قال الأديب الكردي الشهيد موسى عنتر”1918-1992″   لمن حوله:
“قد يبدو الموت غير مخيف على يدي قاتل يمتلك أدوات تخوينك بعد تنفيذ حكمه بحقك على
يدي جاهل طائش مضحوك عليه؛ مقابل إمكان إقدامه على ممارسة جريمة هذه الأدوات
أيضاً”،  إلا أن بعض هذه الأصوات، مضت في غير مسار بداياتها، بينما غادر بعض منها،
فضاء التوتر، حاملاً معه، حالته النكوصية، وهو ما يطرح أكثر من سؤال، و سؤال: لم
حدث له ذلك؟ ….!.
 
وبالعودة، إلى الاستهلالة التي بدأناها، في هذا الشريط
اللغوي، فإننا نكاد ألا نجد ذلك الخطاب اليومي، المباشر، الذي ينصرف إلى تسمية ما
يجري باسمه، عارياَ، صادماً، صاعقاً، بعيداً عن التوريات، وإن كان هناك- وللحقيقة-
قلة جد قليلة، استطاعوا أن يشكلوا جبهة ثقافية إعلامية، بأدواتهم
البسيطة، وهاجسهم نقد الواقع، بما يتطلب ذلك، من الأدوات اللازمة، دون التخوف من
دفع أية ضريبة  جراء هذه المواجهة، وهو ما لا يتهيأ  لأي مثقف، إن لم يكن منتمياً
إلى أهله، بعيداً عن أي تخندق، وإن كان من شأن من توجه آلة النقد إلى سلوكه، اعتبار
الناقد- ناقد سلوكه – في الجهة الأخرى، وهو ما لا يصمد عند أية معاينة حقيقة،
لمواقف من ينطلق من رؤى استراتيجية، منسجمة مع منظومة مفرداتها، في لحظة التفاعل مع
الواقع.
وأخيراً،  ترى هل يعيش المثقف الكردي أزمة ما؟. حقيقة، إنه لسؤال جد
خطير، في محتواه،  يجعلنا ونحن نقرأ مجريات السنوات الخمس الماضيات، من عمر الثورة
السورية، ألا نؤكد هذه الأزمة- فحسب- عائدين   حوالي ربع قرن إلى الوراء، عندما
أطلق إبراهيم محمود في العام 1990، على صفحات مجلة دراسات اشتراكية” في عدد خاص عن
الكرد “، سؤاله الاستفزازي: وهل هناك مثقف كردي؟ ضمن مقاله المعنون ب ” ماذا يعني
مفهوم المثقف الكردي ؟ “. أجل، إننا، وبمرارة استشعار الألم، من جراء إطلاق الحكم،
ولو ضمن حدود معينة، نرى أن الأزمة التي تم التنظير لها قبل ربع قرن، أو أزيد،
وتجلت في 2004، كما نظَّر لها الرجل نفسه، حين راح يتناول الحدث الآذاري الرهيب،
وعلاقة المثقف الكردي به، منظوراً إلى الأمر من زاوية الدور النقدي للمثقف الكردي،
لمحيطه، بعيداً عن تخندقه المنفعي، أنى وجد، وهو “نكء” جد خطير لجرح، نازف، لاسيما
إذا اعتبرنا كتابة قصيدة رمزية، أو قصة منشورة في طيات جريدة، أو كتاب، أو حتى
رواية، منجزة، أو مخطط  لها، أو حديث إعلامي متأخر، خارج سياق التفاعل مع الجاري،
من قبل شخصية اعتبارية، من حقها أن تنقد، على ضوء ما هو واقعي، وما هو متجنّى..!؟.   

 افتتاحية جريدة بينوسانو-رابطة الكتاب والصحفيين الكرد-العدد45

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…