القيصر و السلطان

بوتين و أردوغان يعتبران نفسيهما ورثة لامبراطوريات عظيمة ,ولكن الطائرات المقاتلة و التصريحات و الاحاديث المتشددة لا يمكن ان تخفي حقيقة أنتهاء وانحلال هذه الأمبراطوريات .
قبل ان تكون جزيرة القرم روسية أو اوكرانية او سوفياتية كانت تركية أو عثمانية , وكانت روسيا قد ضمت بالفعل جزيرة القرم قبل 2015 بكثير وكان ذلك في عام 1783 اي بعد حرب دامت لست سنوات مع الترك حيث قضت روسيا كليا على البحرية العثمانية و محتها من الوجود..لقد انتهى هذا الصراع بمعاهدة kainardiji  أو (كيتشوك كاينارجي) باللغة التركية في عام 1774بين الطرفين والتي اعتبرها المؤرخين البداية البطيئة و الطويلة لتقسيم اللامبراطورية العثمانية .
و جزيرة القرم تعتبر الخسارة الاسلامية الأولى لصالح القوة المسيحية (تتار القرم أو بقايا  أثارمخلفات أطراف الدولة العثمانية يعارضون حاكمهم الجدد ولكن الروس لهم بالمرصاد) كما ان الحرب ومعاهدة قيناردجي قد انهت حكم العثمانين للقرم و أصبحت نقطة تحول في العلاقات بين أوربا والشرق الأوسط كما كتب عنها برنارد لويس قبل 200 عام .
لكن الوقائع تؤكد بان الصراع بين الدولتين لن تكون المرة الأخيرة ، وبالتالي حدثت صراعات في القرنين التاليين، حيث تغلغلت روسيا الى اعماق القلب العثماني في القوقاز, البلقان , البحر الأحمر و الدردنيل ويشهد بذلك شخصان, أحدهما ضباط روسي شاب كان يخدم في الجيش الروسي ويصف المعارك الذي خاضها في القرم مع الفرنسين والبريطانين والاتراك في 1854,أما الشاب الثاني فهو الكاتب الروسي (ليو تولستوي) الذي وصف هذه الحرب بعمل رائع  أصدره  تحت اسم Sevastopol Skatches (قصص سيفاستبول )حيث يصف توليستوي ملاحم بطولات وتضحيات الجنود الروس في حربهم ضد الأتراك في قطعة صغيرة من الارض الرمادية وكانه بالامس القريب .
تاريخ الامبراطوريتن تعكس العلاقة التاريخية بينهما بكل جلي و وضوح ,لذلك هو ما عليه الأمور, كلتا الدولتين لديهم قلوب و أرواح شرائح كبيرة من الناس و من الطوائف والاعراق و الديانات وكلها تحن الى جذوعها و الى اطرافها المبتورة والتي تضاءلت بفضل مشارع اكبر وأشمل تقوم بها قوى اقليمية مستندة على تاريخ تلك الامبراطوريات تليق بالعصر الحديث وتخلق لمواقف عميقة قديمة تفرض وجودها من ذاكرة عضلات تلك القوى .و كتب المدون الروسي الشهير (مكسيم كوننكو )والموالي للكرملين مستفسرا “عندما تسافر إلى تركيا, هل تثق بتركي واحد ؟ وهذا هو الحال مع كل من يتحدث بأسم تركيا اليوم  .
بعض الروس ربطوا سقوط الطائرة الروسية بالأحداث و الروابط التاريخية للبلدين , حيث انها المرة الأولى التي تحدث فيه عمل عسكري بين روسيا وأحدى دول الناتو ،و يعتقد الكثير من  الروس بان هذا العمل العسكري قام بها طغمة عسكرية تركية متهورة  من (الأتراك السعداء) . و نشرة الأربعاء المسائية في روسيا  حللت الأحداث وكشفت الكثير وزالت اللبس حيث افادت ان الناتو و اوروبا و حتى  واشنطن امضوا كل يوم الثلاثاء في معاتبة الطرف التركي معللين بأن حادث سقوط طائرة واحدة و تدخل أقليمي واحد كهذه قد يؤدي إلى صراع أوسع نطاقا .
لقد لعب الأوربين والناتو وحتى واشنطن دور الخيرين في هذه الأزمة وتفسيرها للأحداث كغير عادتهم , وهي بالتاكيد المرة الأولى في تاريخ روسيا الحديث ,ولكن لماذا؟ بكل بساطة لأن تركيا هي التي تلعب دور الشرير في هذه القصة وهي تحاول ان تفشل التحالف  التاريخي الدولي الكبير لمحاربة داعش , وحيث تلعب روسيا دورا محوريا وكبيرا فيها للحفاظ على الحضارة الغربية وقيمها . إن محاربة داعش ستفيد فرنسا , بريطانيا و كل اوربا و أمريكا وحتى روسيا , ويبدو انها لا تفيد تركيا و لا تفيد التوجهات الاسلامية لحزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا , والتي تعمل على أسلمة تركياو المنطقة  . دور روسيا ضد داعش شبيه جدا ومماثل لدورها في الحرب العالمية الثانية في محاربة النازية و تخليص اوربا الناكرة للجميل من الفاشية , و كذلك العالم من شرها , وهي تعمل جاهدة اليوم للقضاء على داعش و تخليص العالم من شرها.
الغرب ومن خلال حربها الاعلامي والجيوسياسي و انتقادها لكل ما تقوم به روسيا  في سوريا , تجده روسيا احباطا واهانة  لها احيانا ، غير ان هذه الشكاوى الغربية قديمة قدم الزمان , وان الجهود الغربية المبذولة منذ قرون لمنع تحقيق الطموحات الامبراطورية الروسية في كل منعطف ممكن , ودون سبب واضح ولدرجة انهم كانوا يصطفون مع المسلم العثماني ضد المسيحي الروسي في منتصف القرن التاسع عشر، وهذا التدخل الغربي المستمر حال دون التوسع الروسي الامبراطوري .
و قي نفس الوقت كان الروس يجدون تركيا منطقة عازلة جيدة  ضد التوسع الغربي و الأوربي، وكانوا  يعملون على خلق تركيا ضعيفة في أوربا ضمن التفوق الروسي الامبراطوريو بانه خير لها من ظهور دول أخرى على انقاض تركيا (قول وزير خارجية روسيا القيصرية  في عام 1830 ) وهذا يدل على غريزة روسيا للحفاظ على استقرار القوى المجاورة لها  والتي ترى فيها روسيا نفسها امبراطورية قوية و أنيقة .
هذا السرد التاريخي والنفسي لبقايا الامبراطوريتين, الروسية و التركية بفسر بوضوح بان سبب سقوط الطائرة الروسية ليس لأنها دخلت أو لم تدخل المجال الجوي التركي , وليس لها علاقة بالناتو, ولا حتى بداعش . السبب الحقيقي هو الصراع الخفي والعنيف لتفكك هاتين الأمبراطوريتين وهذا ما يحدث في اوكرانيا ومولوفا و حتى في سوريا و العراق .ان ما يحدث هو احتضار هذه الامبراطوريات وذيولها  الطويلة من إرثهم, وعلى بقية الدول احتواء ما يمكن وتسهيل هذه التشنجات الانتقالية .
وختاما وبدون سخرية من قيمة الرجلين, فان القيصر بوتين والسطان أردوغان يجدان انفسهم في عباءة هذا الإرث  المريض والذي انتهى منذ فترة طويلة ولكنهما لا يستطعيان التخلي عن هذا الإرث , وبدلا عن ذلك يحاولان احياء صور عظمة الماضي في اذهان رعاياهم, والنتجية ليس غريبا ان يظهر قادة أو أشخاص من كلا الطرفين يمجدان عظمة الماضي وصراعاتها .
———
الترجمة : حزني كدو 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest


0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

فرحان مرعي هل القضية الكردية قضية إنسانية عاطفية أم قضية سياسية؟ بعد أن (تنورز) العالم في نوروز هذا َالعام ٢٠٢٥م والذي كان بحقّ عاماً كردياً بامتياز. جميل أن نورد هنا أن نوروز قد أضيف إلى قائمة التراث الإنساني من قبل منظمة اليونسكو عام ٢٠١٠- مما يوحي تسويقه سياحياً – عالمياً فأصبح العالم يتكلم كوردي، كما أصبح الكرد ظاهرة عالمية وموضوع…

شيركوه كنعان عكيد تتميز سوريا كما يعرف الجميع بتنوعها القومي والديني وكذلك الطائفي، هذا التنوع الذي استطاعت السلطة البائدة أن تبقيه تحت السيطرة والتحكم لعقود طويلة في ظل سياسة طائفية غير معلنة، ورغم أن علاقة الدين بالدولة بقيت متشابكة، إلا أنها لم تصل إلى حد هيمنة العقلية الدينية أو الطائفية على مؤسسات الدولة بصورة صريحة. أدى ذلك الوضع تدريجيًا إلى…

علي جزيري نشرت جريدة قاسيون، في الخميس المصادف في 17 نيسان 2025 مقالاً تحت عنوان: “لماذا نحن ضد الفيدرالية؟” انتهج القائمون عليها سياسة الكيل بمكيالين البائسة بغية تسويق حجتهم تلك، فراحوا يبرّرون تارة الفيدرالية في بلدان تحت زعم اتساع مساحتها، ويستثنون سوريا لصغر مساحتها…! وتارة أخرى يدّعون أن سويسرا ذات (أنموذج تركيبي)، يليق بها ثوب الفيدرالية، أما سوريا فلا تناسبها…

صلاح عمر منذ أن خُطّت أولى مبادئ القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، ترسخ في الوعي الإنساني أن الشعوب لا تُقاس بعددها ولا بحدودها، بل بكرامتها وحقها في تقرير مصيرها. ومنذ ذلك الحين، أُقرّ أن لكل شعب الحق في أن يختار شكله السياسي، وأن ينظّم حياته وفق هويته وتاريخه وثقافته. هذا المبدأ لم يُولد من رحم القوة، بل من عمق…