نارين عمر
بين الفترةِ والأخرى أسألُ بعض زملائي من المرشدين النّفسيين أو الاجتماعيين, عن حالة الطلابِ والطالباتِ, وسلوكهم, وحتى المدرّسين والمدرّسات لتكون موضوعاتٍ دسمة للمقالات الاجتماعية والنّفسية التي أكتبها.
بين الفترةِ والأخرى أسألُ بعض زملائي من المرشدين النّفسيين أو الاجتماعيين, عن حالة الطلابِ والطالباتِ, وسلوكهم, وحتى المدرّسين والمدرّسات لتكون موضوعاتٍ دسمة للمقالات الاجتماعية والنّفسية التي أكتبها.
في المرّة الأخيرة أجابني أحدهم: هل تعلمين أنّ نصفَ طلابنا مصابون باكتئابٍ وإحباط؟؟ فقلتُ على الفور: ولماذا قال متأسفاً:
لا لشيء…إنّما لأنّهم أجانب!!!!! وعندما سمعت بعض زميلاتي بهذا الموضوع قلنَ:
لماذا لا يكون هذا الموضوع عنوان إحدى الحلقات؟؟
لماذا يُصابُ الطلابُ الكرد باكتئابٍ وإحباطٍ مزمنين, وتشاؤم مفرط من غدهم الآتيِ وخاصة المتفوقين والمجدّين منهم؟
الطالبُ حينما يدخلُ المدرسة ومنذ العامِ الأوّل من دراستهِ وحتى آخر عام من المرحلةِ الثانوية يزرعُ في نفسهِ وفكرهِ بستاناً من الأحلام والطموحات وبعد كلّ عام دراسي يتزيّنُ البستانُ بأحلام وطموحات جديدة ومتجدّدة.
لأنّ المستقبل بكلّ خفاياه راقد فيه حتى يوم الانبعاث.
ومن أبرز سماتِ البستان النّشاط والأمل والتفاؤل ولكنّ الأمر يختلفُ عندَ بعض الطلاب الكرد تماماً لأنّ النشاط يتحوّلُ إلى اكتئاب, والتفوّق إلى إحباط, والتفاؤل إلى تشاؤم, حينما يجدون وباءً مخيفاً قد يغزو ثمرات طموحاتهم وأحلامهم, وتمتدّ ظلالها المجهولة حتى تكادُ تخيّمُ على ما تبقى في نفوسهم من طموحاتٍ وأحلام, لا لشيء فقط لأنّهم أجانب!! أيّ لا يحمل أهلهم دفتراً يسمّى بدفتر العائلة, إذاً فهم يشعرون بأنّهم بدون عائلة.
ولِدَ هذا الطالبُ,ودخلَ المدرسة,ونما وكبر ليجدَ نفسه فاقدَ الأبِ أو الأمّ أو الاثنين معاً, وهو يعيشُ في حضنهما.
وليجدَ والده عتالاً بينما شهادته الجامعية, أو شهادة أحد المعاهدِ معلقة على جدار إحدى غرفِ البيت, وليجدَ عمّه يجرّ عربة مستأجرة ينادي على مَنْ يشتري منه الخيار والبطاطا!وأخته تتسابقُ مع الفتياتِ في كميّةِ القطن التي تجنيها, أو في كميّةِ البزر الذي يحلبنه من البطيخ الأخضر أو الأصفر,بينما زميلاتها الأخريات يترافعنَ أمامَ القاضي,أو يناقشن المديرَ في أمور المدرسةِ والطلاب, أو يداوين المرضى أو…أو… وهذا المسكينُ ربّما لا يعي حقيقة الأمر, أو أنّ أهله لا يريدون أن يصدموه في هذه السّنّ المبكرة في المرحلة الابتدائية, لذا نجده نشيطاً متفوّقاً, لكنّ بذورَ المأساة تبدأ بالتّلاعبِ في فؤادهِ وذهنهِ في المرحلةِ الإعدادية.
وكلّما نمتِ البذورُ وكبرتْ, نمتْ مأساته وتضخّمتْ, وتبدأ ساحة التّساؤلات والاستفسارات تطغى على مَلَكة الحسّ والفكر لديه, قد تصيبها بالشّلل المؤقت أو النّسبي أحياناً, ولكنّ تشجيع الأهل والمعارفِ قد يخففُ من مأساتهم فيتجاوزون المرحلة الإعدادية, أمّا في الثانوية, وما أدرانا ما تعنيه هذه المرحلة الدّراسية, والمرحلة النّفسية والاجتماعية من عمر الإنسان, لتصلَ المأساة إلى ذروتها, وليصل الشّابُّ إلى عمر يجد فيه نفسه سيّدُ الكون بدون منازع, والعاقلُ الوحيدُ بين كلّ هؤلاء الجاهلين والجهلاءِ من حولهِ, ولتبدأ سلسلة انتكاساتِ الهروبِ من الدّراسة, أو الانسحاب من الامتحان, أو الرّسوبِ المتكرّر.
كلّ ذلك نتيجة الاكتئابِ والإحباط اللذين يحاصران فكره ونفسه, وكلّ مكامن الإدراكِ لديهِ ومن كلّ الجهات, والذي يتركُ المدرسة مبكراً ويتعلمُ صنعة يسترزقُ منها يعتبرُ نفسه سعيدَ الحظ والطالع.
صور هذه المأساةِ كثيرة وزاهية الألوان, وفيها ما تثير الضّحكَ المولود من المثل القائل (شرّ البليّةِ ما يضحك).
امرأة مواطنة متزوّجة من مواطن أجنبي, أنجبت منه أولاداً, وتقدّمَ بها العمر, وتصبحُ جدّة, بينما في القانون هي عزباءُ غير متأهلة, فتثير بين الحين والحين ضحكاتِ أولادها , وربّما أحفادها.
فتاة متعلمة تحكي قصّتها وهي تبتسمُ وتضحكُ وتغضبُ وتهزّ برأسها وتقول:
عندما دخلتُ الصّفّ الأوّل الإبتدائي بشهادةِ تعريفٍ كوننا مكتومين, قالتْ أمّي بحسرة: يا رجل! ما فائدة دراسةِ أولادنا وهم لايحملون حتى بطاقة الأجانب؟؟ فأجابها أبي بصراخ:
ماذا تقولين يا امرأة, ما زالت البنت في الصّفّ الأوّل وحين تصلُ إلى المرحلة الثانوية سيصبحُ جميع المكتومين والأجانب مواطنين, وتتابعُ أنهيتُ المرحلة الابتدائية والاعدادية والثّانوية, وكبر أخوتي وأخواتي وأنهوا دراستهم أو لم ينهوها وبعضنا تزوّجَ وأنجبَ أولاداً, وانتقلَ أبي إلى جوار ربّه وما زلنا مكتومين, ننتظر أن نصبحَ أجانب.
الصّور كثيرة, ولكنّني سأنهي موضوعي بهذه القصّة المؤثرة من زميلةٍ كاتبة صحفية.
تلقيتُ منها برقية تعزيةٍ, ثمّ هاتفاً لمواساتي بوفاةِ أخي, لأفاجأ بها تقولُ لي بحسرةٍ وأسى:
عزيزتي: رحيلُ شقيقك كان مؤلماً, وصدقيني إذا قلتُ لكِ إنّني شاركتُكِ البكاء عليه رحمه الله,ولكنّ الموتَ حقّ, وقضاءٌ من الله وقدرٌ لابدّ أن نتقبّله بنفس راضية, ولكنّ المأساة الحقيقية, والبكاء الحادّ يجب أن يكون عليّ, وعلى أمثالي الذين حُرموا من بطاقةٍ اسمها هوية المواطنة, فحُرِمنا من كلّ مزيّةٍ تصنّفنا بشراً في وطننا هذا الذي نحبّ ونخلصُ له.
لأنّني شعرتُ بالسّعادة التي يشعرُ بها كلّ متخرّجٍ جامعي, ولكنّ سعادتي تحوّلتْ إلى تعاسةٍ وشقاء حينما وجدتُ أبواب التوظيفِ والعمل بشهادتي موصدة أمامي, وحينما قبلتْ جهاتٌ أخرى من خارج الوطن أن أعملَ موظفة ومراسلة لديهم, وجدتُ لعنة حرماني من هويتي تلاحقني, لأندبَ حظي وحظ أمثالي الذين يعيشون في حلم اسمه: هوية المواطنة, والجميعُ يعلمُ أنّنا مواطنون.
لماذا لا يكون هذا الموضوع عنوان إحدى الحلقات؟؟
لماذا يُصابُ الطلابُ الكرد باكتئابٍ وإحباطٍ مزمنين, وتشاؤم مفرط من غدهم الآتيِ وخاصة المتفوقين والمجدّين منهم؟
الطالبُ حينما يدخلُ المدرسة ومنذ العامِ الأوّل من دراستهِ وحتى آخر عام من المرحلةِ الثانوية يزرعُ في نفسهِ وفكرهِ بستاناً من الأحلام والطموحات وبعد كلّ عام دراسي يتزيّنُ البستانُ بأحلام وطموحات جديدة ومتجدّدة.
لأنّ المستقبل بكلّ خفاياه راقد فيه حتى يوم الانبعاث.
ومن أبرز سماتِ البستان النّشاط والأمل والتفاؤل ولكنّ الأمر يختلفُ عندَ بعض الطلاب الكرد تماماً لأنّ النشاط يتحوّلُ إلى اكتئاب, والتفوّق إلى إحباط, والتفاؤل إلى تشاؤم, حينما يجدون وباءً مخيفاً قد يغزو ثمرات طموحاتهم وأحلامهم, وتمتدّ ظلالها المجهولة حتى تكادُ تخيّمُ على ما تبقى في نفوسهم من طموحاتٍ وأحلام, لا لشيء فقط لأنّهم أجانب!! أيّ لا يحمل أهلهم دفتراً يسمّى بدفتر العائلة, إذاً فهم يشعرون بأنّهم بدون عائلة.
ولِدَ هذا الطالبُ,ودخلَ المدرسة,ونما وكبر ليجدَ نفسه فاقدَ الأبِ أو الأمّ أو الاثنين معاً, وهو يعيشُ في حضنهما.
وليجدَ والده عتالاً بينما شهادته الجامعية, أو شهادة أحد المعاهدِ معلقة على جدار إحدى غرفِ البيت, وليجدَ عمّه يجرّ عربة مستأجرة ينادي على مَنْ يشتري منه الخيار والبطاطا!وأخته تتسابقُ مع الفتياتِ في كميّةِ القطن التي تجنيها, أو في كميّةِ البزر الذي يحلبنه من البطيخ الأخضر أو الأصفر,بينما زميلاتها الأخريات يترافعنَ أمامَ القاضي,أو يناقشن المديرَ في أمور المدرسةِ والطلاب, أو يداوين المرضى أو…أو… وهذا المسكينُ ربّما لا يعي حقيقة الأمر, أو أنّ أهله لا يريدون أن يصدموه في هذه السّنّ المبكرة في المرحلة الابتدائية, لذا نجده نشيطاً متفوّقاً, لكنّ بذورَ المأساة تبدأ بالتّلاعبِ في فؤادهِ وذهنهِ في المرحلةِ الإعدادية.
وكلّما نمتِ البذورُ وكبرتْ, نمتْ مأساته وتضخّمتْ, وتبدأ ساحة التّساؤلات والاستفسارات تطغى على مَلَكة الحسّ والفكر لديه, قد تصيبها بالشّلل المؤقت أو النّسبي أحياناً, ولكنّ تشجيع الأهل والمعارفِ قد يخففُ من مأساتهم فيتجاوزون المرحلة الإعدادية, أمّا في الثانوية, وما أدرانا ما تعنيه هذه المرحلة الدّراسية, والمرحلة النّفسية والاجتماعية من عمر الإنسان, لتصلَ المأساة إلى ذروتها, وليصل الشّابُّ إلى عمر يجد فيه نفسه سيّدُ الكون بدون منازع, والعاقلُ الوحيدُ بين كلّ هؤلاء الجاهلين والجهلاءِ من حولهِ, ولتبدأ سلسلة انتكاساتِ الهروبِ من الدّراسة, أو الانسحاب من الامتحان, أو الرّسوبِ المتكرّر.
كلّ ذلك نتيجة الاكتئابِ والإحباط اللذين يحاصران فكره ونفسه, وكلّ مكامن الإدراكِ لديهِ ومن كلّ الجهات, والذي يتركُ المدرسة مبكراً ويتعلمُ صنعة يسترزقُ منها يعتبرُ نفسه سعيدَ الحظ والطالع.
صور هذه المأساةِ كثيرة وزاهية الألوان, وفيها ما تثير الضّحكَ المولود من المثل القائل (شرّ البليّةِ ما يضحك).
امرأة مواطنة متزوّجة من مواطن أجنبي, أنجبت منه أولاداً, وتقدّمَ بها العمر, وتصبحُ جدّة, بينما في القانون هي عزباءُ غير متأهلة, فتثير بين الحين والحين ضحكاتِ أولادها , وربّما أحفادها.
فتاة متعلمة تحكي قصّتها وهي تبتسمُ وتضحكُ وتغضبُ وتهزّ برأسها وتقول:
عندما دخلتُ الصّفّ الأوّل الإبتدائي بشهادةِ تعريفٍ كوننا مكتومين, قالتْ أمّي بحسرة: يا رجل! ما فائدة دراسةِ أولادنا وهم لايحملون حتى بطاقة الأجانب؟؟ فأجابها أبي بصراخ:
ماذا تقولين يا امرأة, ما زالت البنت في الصّفّ الأوّل وحين تصلُ إلى المرحلة الثانوية سيصبحُ جميع المكتومين والأجانب مواطنين, وتتابعُ أنهيتُ المرحلة الابتدائية والاعدادية والثّانوية, وكبر أخوتي وأخواتي وأنهوا دراستهم أو لم ينهوها وبعضنا تزوّجَ وأنجبَ أولاداً, وانتقلَ أبي إلى جوار ربّه وما زلنا مكتومين, ننتظر أن نصبحَ أجانب.
الصّور كثيرة, ولكنّني سأنهي موضوعي بهذه القصّة المؤثرة من زميلةٍ كاتبة صحفية.
تلقيتُ منها برقية تعزيةٍ, ثمّ هاتفاً لمواساتي بوفاةِ أخي, لأفاجأ بها تقولُ لي بحسرةٍ وأسى:
عزيزتي: رحيلُ شقيقك كان مؤلماً, وصدقيني إذا قلتُ لكِ إنّني شاركتُكِ البكاء عليه رحمه الله,ولكنّ الموتَ حقّ, وقضاءٌ من الله وقدرٌ لابدّ أن نتقبّله بنفس راضية, ولكنّ المأساة الحقيقية, والبكاء الحادّ يجب أن يكون عليّ, وعلى أمثالي الذين حُرموا من بطاقةٍ اسمها هوية المواطنة, فحُرِمنا من كلّ مزيّةٍ تصنّفنا بشراً في وطننا هذا الذي نحبّ ونخلصُ له.
لأنّني شعرتُ بالسّعادة التي يشعرُ بها كلّ متخرّجٍ جامعي, ولكنّ سعادتي تحوّلتْ إلى تعاسةٍ وشقاء حينما وجدتُ أبواب التوظيفِ والعمل بشهادتي موصدة أمامي, وحينما قبلتْ جهاتٌ أخرى من خارج الوطن أن أعملَ موظفة ومراسلة لديهم, وجدتُ لعنة حرماني من هويتي تلاحقني, لأندبَ حظي وحظ أمثالي الذين يعيشون في حلم اسمه: هوية المواطنة, والجميعُ يعلمُ أنّنا مواطنون.