ذهنية الكردي

صبري رسول

يكشفُ التّاريخ عن أنّ الكرديّ قد يبتلعُ
«مرارةَ» الهزيمة أمامَ عدوّه في ساحات المعركة، رغم قتاله بشراسة بدافع إيمانه
بقضيته، وامتلاكه روحاً فدائة عالية، ولا يبتلعُ مرارةَ التنازُل عن بعض
«امتيازاته» الشّخصية على طاولة الحوار لأخيه الكردي. والغريب أنّه يضحّي بروحه،
ولا يضحّي بامتيازاته. لماذا لانعلِّم التّاريخ عكس هذه الذّهنية؟
تاريخ الكُرد
مليءٌ بالصّراعات الفردية والعشائرية والحزبية، السّياسية منها والعسكرية، حتى
التّخمة، فغيابُ التَّفاهُم والاتفاق الكردي – الكردي أحدُ أبرز أسباب هزائم
الثّورات الكردية، قديماً وحديثاً، ونعرفُ أنّ معظمها اُبتُليَ بالغدر، فالتّشتُّتُ
والتّمزّقُ والتّفرُّق تُضعفُ الجبهة الدّاخلية، وتفتحُ الثّغرات للتّسلّل
والتّدخلُ أمام العدوّ، وتمدّه بعامل القوّة والتّفوُّق، التّشتُّت يدفعهم إلى
الاعتماد على الآخر، ويُغريه للغدر بهم.
حدث هذا في كردستان العراق وإيران سابقاً ويحدثُ الآن في كردستان سوريا الآن.
فالتّناحُر الداخلي يدفع كلّ طرف إلى الاستقواء بالآخر الذي «لا يؤمن جانبُهُ»،
ويبقى مصدرُ القرار مصادراً، فضلاً عن أنّ ذلك يُبقِي كلَّ الاحتمالاتِ واردةً، عدا
احتمال الاتفاق على المصلحة القومية العليا.
فلماذا لا يكونُ الكرديُّ مستعداً
لاستساغةِ مرارة التّنازُل لأخيه الكردي، عن بعض امتيازاته، والتّنازُل في هذا
الموقف ليس نقيصةً، بل موقف ينمّ عن قوة الفكر، وعن استيعاب الظّرف التّاريخي،
بدلاً عن تجرّع مرارة الهزيمة سياسياً أو عسكرياً؟ ويزخر التَّاريخُ بأمثلة شعوبٍ
لم تنلْ حقوقها إلا بوحدة الموقف أمام تحدّيات وجودية، أمّا من يحكم بعد تجاوزِ
مرحلة المخاطر، أمرٌ يُترَك للشّعب الذي سيفرزُ قادته المرحلييّن و«الحقيقيين»،
بناة مستقبله، لأنّ بوصلتَه لن تُخطِئ حينئذٍ، فمن يؤمن بقدرة الشّعوبِ وطاقاتِها
الخلاّقة عليه أن يُسخّرَ كلَّ شيءٍ لتحقيق مصلحتها، وتأمين حقوقها.
الكرد في
سوريا يمرّون بأخطر مرحلة من تاريخ وجوده، صحيح أنّ الأنظمة المتعاقبة على سوريا
تنكَّرت لوجوده، ومارست بحقّه سياسة الإقصاء والإمحاء، لكن كان الشَّعب موحداً في
الموقف على الأقل. والآن، وجودُهُ القوميُّ كشعبٍ على المحكّ، يفصلُ بين انتصاره
واندثاره خيطُ اتفاقٍ كـ«معبر الصلوات للمسلمين» الفاصل بين الجنة والجحيم؛ خيطٌ
أرفعُ من حدّ السّيف، وأوهن من شعرة. ألا يستدعي هذا الظّرف الحرج أن يراجعَ كلّ
طرفٍ من الأطراف الكردية نفسه، ويضعَ مصلحة الشّعب كبوصلة الهداية إلى التّفاهُم
والتّوافُق، لإنقاذه من كوارث المرحلة، وتسجيلِ نصرٍ يُسجَّل لهم على صفحات
التّاريخ ينقله جيلٌ إلى جيلٍ، ويستهدي به الأحفاد مفتخرين بالأجداد؟
مرارةُ
ابتلاعِ التّفاهُم ستغيّر مجرى الأحداث، وتصنعُ نصراً يولّد طعماً بنكهة التّاريخ
النّاصع كفعلٍ توالديّ يبدعُه الإنسانُ المخيّر، وليس مجرّد سجلٍ يحفظُ أسماء
العابرين.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…