عن الفاشيّات المتربّصة والمتوثّبة في سورية

هوشنك أوسي
شهدت
صفحات التواصل الاجتماعي حالة من التراشق بالتخوين والشتائم بين الكرد والعرب
السوريين، لدرجة غير مسبوقة، بحيث يمكن القول إن هؤلاء السوريين ليسوا من اقتسم
العيش على هذه الأرض التي تسمّى سورية، قبل وبعد وجود الكيان السوري، وأن هؤلاء
المتصارعين على صفحات التواصل، لو توفرت في أيديهم بنادق وقنابل،
لاستخدموها!
هذه الفورة العصبية القوميّة، قد نصفها بالحرب الأهليّة الخفيّة،
المتوارية خلف الكلام المنمّق عن التلاحم والوحدة الوطنيّة. صحيح أن الاحتراب
الكلامي تم ضمن الفضاء الافتراضي، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الحالة المرضيّة تعطي
مؤشّرات جد خطيرة عن تنامي ما يمكن تسميته بـ «الفاشيّات المتربّصة والمتوثّبة» لدى
الطرفين، بصرف النظر عن الخوض في مَن كان «الفعل» ومَن كان «الرد».
عبّرت حالة التسمم هذه عن نفسها عبر إصدار بيانات عسكريّة وسياسيّة ومقالات رأي
وتقارير إخباريّة وبرامج تلفزيونيّة، فاقت في نسبتها لدى الجانب العربي ما حصل لدى
الجانب الكردي. وقد بدأت، حين وردت أخبار وتقارير، غير مستندة إلى وثائق ومعطيات
ملموسة ودامغة، تشير إلى ارتكاب مقاتلي «وحدات الحماية الشعبيّة» (YPG) المحسوبة
على حزب «الاتحاد الديموقراطي» (PYD) عمليات تهجير قسري وتطهير عرقي بحق العرب، بعد
دحر القوات الكرديّة إرهابيي تنظيم «داعش» في ريف الحسكة. وتلقّف كثيرون من الكتّاب
والمثقفين والساسة العرب، المحسوبين على المعارضة السوريّة، هذه الأنباء المشكوك
والمتشبه بها، بسرعة، وأضافوا الكثير من «البهارات» عليها، وضخموها، وبالغوا في
إصدار أحكام موتورة، ليس فقط تجاه PYD وذراعه العسكريّة، بل تجاه عموم الكرد، بمن
فيهم الذين ينتقدون سياسات وممارسات الحزب. وظهر بعض الإخوة العرب وكأنّهم يحبذون
بقاء تلك المناطق العربيّة تئن وترزح تحت الحكم «الداعشي»، كونهم عرباً، بدل
تحريرها بيد الكرد! وحين بدأ النشطاء والكتّاب الكرد يطالبون بالتأكّد من صحّة هذه
الأخبار وبتقديم الدلائل على هذه الجريمة قبل إطلاق الإحكام، وُصف هؤلاء بالدفاع عن
PYD وبتبرير انتهاكاته، فقط لكونه حزباً كرديّاً، وأنهم بذلك يدافعون عن نظام
الإجرام الأسدي، باعتبار PYD على علاقة ما معه، متناسين أن ارتكاب PYD الكثير من
الانتهاكات بحق الكرد المختلفين معه، وتعرّضه للكثير من الانتقادات والإدانات
الكرديّة، لا ولن يدفع منتقديه الكرد للقبول باتهامات ممارسته «التطهير العرقي
والتهجير القسري بحق العرب»، من دون تقديم قرائن دامغة، عجز عن تقديمها أصحاب
الاتهامات!
وقد اتضح أن تلك الاتهامات ملفّقة ومفبركة، روّج لها البعض إرضاءً
لنوازع عصبويّة دفينة، إلى جانب تقاطعها مع تصريحات مسؤولين أتراك صبّت في نفس
طاحونة تشويه الكرد وتأليب العرب عليهم. واتضح أن الحدث، بمجمله، عملية نزوح حدثت
وتحدث في كل بقعة عصفت وتعصف بها المعارك داخل سورية. وهذا مع إقرار المقاتلين
الكرد بحدوث بعض الانتهاكات في قريتين عربيتين، اعتذروا عنها، وأعادوا القرويين إلى
بيوتهم. زد على ذلك، عودة أهالي «تل أبيض» أنفسهم إلى سكناهم، بعد استكمال تحريرها
من «داعش»! وهذا يفنّد ويكذّب كل اتهامات «التطهير العرقي» للكرد!
هذا السلوك
الأرعن، قابلته ردّة فعل كرديّة رعناء، توازيها شدّةً، بحيث اتسعت دائرة النقد
والاتهام بالشوفينيّة والعنصريّة (البعثيّة – الداعشيّة)، لتشمل العرب والمسلمين
جميعاً، وانزلق النقد ببعض الكرد نحو الشتم والتشهير والتشويه المقذع.
انزلاق
النخب العربيّة والكرديّة إلى هذا الحضيض ونفخها في الاحتراب جعلا أحد «المعارضين»
العرب السوريين يشتم الكرد وقضيتهم وصولاً إلى أن «الشعب الكردي الذي يريد انتزاع
اسمه كشعب، عليه واجب التصرف كشعب وليس كعصابات إجرام، تثبت مرة بعد مرة أنه لم
يتعرف على الحضارة». هذا الانزلاق المرعب، يعزز حنين السوريين إلى نظام الأسد،
ويفاقم خيبة الأمل الكرديّة بالثورة السوريّة، ويدعم موقف PYD ويعطيه المزيد من
المبررات، ومواقف فاشيّة كهذه تصدر عن معارضين عرب سوريين، تحرج كثيراً المعارضين
الكرد السوريين المعتدلين الذين ما زالوا على عهدهم ومشاركتهم في الثورة السوريّة،
بحيث يصبحون بين نارين، نار العنصريين العرب ونار العنصريين الكرد!
إذاً هنالك
حالة من التسمم الاجتماعي والسياسي والثقافي البعثي، لم يبرأ منها من يزعم معارضة
نظام البعث – الأسد، ما لا يؤكّد فحسب تفاقم «الردة» عن الثورة وقيمها، بل الانغماس
في مستنقعات العصبيّة والتشنّج وضخّ العداوات.
فالكراهية والنفس الفاشي العدواني
تجاه الكرد دفعا هؤلاء «المعارضين» إلى تخوين بعض فصائل «الجيش الحر» التي تقاتل،
إلى جانب المقاتلين الكرد، تنظيم «داعش» الإرهابي، بل تخوين ولعن وشتم «الائتلاف»
السوري، بسبب تواجد الكرد فيه! وبالتوازي فالكراهية والنفس الفاشي العدواني تجاه
العرب دفعا ببعض الكرد إلى تخوين وشتم الأحزاب الكردية المنضوية في «الائتلاف»،
واتهامها بأنها «دواعش» و «مرتزقة»!
إن علاقة «الاتحاد الديموقراطي» المدانة مع
نظام الأسد، يجب ألاّ تدفع منتقديه من الكرد والعرب إلى اختلاق الأكاذيب
والافتراءات بحقه، وتصريحات «الائتلاف» وبيانات الكثير من المجاميع الإسلاميّة
المتطرّفة المعادية للكرد، بعد فشلها في تحرير المناطق السورية من «داعش»، ورفضها
أن يكون التحرير على أيدي الكرد، لا ينبغي أن تدفع الكرد إلى تخوين كل العرب،
وتفضيل كفّة العلاقة مع النظام السوري. فمع وجود هذه الحالة، تغدو فكرة العيش
الوطني المشترك ضرباً من الخرافة والمستحيل.
 
* كاتب كردي
سوري.
الحياة

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف ما أن تسقط الأنظمة الدكتاتورية بعد عقود من القمع والدماء، حتى تبدأ الأسئلة الكبرى بالظهور حول مستقبل المجتمع وما خلفته تلك السنوات من أزمات نفسية، اجتماعية، وسياسية. إذ أنه وبعد أربع عشرة سنة من القتل والدمار، انهار النظام السوري، كما كان متوقعاً، تحت ثقل الجرائم التي ارتكبها، متوهماً أن وصفة القمع التي ورثها عن أبيه ستظل…

اكرم حسين مع سقوط نظام الأسد، واجهت سوريا مرحلة انتقالية مليئة بالتحديات، تتطلب رؤية واضحة ، وإدارة حكيمة ، لتجنب الانزلاق نحو الفوضى أو التقسيم، وهو السيناريو الذي عانت منه العديد من الدول التي شهدت تغييرات جذرية في أنظمتها السياسية. فالتجارب التاريخية تُظهر أن الفترات الانتقالية غالباً ما تكون مصحوبة بصراعات بين القوى السياسية المختلفة التي شاركت في إسقاط…

شكري بكر بعد قراءة متأنية بالشأن الكوردستاني بشكل عام والكوردي في سوريا بشكل خاص نرى بأن حزب العمال الكوردستاني يعمل مع القضية الكوردية ببروباغندا يهدف لحرمان الشعب الكوردي من ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه . من هنا نرى بأن الحوار الكوردي الكوردي أن يشمل المجلس الوطني الكوردي كإطار يمثل عدة أحزاب كوردية بالإضافة إلى بعض الكيانات…

إبراهيم اليوسف بين عامين: عبورٌ من ألمٍ إلى أمل…! ها نحن نودّع عامًا يمضي كما تمضي السحب الثقيلة عن سماءٍ أرهقتها العواصف، ونستقبل عامًا جديدًا بأحلامٍ تتسلل كأشعة الفجر لتبدّد عتمة الليل. بين ما كان وما سيكون، نقف عند محطة الزمن هذه، نتأمل في مرآة أيامنا الماضية، تلك التي تركت على جبين الذاكرة بل القلب ندوبًا من الألم والتشظي، وفي…