العراق .. بين الفكر السلفي والرؤية الواقعية

روني علي

    لو أردنا – تجاوزاً – تخطي بعض المسلمات المعرفية – التي توحي بالقسرية – في تشكلية الواقع العراقي، وبعض الأسس التاريخية التي تشكل عليه ككيان، سواء العربي منه أو الحالي، وذلك لتجنب الخوض في تفاصيل الثقافات المتراكمة، والتي كانت جلها تستند إلى الدم وذهنية الإقصاء، خاصةً إبان الصراعات الطائفية والمذهبية في عصري الخلافة الأموية والعباسية
وتناولنا الحدث العراقي منذ ما بعد تحريره من النظام الدكتاتوري ودخول قوات التحالف مع بعض رموز المعارضة العربية التي كانت تتخذ من الخارج ودول الجوار مركز تحركها، وبالتالي رصد تداعيات فترة ما بعد التحرير من جوانب مختلفة، ووفق توازنات ومعايير سياسية قيد الإنجاز، لاستطعنا القول، أن انهيار النظام البائد قد شكل بالنسبة للعراق صفحة جديدة بانعكاساتها الداخلية والخارجية .
    ففي الجانب الخارجي، برهنت التجربة العراقية الجديدة على أن القهر والطغيان وسياسة القبضة الحديدية لم تستطع الوقوف في وجه إرادة الشعوب، خاصةً وأن الجدار الذي كان يفصل بين ما هو داخلي وخارجي قد انهار منذ انهيار توازنات الحرب الباردة ومفهوم نظام القطبين في التحكم بمصير الشعوب، وبالتالي فإن تماهي الدكتاتوريات المعاصرة في تعاملها مع شعوبها، وإدارتها لسياساتها الداخلية، تشكل تهديداً مباشراً، ليس فقط لمكوناتها الوطنية، بل لمصالح المجتمع الدولي ككل، وهذا ما شكل العامل الرئيس في توجه الكتل الاقتصادية والعسكرية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلى ضرب النظام الدموي في العراق، والتي – هذه الضربة – قد انعشت الآمال لدى غالبية الشعوب المقهورة، ورسخت لديها القناعة بأن عمر الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية قصير لا محالة .

بمعنى آخر، وبغض النظر عن مراهنات بعض الدول الإقليمية على الصراعات الداخلية في العراق وإذكائها لنار الفتن وتدخلها السافر في شؤونه، فقد أعطت التجربة العراقية دفعاً قوياً لكل قضايا التحرر والانعتاق، وإن كان الأمل مازال محصوراً بين الواقع والإمكانات والمصالح الدولية ..
    أما في الجانب الداخلي، ومن خلال قراءة اللوحة العراقية المتشكلة، وما تشوبها من ملامح مستقبلية، فقد شكل سقوط الديكتاتورية بمثابة رفع الغطاء عن القدر المضغوط، وبالتالي أماط اللثام عن كل لون وتوجه في أن يعبر عن ذاته بالشكل الذي يبتغيه وحسب المرجعيات التي يستند عليها، حتى بات رائحة الدم هي الطاغية على الواقع، وينبئ بخطورة المستقبل على كاهل المجتمع، بغض النظر عن ما يتم ممارسته من بعض الأعمال الإرهابية، والتي قد تستمد البعض منها قوتها من بعض الأطياف الداخلية ذاتها كجزء من عملية التلاعب بالأوراق وخلطها  ..
    إذاً، يبدو وكأن العراق الجديد يحاول أن يمد بجسوره الثقافية إلى العراق التاريخي، وعراق الحقب الديكتاتورية والأنظمة الشمولية، حين نقف على دقائق الأمور، ونحاول محاكاة ما يجري من فعل سياسي بألوان الطيف المجتمعي من مذهبي وعرقي، وكأن هذه اللوحة ترغمنا الوقوف أمام حقائق التاريخ والتطور، وتجبرنا على الأخذ بالجذور التاريخية للذهنيات التي تتحكم بمقاليد الأمور ولمجمل مسائلها ومشاكلها، والتي تتجسد بأنه لا يمكن تجاوز ثقافة مجبولة بالدم وإقصاء الآخر، مهما كانت الوسائل ديمقراطية، وأن هذه الثقافة المعشعشة في أذهان تابعيه، لا يمكن لها أن تمحو بمجرد قرارات بروتوكولية، بل هي بحاجة إلى الإشباع ولحظتها التاريخية كي تعيد النظر في ذاتها ..


   فما يجري الآن في الداخل العراقي، وما يتم الترتيب له من قبل الذهنيات السلفية والشوفينية بغية إقصاء الحالة الكردية عن إرادة الفعل، وبالتالي إلحاقها بالمشروع العروبي، يعيد إلى الأذهان بأن فكرة التعايش السلمي الديمقراطي والتشارك في بناء المستقبل، لم تجد ركائزها الفكرية والسياسية لدى غالبية القطاعات المنضوية تحت هذه الذهنية، التي تتصدى لإدارة شؤون الحكم والسلطة، خاصةً إذا حاولنا رصد معطيات النتائج الأولية لسقوط الديكتاتورية بما يجري الآن، ومقارنة الخطاب السياسي بالممارسة، حتى نجد أنفسنا أمام لوحة تعيد إنتاج ذاتها على غرار ما حصل في كل من تركيا إبان تسلم أتاتورك للسلطة، وإيران إثر انهيار النظام الشاهنشاهي، والتراجع الذي حصل في الوعود التي تم قطعها للأكراد بهدف إشراكهم في عملية التغيير ..
    ولو حاولنا – في السياق ذاته – إجراء مقارنة – ولو بسيطة – بين المنابع التي كانت تشكل الركيزة الثقافية لنظام صدام حسين، والمنابع التي تستند عليها الكيانات السياسية السلفية منها والعروبية التي تتناطح على مستقبل العراق، لوجدنا أنهما تشتركان في مفهومي التفرد والاقصاء، ولو اختلفت الوسائل، بحكم اختلاف المعطيات وتوازنات الحالة السياسية ..

فالأول بنى نظامه على ابتلاع الكل العراقي بالحديد والنار والفتك بالمعارضة من خلال استخدامه للأسلحة الكيماوية وزج الآلاف من أبناء الشعب العراقي في غياهب السجون أو وأده في المقابر الجماعية، والثاني يحاول احتكار الكل العراقي والاستئثار به، وذلك خدمة لأهواء ومصالح هي وليدة ذات الثقافة وذات النزعة، غير مدرك لا بالحقائق التاريخية ولا بالجغرافيا ولا حتى بالتشكيلة الديموغرافية للعراق، لأنه لو أمعن في ذلك، لوجد أن العراق الحالي هو ليس بالعراق العروبي، بل هو نتاج معاهدات دولية – قسرية – وأن الحالة الكردية – التي هي مثار جدل وموضع خلاف – لم تكن في يوم من الأيام تشكل العجينة التي تتكيف بها أنظمة الحكم، وإنما كانت شرارة الحرية وبذرة الديمقراطية في عراق العصر الجديد، لا بل كانت كردستان موطن المناضلين والمعارضين للاستبداد، ومن مختلف الأطياف والتلوينات السياسية .

أما وقد اختار الشعب الكردي، وعبر لسان قيادته السياسية وبرلمانه المنتخب خيار الاتحاد والفيدرالية، فهذا يجب ألا يشكل مطلقاً لدى الأوساط السياسية العراقية بمختلف المشارب، وكأنه خيار التسكع والمولاة للمشاريع التي تفوح منها رائحة العنصرية، خاصةً إذا أدرك أصحاب هذه المشاريع بأن المستقبل سيكون إلى جانب النتائج التي أفرزتها انتخابات إقليم كردستان حين صوت الغالبية إلى جانب خيار الاستقلال فيما لو جرت الأمور وفق العقليات التي تحاول انتزاع المكتسبات الكردية وطمس الملامح التاريخية للمناطق الكردية كما يجري الآن بصدد قضية كركوك والمادة 58 من قانون إدارة الدولة، ناهيك عن عدم وعي هذه العقلية لحقيقة وجذور الخلافات التاريخية الدائرة في العراق، والتي تؤكد بأن الصراع الكردي كان – ودائماً – صرعاً على الوجود والبقاء، صراعاً مع أنظمة الحكم، ولم يكن – مطلقاً – صراعاً ذا طابع اجتماعي أو مذهبي، بمعنى آخر لم تكن الحالة الكردية في مواجهة الحالة الاجتماعية العربية، بل كانت بالنسبة لها السند ونقطة القوة، على النقيض من الصراع العربي – العربي في العراق، والذي يستند إلى موروث من حالات الاحتراب وبرك من الدماء بين المذاهب والأطياف ..
    من هنا كان على التيارات السياسية والمذهبية في العراق أن تعي حقيقة أن خروج الكرد من معادلة العراق، وعدم تحقيق مستلزمات الطرح السلمي للشعب الكردي، هو فقدان البوصلة للمسار الديمقراطي لعراق المستقبل، أي فتح صفحة جديدة من صفحات الاقتتال الطائفي والمذهبي في العراق العربي …      

   

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود حينما كان الرئيس الراحل عبد السلام عارف يُنعى في أرجاء العراق منتصف ستينيات القرن الماضي، أُقيمت في بلدتي النائية عن بغداد مجالسُ عزاءٍ رسمية، شارك فيها الوجهاء ورجال الدين ورؤساء العشائر، في مشهدٍ يغلب عليه طابع المجاملة والنفاق أكثر من الحزن الحقيقي، كان الناس يبكون “الرئيس المؤمن”، بينما كانت السلطة تستعدّ لتوريث “إيمانها” إلى رئيسٍ مؤمنٍ جديد! كنّا…

نظام مير محمدي *   عند النظر في الأوضاع الحالية الدائرة في إيران، فإن من أبرز ملامحها ترکيز ملفت للنظر في القمع المفرط الذي يقوم به النظام الإيراني مع حذر شديد وغير مسبوق في القيام بنشاطات وعمليات إرهابية خارج إيران، وهذا لا يعني إطلاقاً تخلي النظام عن الإرهاب، وإنما وبسبب من أوضاعه الصعبة وعزلته الدولية والخوف من النتائج التي قد…

خالد حسو تعود جذور الأزمة السورية في جوهرها إلى خللٍ بنيوي عميق في مفهوم الدولة كما تجلّى في الدستور السوري منذ تأسيسه، إذ لم يُبنَ على أساس عقدٍ اجتماعي جامع يعبّر عن إرادة جميع مكونات المجتمع، بل فُرض كإطار قانوني يعكس هيمنة هوية واحدة على حساب التنوع الديني والقومي والثقافي الذي ميّز سوريا تاريخيًا. فالعقد الاجتماعي الجامع هو التوافق الوطني…

تصريح صحفي يعرب “تيار مستقبل كردستان سوريا” عن إدانته واستنكاره الشديدين للعملية الإرهابية الجبانة التي استهدفت دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية بالقرب من مدينة تدمر، والتي أسفرت عن سقوط عدد من الضحايا بين قتلى وجرحى. إن هذا الفعل الإجرامي يستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، ويؤكد على خطورة الإرهاب الذي يتهدد الجميع دون تمييز، مما يتطلب تكاتفاً دولياً جاداً لاستئصاله. كما يُعلن…