الأحزاب الكردية والأمن السوري.. الجزء الثاني

د. محمود عباس
 

مما لا شك فيه، أن
عملية التجديد تبدأ بتغيير بنية المؤسسات ذاتها، ومن ثم القيادات، وتليها برامجها
وأدبياتها ومطالبها، وأيضا مجالات تعاملها، وبهذا سيتحرر المهنيون في داخلها.
والتحرر بطبيعته تطوير للذات. فطرق التعامل مع الآخر، والتلاؤم مع المستجدات
الخارجية، وما شابهها هي الثقافة البديلة. فقدرة التحرر الذاتي تتلازم مع القناعة،
وبتغيير نهج المؤسسات المحتضنة لهم، تكمن تغييرهم؛ لأنهم التحموا معها وأصبحوا
جزءا لا يتجزأ منها، فبدونها كالسمكة التي لا قدرة لها على العيش خارج الماء. إذا
سمح لهم الظرف، في حال الفصل عنها أو الاختلاف مع الأغلبية، لن يتوانوا في البحث
عن مماثلاتها، وعلى مقاساتها، الفكرية والنضالية، ولا بد أن يحشروا ذاتهم في قوقعة
مشابهة ليسيّسوا ويتحركوا ضمن أمثال تلك الأجواء. فالتحرر من جغرافيتها الفكرية أو
سويتها النضالية، لا تزال منفية في أعرافهم، فتكوين النسخة وتكرارها، وفي معظم
الأحيان بالأسماء نفسها، دلالة على ضحالة الإمكانيات الفكرية والثقافية والسياسية
وعلى ضعف خلق البديل. 

عمليا الشريحة
القيادية، في معظمها، تشبه كهنة المعابد، يتباركون أمام الطوطم الحزبي، ويتناسون
كلية الوطن والغاية القومية، لقد تقمصتهم هذه المؤسسات، وأصبحوا عبيدها وعن قناعة.
وهذه تظهر من خلال واقع أعمالهم اليومية، حيث فروض الطاعة للحزب والقائد، ولعب دور
التكيات والإرشاد من أنصاف الآلهة، المرافقة مع خشي قوة محاطة بالمؤسسة غير واضحة
المعالم. 
 
ما يتطلب من
الحركة الكردية عامة، السياسية والثقافية، وخاصة خريجي الأحزاب، دراسة الماضي الحزبي، لمعرفة سلبياته وإيجابياته،
واستخلاص أسباب الفشل، وهجر أساليب ذاك الماضي بعلاقاته وتكتيكاته وتعاملاته، وطرق
نضاله. المطلوب إحداث تغيير ثوري فيه، والتخلص من الموروث المريض، والذي نادرا ما
حمل الإيجابيات، والبدء ببناء نوعي مغاير، وعلى قاعدة وطنية قومية، تكون فيها
المؤسسات الحزبية مطية لبلوغ الهدف، لا العكس.
 

فالتغيير الذي حدث
في الأحزاب الأربعة لم يتعدَ الشكليات، وبقي الطوطم مسيطرا، وظلت القيادات نفسها، بل وتراجعت في عدة نواح،
حيث ظهرت وجوه لا قدرة لهم على تسيير تكية فما بالكم بحزب يراد منه قيادة شعب،
وتسنمهم لمراكز عليا لم تأتِ حسب قدراتهم بل لوسعهم على تنفيذ الإملاءات الخارجية،
لتبقى الدونية من غير تغيير، ناهيكم عن تخلف الحزب، وتلكؤ النضال، حتى لا يتجاوزوا
الشروط المفروضة عليهم وعلى مؤسستهم، لتبقى قديمة كسابق عهدها رغم تحديثها
الظاهري. ولم تشذ عملية تكوين الكانتونات عن أخواتها، وكذلك القيادات التي
ترأستها، وطريقة البناء، والأجندات المفروضة على الطرفين في التعامل اللاتعامل،
حيث الخلافات الدائمة، ونبذ مباشر من قبل قيادة الإدارة الذاتية لأطراف من
المرجعية المتكونة على خلفية  غير ثابتة،
رغم حدوث فترات تقارب، كانت فيها من الخداع والنفاق على الشعب أكثر من النهوض به،
ومعظمها كانت للتغطية على عمليات التدمير الممنهج للقضية والشعب، ومنها التهجير،
والتعتيم على كردستانية المنطقة، وتشويه الحركة الثقافية، وزيادة معاناة الشعب،
وغيرها من المشاكل.

 

 السلفية الحزبية آفة لا تقل عن وباء الفكر
الديني المتزمت، فالذين يتقمصون الماضي ويبنون عليه، دون رؤية السلبيات هم الذين يساهمون
مع السلطات على بلوغ الحاضر الهش، وظلوا في قيادات القوتين، بمجلسيه، الوطني
والشعب، وبتكوينهما، الديمقراطي الكردستاني والإدارة الذاتية الكانتونات والحزب
الطاغي عليهما (لا نذكر الأحزاب الأخرى الجارية في فلك الطرفين فهم أجزاء لا
تتجزأ، ولا حول لهم ولا قوة) ولن يتمكنوا من بناء مستقبل ناجح، إلا إذا درسوا
الظروف والمجالات التي ناضل فيها القدامى واستنبطوا أسباب فشلهم، ومعرفة السبل
التي أدت بهم إلى ذلك، والبحث عن طرق ودروب أخرى، ومما لا شك فيه، إذا ظلت
الأساليب وبنية التكوين ودروب نضال الأحزاب الحاضرة هي ذاتها التي سار عليها
السلف، وبقيت القيادات هي ذاتها حيث اللامناسب في المراكز، فالنتيجة ستكون نفسها،
الفشل. والجاري تظهر هذه الحقيقة المؤلمة، فالصراعات نفسها ونقاط الخلاف ذاتها،
والانتماءات الإقليمية لم تتغير، والاتهامات بين مريدي الأحزاب وقادتها لا تخرج عن
البنية الثقافية ذاتها، وإعلامهم تمجّ نفس الأساليب، والمعارك الإعلامية الرخيصة
لم تتغير منذ عقود، رغم التطور الحضاري الهائل في المجال الاتصالات، لكن المحمول
عليه من الأفكار والمفاهيم والمواد هي ذاتها، ويقودها أشخاص يتلذذون بالخلافات
الشخصية، والتفنن في خداع الآخر والتحايل عليه والإبقاء على الصراع وتفاقم
الانشقاقات في عمق السياسة.

 

ثلاث سنوات وأكثر،
والاتهامات على قدم وساق، تسطر على محورين، الأول الخيانة، والتعامل مع سلطة بشار الأسد، والثاني
الجلوس في فنادق خمس نجوم، والتقاعس عن الواجبات.

 

الوطنية أو عدمها،
والارتماء في حضن السلطة كلاهما لن يعودا بالمأمول على القضية. وما يؤسف له أن الطرفين في الأروقة الدبلوماسية
يتلاسنان بعضهما البعض أكثر مما يعرضان قضيتهما على الحضور.

تكتسب القضية
الكردية راهنا أضواء لا تستهان بها، ليس كما كانت في القرن الفائت. ونظرا لهذا علينا جميعا أن نكون على قدر المسؤولية
في استغلال الظرف الحالي قبل فواته. ومسألة اغتنامه تقع على عاتق الأحزاب الكردية
بالدرجة الأولى. ما يطلب منها هو الإجماع على ما يجمعنا جميعا وهذا ممكن إذا صفت
القلوب وحسنت النوايا.

 د. محمود عباس

الولايات المتحدة
الأمريكية

mamokurda@gmail.com

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…