ماتت الثورة!

د.
محمود عباس

 

  ماتت ثورات الشرق! طمرت معها المفاهيم والشعارات
التي حرضت الشعوب، خلفت الدمار، وخلقت المآسي، ولا تزال العبثية مستمرة، فرمت
بالشعوب إلى جحيم المعاناة! على هذه الألاعيب الإعلامية، تستند الأنظمة الشمولية،
أمثال سلطة بشار الأسد وإعلامه وأئمة ولاية الفقيه، وخليفة الثورة البلشفية،
روسيا، يعرضون الماضي بكل شروره ويضعونها في موازين المقارنات مع الجاري.

 

 والأخرين الذين ألصقتهم السلطات الشمولية بالثورات،
وأتهمت بأنهم ذخيرتها، وقادة التكفيريين والإسلام السياسي روادها، فصدقوا
المقولة، وأصبحوا يكررون المفاهيم، وينشرونها بين الشعوب بخباثة،
 إلى أن سادت على الأغلبية من المجتمع
الشرقي، بل وفي العالم الخارجي أيضا، أقتنع بها شريحة واسعة من المثقفين، وقادة
الأحزاب الانتهازية، وتجار الحروب، وصدقت المنظمات الإسلامية الإرهابية الدعاية،
وبرزت ذاتها على أنها ألهبت الثورات (يعنون ثوراتهم، حيث إسلامهم) وهم أصحابها، فأصبحوا
يستنكرون مفاهيم الثورة الحقيقية، وروادها الأصليون، والذين فجروها وقادوها سلميا
ولشهور، مثلما تفعلها الأنظمة الشمولية، وألغوا كل ما له علاقة بأهداف الثورة الشعبية
الشبابية، الذين يدحضون جمود الفكر الديني وتزمت الإسلام السياسي، والمندرجة ضمن
مفاهيم أسقاط الأنظمة وليست السلطات الشمولية وحدها.

 

 ومن المحير أن هذه الدعاية الإعلامية تشعبت لأبعاد
مخيفة، وبلغت سويات عليا لدى شريحة من المثقفين والسياسيين المستقلين، فنشروها بين
الشعب كحقائق، ونحن هنا لا نتحدث عن مثقفي البلاط، ومريدي الأحزاب الشمولية
والانتهازية، بل الذين ساندوا الثورة يوما، تغيروا وينشرون مفاهيم السلطات
الشمولية والتكفيريين والمنظمات الإسلامية الإرهابية بدون إدراك، إلى أن اصبح الإنسان
العادي يتحير في كيفية دحضها حتى ولو كان غير مقتنع بها، لأنهم غطوا على مدارك
الأغلبية من المجتمع، تسندها الشرور والآثام وجحيم المعاناة التي خلفتها الأنظمة
الشمولية، إلى جانب قدرة السلطات على تجنيد جيوش من الإعلاميين لتغذية الأفكار
والانتقادات الموبوءة، وتنميتها بخباثة. 
 
   خلقوا
التكتيك الإعلامي هذه، على خلفية صراعهم الفاشل والمهلك مع الشعب. وبعد تأكد السلطات المستبدة بأنها لن تتمكن
الخلاص من حتمية السقوط، اشتغلت على دحض الخلفيات التي تستند عليها ثورات الشعوب، فنموا
مفاهيم الإسلام المتطرف، وعلى أعتابها خلقوا المنظمات الإرهابية بعباءة الإسلام،
ليشاركوهم في تدمير الوطن، وخلق الجحيم الأرضي، 
وعليه أفرزوا ظاهرة مقارنة الجاري المدمر بالماضي المستقر، وعرضت الذات
بجمال هدوءه ولذة الاستقرار تحت شمولية الطغيان، والأوبئة التي كانت تنخر
المجتمعات، والثقافة المليئة بالشرور، بما يجري اليوم على ساحات الوطن من الدمار
والقتل والهجرة، وعبث المنظمات الإرهابية.

 

  كما
ونشروا الأفكار المناهضة للثورات، على معادلتين:
 1-موتها
وهي في مهدها، بيد الأحزاب ومنظمات الإسلام السياسي، والذي لا يقل فسادا
وشرورا من السلطات الشمولية.
 

2-أو أسناد
الحركات الشبابية وثورة الشعب، إلى قوى إرهابية تبغي التسلط على الأنظمة العلمانية، وتود إعادة الشعوب إلى
عصر الظلمات، وتبيان عدمية الثورات في ظل طغيان الثقافة الدينية الخالقة
للتكفيريين والإرهاب المتطرف. ولا شك الأنظمة قد بنت هذه الركيزة الفكرية الثقافية
على مدى العقود الماضية، كدرب استثنائي للخروج عند مواجهة الشعوب. 

 
 بشار الأسد في صراعه مع المنظمات الإرهابية
الإسلامية، يعيد تاريخ نيرون مع المسيحيين في روما، ويحرق بشار الأسد سوريا
مفتخراً بالانتصار، مثلما أحرق نيرون روما متلذذاً. فكلما تزايد ضخامة القتل وحرق
المدن، وتمزيق الأشلاء، يزداد بشار نشوة، وهي نفسها التي قيل عن طاغية روما
(نيرون) ليس متلذذا بحرق المدينة بقدر ما كان يتلذذا بقتل الشعب تحت حجة قتل
المسيحيين المعارضين وعلى أنقاض روما، وهو الذي حرض المسيحيين فيها، بعد أن بلغوا
قوة، ليجد تبريرا لقتل الشعب الذي ثار على استبداده، فحرك المسيحيين وحرضهم
ليندرجوا ضمن الثورة ليس لتغيير نظام مستبد، بل ليصارعوه على السلطة، وهكذا خلق
نيرون التبرير لمجازره. يتكرر اليوم المشهد في المدن السورية تجربة روما، وتبقى
هناك الثورة السورية مشتعلة، على الجهتين، وبثوار يصارعون الثقافتين، ويناضلون من
أجل سوريا جديدة قادمة.
 

 التطابق واضح، وتبرز من خلال تباهي بشار الأسد
في مقابلاته وحواراته عن انتصاراته على الإرهابيين، دون الانتباه إلى الألاف
من الأطفال السوريين القتلى والمشردين في الأصقاع، والجائعين، وسوريا المدمرة،
والجحيم الذي أغرق فيه الشعب بكليته. أنه يعكس جنون نيرون بكل أبعاده، مجرم مع
شريحة وقوى تدعمه، جردوا من الإنسانية بمطلقها، ولا يحوي في ذاته سوى روح باحثة عن
عوامل الحفاظ على استمرارية سلطته، فأمن بالشر والقتل والتدمير دروبا للبقاء، فلم
تعد للإنسانية من وجود في داخله، مثلما هي معدومة عند المنظمات الإسلامية
الإرهابية الذين يقتلون البشرية، على منصة الأديان ومرأى الألهة الذين يؤمنون بهم. 

 
  قتل
نيرون، وانحسرت المسيحية ضمن جدران الكنائس، وبلغت الثورة أهدافها وبقي الشعب يعيش حراً. شرقنا يكرر تجربة
التاريخ، في عصر ينعدم فيه الزمن وتتقلص الأبعاد المكانية وتنهار الجغرافيات
السياسية.
  

ملاحظة:
(لا تموت الثورات) موضوع البحث القادم.

  

د.
محمود عباس

الولايات
المتحدة الأمريكية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…