عقد اجتماعي وليس زعيم تاريخي

إبراهيم خليل

إنَّ الفارق الوحيد في ثقافتنا بين من يوصف بالمستبد والدكتاتور والطاغية وبين من يوصف بالقائد والمعلم والأيقونة الثورية شيء واحد هو العاطفة والمزاج, والعاطفة كلمة قد تجد ترجمتها في الحياة الزوجية أو الأسرية لا في بناء الأوطان وتأسيس الدول وتربية المجتمعات.
فهتلر وستالين كان كل منهما نبياً في نظر ملايينه وشيطاناً رجيماً في نظر ملايين الآخر, وكلاهما دخل التاريخ من أوسع أبوابه رغم الدمار والخراب الذي سبباه ليس فقط لشعبيهما ولكن لمعظم شعوب الأرض في أربعينيات القرن الفائت.
ونحن – كُرد سوريا- لسنا بحاجة إلى “شخصية جامعة” تلتف حولها الجماهير وتهتف باسمها الحشود, لقد ولى ذلك الزمان مع غروب شمس القرن العشرين وإن كنا ما نزال نعيشه ونتقبله وننتظره.
 ولننظر فيمن حولنا من الدول والشعوب المتحضرة هل نراها ملتفة حول ” شخصية جامعة ” تختزل فيه إرادتها وتأتمر بأمره وتنتهي بنواهيه وتعلق صوره في كل مكان تاركة له التفكير والتدبير معاً ؟!
 أم نرى مجموعات من البشر الأحرار تقيم في أقاليم مستقلة من الأرض قد انتخبت حاكماً ونواباً بموجب اتفاق ضمني يلتزم طرفاه ( الحاكم والمحكوم ) ببنوده وأوكلت إليهم إدارة شؤونها ورعاية مصالحها كواحد من العمال والخدم وما هي إلا وتنتهي مدة خدمته فتعاد الانتخابات الاعتيادية ويفوز سواه بشرف خدمة الناس والمجتمع بموجب الشروط ذاتها.
وتجنباً للدكتاتورية البغيضة التي ما زلنا نعاني منها, فقد ابتكر العالم الحر مبدأ يسمى بمبدأ ” فصل السلطات ” فصل بموجبه بين السلطات الثلاث, ومنع, بقوة القانون, أن تجتمع في يد شخص واحد أو هيئة واحدة مهما بلغت من الوطنية والحكمة والشمولية والتفاف الجماهير حولها وهتاف الحشود باسمها.
فإذا تعنت الحاكم ( أو الزعيم ) وتشبث بكرسي السلطة بعد انتهاء مدته القانونية وجد أمامه سلطة موازية لا تخضع لسلطانه بل تستمد قوتها من القانون والشعب والجيش فتأمره بالنزول عن الكرسي وإلا … 
أما عندنا – عموم الشرقيين – فما يحدث هو السيناريو التالي الفاسد والمجرب أكثر من مرة :
يخرج من صفوف الشعب الثائر والمظلوم فتى من أبنائه الشجعان فتتعلق به الأنظار والقلوب وتخوض معه أو بقيادته الانقلاب السياسي أو المعركة الحربية أو المظاهرات السلمية حتى يكتب لها النصر فترفع الجماهير هذا المخلّص بعد احتفالات صاخبة إلى سدة الرئاسة, وما أن يلبس الفتى الشجاع ثياب الرئيس ويجلس على كرسيه حتى يداخله الزهو ويشعر أنه قد سما على الناس بمقدار ارتفاع كرسيه عن الأرض, ولا يلبث أن تلتف حوله حاشية السوء ونافخو الأبواق فتقنعه أن الفضل فضله وأن الناس كلاب إن جوعتها حرستك وإن أشبعتها أكلتك, وتتكفل الأيام والسنوات بعد ذلك بتحويل الفتى الشجاع إلى طاغية مجرم, صوره موزعة في كل مكان إلا في القلوب, وجلاوزته يقتلون الرجال ولا يقتلون ذكرهم ويحبسون الأباة ولا يحبسون إرادتهم, ويعذبون الكرام وقد عجزوا عن النيل من كراماتهم.
وفي تلك اللحظات العصيبة, يدرك الشعب أنه بحاجة إلى ” مخلّص ” يخلصه من هذا ” المخلّص ” ولكن هيهات فإن قوة الإكراه فاقدة الشرعية لا تتصدى لها سوى قوة جماهيرية تملك من القوة أكثر مما تمتلك من البصيرة, لا ترفع برنامجاً إصلاحياً بنائياً بل شعاراً راديكالياً  متهافتاً هو” ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة ” صاغه منذ عقود إمام المخلّصين العرب في العصر الحديث البكباشي جمال عبد الناصر.
وفي ظرف صعب ومصيري كالذي يمر به كُرد سوريا اليوم, لا أرانا بحاجة أبداً إلى أن ” نتعلم من كيسنا ” ونلاحق وهماً نظنه موسى وهو فرعون. ومن أجل بناء كياننا الصغير على أسس سليمة منذ البداية, أجدنا بحاجة إلى أمرٍ صغير جداً هو قانون وضعي نافذ يقوم على العلمانية والديمقراطية وتداول السلطة والمساواة بين المحكومين, قانون ينتقص من حرية الأفراد لا ليذلهم ويهينهم ويعرقل مصالحهم بل ليجمع كافة تلك الحقوق المنتقصة في شخصية اعتبارية واحدة هي الدولة ( أو الإقليم أو الكانتون ), وهذه الدولة بدورها تستفيد من فائض حريات الأفراد الذي حصلت عليه بأن تصهره في ” قوة إكراه ” تحكم بواسطتها بين مواطنيها وتنظم أمور معاشهم وأمنهم, وبكلمة واحدة وموجزة : لسنا بحاجة إلى زعيم تاريخي, نحن بحاجة إلى ” عقد اجتماعي “.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف تعود سوريا اليوم إلى واجهة الصراعات الإقليمية والدولية كأرض مستباحة وميدان لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى والإقليمية. هذه الصراعات لم تقتصر على الخارج فقط، بل امتدت داخليًا حيث تتشابك المصالح والأجندات للفصائل العسكرية التي أسستها أطراف مختلفة، وأخرى تعمل كأذرع لدول مثل تركيا، التي أسست مجموعات كان هدفها الأساسي مواجهة وجود الشعب الكردي، خارج حدود تركيا،…

روني آل خليل   إن الواقع السوري المعقد الذي أفرزته سنوات الحرب والصراعات الداخلية أظهر بشكل جلي أن هناك إشكاليات بنيوية عميقة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد. سوريا ليست مجرد دولة ذات حدود جغرافية مرسومة؛ بل هي نسيج متشابك من الهويات القومية والدينية والطائفية. هذا التنوع الذي كان يُفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل للأسف إلى وقود للصراع بسبب…

خالد حسو الواقع الجميل الذي نفتخر به جميعًا هو أن سوريا تشكّلت وتطوّرت عبر تاريخها بأيدٍ مشتركة ومساهمات متنوعة، لتصبح أشبه ببستان يزدهر بألوانه وأريجه. هذه الأرض جمعت الكرد والعرب والدروز والعلويين والإسماعيليين والمسيحيين والأيزيديين والآشوريين والسريان وغيرهم، ليبنوا معًا وطنًا غنيًا بتنوعه الثقافي والديني والإنساني. الحفاظ على هذا الإرث يتطلب من العقلاء والأوفياء تعزيز المساواة الحقيقية وصون كرامة…

إلى أبناء شعبنا الكُردي وجميع السوريين الأحرار، والقوى الوطنية والديمقراطية في الداخل والخارج، من منطلق مسؤولياتنا تجاه شعبنا الكُردي، وفي ظل التحولات التي تشهدها سوريا على كافة الأصعدة، نعلن بكل فخر عن تحولنا من إطار المجتمع المدني إلى إطار سياسي تحت اسم “التجمع الوطني لبناء عفرين”. لقد عملنا سابقاً ضمن المجتمع المدني لدعم صمود أهلنا في وجه المعاناة الإنسانية والاجتماعية…