الاستبداد والإبداع

صبري رسول

الأنظمةُ الاستبداديةُ كلها (كسِمة خاصة بها) تحاولُ قتلَ الإبداع وروح المبادرة لدى النّاس، حفاظاً على الاستمرارية، لأن اعتمادَها يكون على الولاءات وليس على الكفاءات.
النّظام الشّمولي يخشى من الكفاءات المُبدعة، فلا يهتم بها كثيراً، بل يراها خطراً عليه، لأنّ الولاءات الشّخصية إحدى ركائز الاستبداد، والإخلاصُ لها بعد التجربة والتأكيد مدخلٌ إلى بناء الثّقة بها.
الاستبداد ينتقي ركائز الاعتماد بعناية فائقة، ويختارُ الشّخصيات التي تعمل بكلّ إخلاصٍ وتتحوّل مع الزمن إلى جزءٍ من النّظام.
في مؤسسات الدولة ودوائرها كلّها، بدءاً من الوزارات وانتهاء بإرشادات زراعية صغيرة في الأرياف، يتمّ اختيارُ مَنْ يديرها (رئيس، مُدير، المسؤول…)  اعتماداً على صكوك الولاء، والإخلاص، وإثبات ذلك بأي وسيلة (الانتماء إلى الحزب الحاكم، أو التّرشيح من قبل صاحب الثقة) وبذلك يُستبعَدُ صاحبُ الكفاءة، لعدم توفّر الشّروط المطلوبة فيه، فتبقى الطاقات الخلاقة، وأصحاب المبادرات المبدعة، والكفاءات العلمية، والخبرات اللازمة تحت رحمة أصحاب الولاءات وأوامرها «الكراكوزية»، لتموتَ قهراً وجوعاً أو للتلاشي مع الروتين. 
في أيّ دائرة كانت، يكونُ الرئيسُ أو المديرُ فيها هو المتحكّمُ بأمورها بشكلٍّ مطلق، لأنّها صورة مصغرة عن طبيعة النّظام، وهو «الأمين والمخلص» على الدائرة، بأمره وإرادته تُنفَّذُ القرارات، وعلى حدود مزاجه تتجمّد المبادرات وتُرفَصُ المقترحات. لأنّه مُعَيَّن من قبل «المعلّم» وفق تعليماتٍ ودراساتٍ عنه، ويملك الحصانة، طالما يدعمُه المعلّم.
في ظلّ ثقافة الاستبداد تتشوّه قِيَم الإنسان، فتحتلّ القوةُ الدّرجة العليا، وينزل الفكرُ والثّقافة حتى تفقد قيمةَ وجودِها، فالمُستبدّ يكتسبُ سماتٍ ألوهيةً، ويدخلُ أهل المشورة لديه دائرة الحصانة المطلقة، فتُصبح مؤسساتُ الدّولة أدواتٍ لتنفيذِ رغباتِ الاستبداد، بينما أجهزةُ الأمن تتغّول لتلاحق المعارضين، وتحمي المفسدين.
هكذا تتعطّل الحياة الطبيعية، ويتشوّه المجتمع، والأخلاق، والدّين، والتّربية. وتتوقّف التنمية، ويختفي الإبداع. ويقودُ المجتمعَ رعاعٌ وجهلة، بعد أن يجعلوا من الوطن مزرعةً يتصرّفون بها وفق رغباتهم، وأهوائهم.
فالاستبدادُ في نظر محمد عبده، أعظم بلاء؛ لأنَّه وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. ولات محمد عندما قامت سلطات الجمهورية العربية المتحدة في الإقليم الشمالي (سوريا) عام 1960 باعتقال قيادات وكوادر الحزب الديمقراطي الكوردستاني (تأسس عام 1957 كأول حزب كوردي في سوريا بالتزامن مع صعود التيار القومي العربي آنذاك) قامت بمحاكمتهم بتهمة “السعي لاقتطاع أجزاء من سوريا وإقامة دولة كوردية”. وعلى الرغم من أن أي تنظيم كوردي سوري لم يرفع منذ…

كتب السيد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني عبر حسابه الخاص على منصة X تدوينة باللغة الكردية ، جاء فيها : “يضيف الأكراد في سوريا جمالاً وتألقاً لتنوع الشعب السوري، لقد تعرض المجتمع الكردي في سوريا للظلم على يد نظام الأسد، سنعمل سوياً على بناء بلد يشعر فيه الجميع بالمساواة والعدالة”. نرحب بهذه الخطوة التي تعكس بوضوح رؤية سوريا دولة متعددة…

شكري بكر كلنا نعلم أنه كان ولا يزال جوهر الخلاف بين تركيا والنظام البائد في سوريا ، وكذلك مع النظام الراهن في دمشق المدار من قِبل قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع هو ملف ال pyd الجناح السوري لحزب العمال الكوردستاني الذي يهيمن على مقاليد الإدارة في المناطق الكوردية في سوريا ، أعتقد أن على إدارة دونالد ترامب الجديدة في…

خالد حسو في هذه المرحلة التاريخية والمفصلية من تاريخ شعبنا والمنطقة عامة أتمنى أن نكون واعين مدركين لمسؤليتنا التاريخية في هذا الظرف بالذات ، علينا أن نمد الجسور فيما بيننا كفصائل وتيارات وأحزاب سياسية من الحركة الوطنية الكوردية والنخب الثقافية والإجتماعية ومنظمات حقوق الإنسان وفيما بيننا وبين شركاءنا العرب. أقول إنه وبالأساس كان إعلام النظام البائد والساقط وكافة الأنظمة المتعاقبة…