وذهابي إلى قامشلو الذي يرتبط بأكثر من وجوب الذهاب، أكثر من لزوم التوجه إليها، ليس لأنها الجهة التي وجدتني فيها أكثر، مع تنويع لا يجارى طبعاً، كما أعتقد من المعارف والأصدقاء : أرمناً، سرياناً، عرباً، كرداً..فحسب، وإنما أيضاً وأيضاً، لأن هناك بعض الأعمال والأمور الإدارية، لا بد من إنجازها، وقد مضى على غيابي الاضطراري عنها أكثر من سنة ونصف بالمفهوم الزمني الحسابي، أما بالمفهوم النفسي، فمن المستحيل حصر المدة الزمنية هذه بالسنين وأضعاف أضعافهما، ومعي ابنتي الوحيدة وهي في السنة الثالثة في جامعة ” الفرات ” بالحسكة، ولا بد من ” توقيف دراسي” في انتظار أمان أكثر في السنة القادمة، وكان عليها أن تكون هناك وهي في السنة الرابعة.. وثمة كثيرون هاجروا أو تفرقوا أيدي سبأ بعيداً بعيداً، وهم في السنة الدراسية الأخيرة من الجامعة، لمعلّلات أمنية وغير أمنية.
لكن ضريبة ” علي أن أذهب إلى قامشلو ” ثقيلة، على الأقل، أنني بقيت طوال هذه الفترة في حالة انتظار أشبه بـ” في انتظار غودو ” لمن يعرف غودو وصاحب غودو” بيكيت “، كون الذهاب صعباً، فهو لا يتم إلا بالحصول على موافقة خاصة من الجهات المعنية، ولدواعي أمنية أيضاً، أما الذهاب ذاتياً، فالنتيجة هي التالي لمن يذهب: سهولة الوصول، وصعوبة العودة أو استحالتها.. الدواعي الأمنية أيضاً قائمة هنا.
في التصريف الاعتباري لجملة ” علي أن أذهب إلى قامشلو ” ثمة الكثير من الاستعداد النفسي وحمولة مكلفة من الأفكار والتصورات والشكوك، إلى جانب ما يمكن حمْله واصطحابه إلى قامشلو: هدايا وغيرها، باعتبار ذلك أشبه ما يكون بالعرف، وهو جميل ومقلق، لأن من الصعب أن تسمي كل من تعرفه الجدير بتقديم هدية له،في النوع والقيمة، والإمكانيات لا تفي بالحد الأدنى من المطلوب، وسط معاناة من ظروف المعيشة هنا في الإقليم، لأسباب كثيرة، في الواجهة: عدم حصوله على مستحقاته المادية من المركز، يضاف إلى ذلك دخوله الاضطراري في مواجهة مع إرهاب داعش ومن معه وغيره، لأجد نفسي بعيداً عن وظيفتي ” باحثاً في مركز الدراسات الكردية – جامعة دهوك “، انطلاقاً من توقيف العمل بالعقود المبرمة مع قادمين من ” الخارج ” مع استثناءات. ويظهر أنني لم أُحظ بأي استثناء، ومنذ أكثر من أربعة أشهر، حيث يتردد حوالي صيوان أذنيّ صدى عبارة: انتظر أستاذ قليلاً، ستكون أول من يرجع إلى ظيفته.. ولا أعتقد أن المعني بالجهة تساءل بينه وبين نفسه ما معنى العبارة هذه، مثلاً: هل ينتظر صاحب البيت الذي أدفع أجرة شهرية تقرب من مائة ألف ليرة سورية شهرياً، وهذا ينطبق على الخضري والفران والمعالجة الطبية التي تكلفني أنا وعائلتي الكثير وسيارة الأجرة والقابض عن فاتورة الكهرباء والماء..، وهل حقاً أن الجهة المعنية قد صرفت عن الوظيفة كل من كان داخلاً في النظام العقدي، وكيف طبّق الاستثناء..؟ …الخ .
لقد عرِض علي العمل في الجامعة من قبل صديق وهو دكتور في الجامعة، كما عرِض علي العمل على إدارة مكتبة ثقافية للجامعة من قبل فنانة مجتهدة في المسرح، إلى جانب أعمال أخرى، شكرت الجميع، وقلت: كل ذلك يمكن التفكير فيه بعد الزيارة إلى قامشلو، سوى أن علي الاعتراف هنا بالمقابل، وهو أن صدمتي بالإقصاء المؤقت أو خلافه، كانت مؤلمة جداً، في مركز شدتني إليه مكتبته العامرة بالكتب وهي سلواي وبلواي في آن، ودون ذلك لا يغريني أي شيء فيه، لأنه يكاد يكون فاقداً لمعناه حيث حدّدت أنشطته كثيراً، وكون وجوه الذين تعاملت معهم ضمناً مثلت مؤاساة لي في بعدي أو ابتعادي عن قامشلو لدواعي أمنية كذلك.
نعم، تشجعت للذهاب إلى روجآا وقد صار بين يدي مبلغ من المال يريحني ويغطي نفقات الطريق في الذهاب والعودة، وما هو ممكن اصطحابه في إطار تقاليد الزيارات عندنا. فشكراً للصديق البعيد مسافة، ذاك الذي أرسله إلي في خانة ” المساعدة ” الفورية: هبَة دون مقابل، والذي لا بد أنه سيُذكر ذات يوم، إن سنحت الفرصة، في مكان آخر طبعاً، وفي سياق آخر بالتأكيد .
وحصلت على موافقة للذهاب دون أن يقلقني التفكير في العودة. ومن المعلوم، أن ثمة من يتجاوب معك في عملية الموافقة من باب التقكير، وهذه حسنة يجب أن تذكًّر وتسجَّل، وكان علي أن أذهب سريعاً وأرجع في أقصر وقت خشية ظهور مستجدات فأعلق أنا وابنتي هناك، وهذا ما يؤخَذ بعين الاعتبار سريعاً، حيث المنطقة في جو ساخن من الحرب، وثانياً، لأن أي سوء تفاهم بين شرقي نهر الفرات وغربيه بالمفهوم الكردي، سرعان ما ينعكس سلباً على بعض ممن يأتون من روجآا، ليكابدو رعب الانتظار.
ولا أخفي أنني أعلمت بعضاً ممن نتقاسم معاً مرارة الكلمة وشظف عيشها من أحبة الكتاب والأدب في دهوك، ليكونوا في صورة الحدث، حيث الصورة التي كنت أتلقاها من روجآا ومن طرفي النهر تزيد في مخاوفي وهواجسي وقلقي أيضاً.
لا أخفي أنني أعلمت أصدقاء وكتاباً لي أنني سأتوجه إلى روجآا للضرورة، وكان هناك من نصحني- حرصاً- بعدم التوجه إلى هناك، وحل المشكل بالوكالة، أو عن طريق أشخاص آخرين ما أمكن، وإذا كان لا بد من الذهاب، فالحرص هو في البقاء ضمن محيط قامشلو من باب السلامة، وكان ابراهيم يوسف في لائحة هؤلاء، اعتماداً على إحداثيات لها علاقة باضطراب الأمن في الجهة تلك.
ثمة جار لي في المركز يعمل ضمن لجنة ” انسيكلوبيديا دهوك ” الضخمة، وقد سلمتهم إسهاماً بحثياً لي بناء على طلب معني بها، أعلمته أنني ذاهب إلى قامشلو وسأرجع سريعاً، إن تيسّرت الفرصة في الوقت المناسب، وهو الكاتب ” مصدق توي “، وقلت له: هل من خدمة أؤديها لك هناك؟ سؤال صغته بصوت خافت بالكاد يُسمع، لكنه سمعه في الحال، ليسمعني ما كنت أتخوف منه: لا شيء.. لا شيء.. شكراً، وصولاً ورجوعاً بالسلامة… ثم: المتخوَّف منه : إذا رأيت كوني ره ش سلم لي، رغم أن بيننا اتصالاً دائماً..
لأكن صريحاً هنا، ربما كما عودّت نفسي على قول ما يمكنني قوله في حالات أو مواقف كهذه، فأنا أعرف قوة العلاقة بين مصدق وكون، وهذا شيء اعتيادي بالتأكيد، سوى أن الموضوع له منحى آخر كان وراء سؤالي المصاغ والمطروح بهدوء، وهو المتعلق بالصلة بيني وبين كون الكاتب، حيث لا تقييم لي هنا لشخصه، وقد تعرضت له ” هو وغيره ” في أكثر من مقال، إنما في سياق العلاقة بين طريقة تفكيره وما هو عليه في الواقع” وعي الذات الكردية – مثالاً “، وما حاولت القيام به إبّان اندلاع الأحداث هو نشر أكثر من مقال أتحدث فيه إلى كتابنا الكرد وبأسمائهم والرغبة في النظر إلى الجاري بذاكرة مغايرة لما سبق، لأن المتحدي لنا جميعاً يتطلب ذلك، لكن بعضاً من كتابنا ومنهم كون أصروا على متابعة ” اللعبة “: الكتابة ” الخاصة ” أو السعي إلى أسلوب لا علاقة له بخاصية الكتابة التي تنير ما بيننا. وتأكد ذلك في العام الماضي، في مهرجان ” جلادت بدرخان ” في دهوك، حين تقدمت منه ومن الكاتب برزو محمود، ليأتي الرد صاعقاً، وربما، متوقعاً: قائمة من الإهانات وثمة من سمعونا، وفي وضع هستيري خشيت عليه من الإغماء وهو يرتجف وقد انخطف لون وجهه، وتحاشيته الصدام معه ما أمكن، وأنا حذر من الصدام بـ” الأيدي ” وربما وسط ذهول مَن حوله.. ولم أرد عليه سوى بعبارة: هناك تاريخ يا كون وسيحكم.. ولعل كاتباً يعرفه ويعرفني جيداً ومن روجآا صدم بموقفه، وهو يستفسر عما قام به، وقد ابتعدت عنه، ليقول له: قريبك”…” هو السبب وقد سمح له بدخول كردستان… ليرد عليه الكاتب كما أعلمني: وهل كردستاني باسمك أو باسمه أو باسم شخص محدد؟ هكذا ببساطة يبرز نجم كون البدرخاني والكردستاني والمزكّى هنا وهناك محسوباتياً، كما كان على مدار السنوات السابقة، كما لو أنه صرّح في ” فلتة ” لسانية، دون وعي منه ما كان يجري، وأنا أواجَه بأكثر من سؤال لحظة استقراري المؤقت في دهوك: لماذا لم تزر إقليم كردستان سابقاً ؟ إنه سؤال يوجَّه إلى أصحاب المعالي من حزبيينا ورابوتهم الإيديولوجي وأمثال كون …الخ.
إنه عبور من نوع آخر إلى حقيقة مؤلمة، في مشهد مؤلم، ما كنت أعتقد أنه سيكون صادماً هكذا، وأنا أستحضر أسماء آخرين جرت بيننا سجالات وسجالات لكن الأمور أصبحت في عداد الماضي، لنكون داخلين في نظام ودي لا مهرب منه. عبور إلى حقيقة، لا أحسب أنها تسمى بهذا اليسر، ونحن نعيش أوضاعاً تتطلب مزيداً من ضبط النفس، وأن ما سمّيته كان ترجمة ما لشعوري المؤلم والآلم لي: كيف لي أن أرى كون في قامشلو، ومعي سلام مصدق، وأتجاهله ! لقد تمنيت رؤيته، لأنقل إليه سلام صديقه وليحدث ما يحدث، لكن ذلك لم يتم حيث الإجازة كانت قصيرة” ثلاثة أيام فقط “، وثمة أصدقاء وأهل، وعن قرب، لم أتمكن من رؤيتهم ولو لثوان، وحين أكتب عما جرى فربما ليكون تاريخاً من نوع آخر لمن يهمه الأمر.
المهم، هو أننا تحركنا، أنا وابنتي صباحاً، لنقترب من نهر دجلة العظيم، نهر الجنة إلى جانب توأمه الفرات، وأنهار أخرى، لنقترب أنا وابنتي من الزمن الآخر، والمكان الآخر، والعالم الآخر، والأرض الأخرى وما تحمله من أثقال وأوجاع، وما حوته من أسرار ومن ضحايا ليست بالمجان ومن شهداء كان عليهم أن يكونوا أولياء أنفسهم وأزواجاً وزوجات ومنتجين ومبدعين …الخ .
لكن عليك، وأنت ذاهب صوب النهر الكبير، كما يُسمى، أن تركّز على الطريق، وماذا يمكن أن يحدث ويباغتك فيه. إنها مجموعة من الاحتياطات النفسية وتداعيات الصور والأسئلة المصمتة ذات الصلة بوضع الإقليم. وبالنسبة إلي، كان علي أن أركّز على مقصدي: أي طرف مهّد لي مشكوراً لعبور النهر صحبة ابنتي، وكيف يمكن اختصار القول وتسمية المطلوب مباشرة، فلا شيء أكثر إيقاعَ معنى من أن تعبّر عما تريد لمن يعنون بأمرك أحياناً من تعبيرك عما تريد في الحال.
كل شيء جرى على ما يُرام، وكان علي لاشعورياً أن أعيش وضعاً نفسياً يتناسب وقربي من النهر ومن الحافة الأخرى من النهر، وابنتي تعيش فرحها هي الأخرى، على طريقتها، بقدر ما تعيش همومها الخاصة، وهي مقبلة على الحياة، حيث الجامعة، وأصدقاء وصديقات الجامعة، والأهل والأقارب ومتخيلات التعاطي الاجتماعي والنفسي.
أووه، يا للنهر التاريخي الشاهد على أكثر من تاريخ، نهر يخترق جغرافيا، أكثر من جغرافيا، نهر صار حداً، ونهر لا صلة له بالحدود، إذ ما أسهل العبور بالقارب، أو عبر جسر ينصَب بيسر، كما هو الجسر التجاري المنصوب،، ولكن لدجلة النهر ذاكرة وقائع ومآس خاصة به، ذاكرة، ربما حتى الآن لم تسبَر كما يجب وفي الحد الأدنى، كما هو لون مائه المتماوج، والذي طوى حيوات كثيرة، نهر يبالي ولا يبالي، فله قانونه الخاص في الجريان والالتفاف حول نقاط ليست ثابتة” دوامات- دردارات “، ويواجه الناظر مهيوب القامة الأرضية، كما لو أن مجراه جسده الهائل والمرن والسهل الاختراق، إنما والسهل الإيقاع بالغائص أو المتهاوي فيه، وأن حافتيه طرفاه اللامتناهيان تبعاً للنظر الطبيعي، وهو يعيش انعطافات، وبالكاد يتحدث صوتاً، فصوته في أعماقه وهنا سر غموضه ورهبته وخوفه، إنه الماء الجامع بين الدم المميع والتراب المحلول، وهو أقرب إلى الرمادي، وتلك ميزته، وأنا أستعيد صوراً عشتها من خلال رؤيتي المباشرة لنهر الدانوب في فيينا، والراين في بون، والسين في باريس، وموسكو في موسكو، ورافي، في براغ…الخ.
وببلوغنا الجهة الأخرى كان في انتظارنا عالم آخر. إنهم في المجمل: قوات الحماية الشعبية: شابات وشباباً، ومن خلال كرفانات، ومساحة مقتطعة من الأرض معدَّة للمزيد من الضبط المكاني والوظيفي، وثمة شعارات وصور على صلة مباشرة بما هو قائم.
لا أخفي، ومن خلال ما كان يصلني من أخبار، أنني كنت متوثباً في داخلي، وأعيش توتراً موصولاً بالواقع في الطرف الآخر.. لكن رؤيتي غير المتوقعة على خلفية المتردَّد لوجوه لم أكن أتوقعها، أراحتني كثيراً، إنها وجوه محامين: عارف جابو، المحامي، والكاتب، وصاحب موقع عفرين المشهور والذي من خلاله كان لي إطلالة طويلة وقبل أكثر من عشر سنوات، عبر مئات المقالات، عارف الأثير الذي جمعتنا ليلة عامرة بالود والكلام الموجوع بالمقابل، في بيت شاعرنا حسين حبش في بون المدينة جارة الراين المدللة ذات ليلة صحبة الجار في البلد الإعلامي نواف خليل، وصحبة محامين آخرين كانوا متوجهين إلى أربيل في مهمة لها صلة بعملهم الحقوقي: قهرمان عرفان وسواه، حيث لا أتذكر أسمائهم.. نعم، أراحوني برؤيتهم، وحين أنجزت معاملة الدخول، وأنا أجمع بين وجه وآخر من الموظفين الكرد في النقطة الحدودية النهرية، وضمناً ممن كانوا ” يفتشون ” السلع الداخلة، يزداد يقيني الفرِح بما تلهفت إليه، لم ألتمس فرقاً، أي فرق، بين وجه كردي وآخر، أو وجه كردي وآخر لم يكن أو ليس كردياً ضمن قوات الحماية الشعبية، وخصوصاً جهة التسهيلات، ومعرفة المعنيين أنني كاتب.. إنه العبور الأهم لحاجز له صلة مباشرة بالمتكون نفسياً بالتأكيد، وإن كان مرتبطاً بالدائر في نقطة معينة ..
ثم أطلقت العنان لعيني الاثنتين لتحري الجهات من حولي، وابنتي بدورها كانت تعيش عالمها الحسي والنفسي على طريقتها، والمفرح جداً، أننا اثنانا، فقط كنا في ” الميكرو ” وليس من راكب آخر، تلك الحافلة التي جاءت بمجموعة من المحامين إلى النهر” معبر سيمالكا”، الحافلة التي أشار إليها المحامي قهرمان، فكان ما كان، ليكون السائق ” أبو شيرو êro، والذي عرفته سولين ابنتي، وسلمت عليه، فهو سائق الميكرو الذي كان يقلها هي وصديقاتها يومياً سابقاً من قامشلو إلى الجامعة في الحسكة، وكان الطريق الذي استغرق قرابة ساعتين وفي جو مشمس ودافىء من الداخل ملهماً ونشطاً، وتحديداً من خلال أبو شيرو العفوي والإنسان العادي إنما العميق بروحه، وتحديداً حين أصر على الأخذ بنا إلى المكان الذي نريد ودون أي مقابل .. يا للكرم الأخلاقي قبل كل شيء!
والطريق الواصل بين المعبر الحدودي المائي ونقطة وصولنا كان شبه مستقيم، سوى أن الصورة الواقعية لم تكن كذلك، من خلال حواجز كثيرة يستحيل تجاوز وطأتها، لأن ثمة واقعاً طارئاً، أعني بذلك جو الحرب، وأكثر من الحرب بالذات، فالحرب جبهوية، حدودية، أما هناك فثمة مباغتات قاتلة، لذلك يجري التشديد على الطريق والتأكد من هوية الأشخاص كثيراً، وبالمقابل، فإن رؤية ” الحراقات ” التي حلت محل مصافي النفط تصدم العين والأنف، من خلال انتشارها إلى جانب الرائحة وعبر الدخان الذي كان أن يغيّر من معالم البيئة، حيث السماء ذاتها لم تعد لازوردية، كانت من المستجدات اللافتة، ولا رؤية السماء باتت كما كانت بألقها، ولا الكائنات على ما يُرام، وخصوصاً في محيط رميلان، ولعلّي، وأنا أمعن النظر في المرئي، حيث الرائحة تنفذ عبر مسارب الحافلة تأكيداً على صفاقة وقوة نفاذ الرائحة الواخزة، لعلّي قرأت في الكتاب الحرّاقاتي قبل كل شيء، عبارة واحدة فقط وفي كل الجهات، وهي ” وإنما نأخذ ما أُعطينا “، إذ بقدر ما يشدد الناس على تشغيلها، بقدر ما تسهم في بث الرائحة الخانقة، وتنشر ألسنة دخانها في الجهات، لتجمع بين البشر وغير البشر في وقْع المصاب، ويظهر أن المتعاملين معها، وجرّاء انشغالهم بسبل العيش والرزق، نسوا أنهم يتعرضون لنوع من الجلد الذاتي، وهم تحت وقع المدمّر للصحة والبيئة، ليؤمنوا مادة للتدفئة هي المازوت، والإنارة، وكذلك للسيارات، كما لاحظت ذلك في المدينة” قامشلو وغيرها ..
نعم، ها هي قامشلو في ثوبها الحدادي لمن يعيشها من الداخلها، وحدث الحِداد جار، لكن رؤية البشر في الشوارع، وحركة السيارات، والسلع المعروضة، تترجم نشاطاً لا يخفى، كما لو أن المدينة تشهر مقاومتها، وتصر على البقاء ما بقي الدهر.
قامشلو حيث بوغت أقرب المقربين إلينا بنا ونحن نطرق باب أحدهم” باب بيت خال سولين “، حيث لم نعلِم أياً منهم بمقدمنا، مفاجأة سارة ومربكة، كما هي المفاجآت التي تعيشها سوريا بالكامل، وقامشلو وسواها من المدن بالجملة، مع فارق الإيقاع والمتحصَّل، حيث الحياة تفصح عن وضعية تواصل من نوع آخر، رغم بروز زيادة مضطرة في ألسنة تتحدث لهجات ولغات أخرى تمثل القادمين من المدن المنكوبة وتلك التي سويت بالأرض أيضاً.
نعم، عشت في سباق مع الزمن، وخلال ثلاثة أيام بلياليها، وبهمة أصدقاء وأحبة، تمكنا من إنجاز ما يلزم، خلال المدة هذه استطعنا بلوغ الهدف الذي نشدناه، ليأتي دور الاتصال بالأهل والأصدقاء والمعارف… وهنا الألم والمعاناة… يا للوجوه التي تترجم وضعياتها من الداخل! ثمة الكثير مما يسند حياة الناس، لكن الواقع المعيشي صعب للغاية، وهناك لا بد من التذكير أن كثيرين ممن هم في ” الداخل ” يعتمدون على مساعدات مالية تردهم من ” الخارج ” ومن خلال أبنائهم وبناتهم، دون ذلك لكان الوضع كارثياً..
يبقى بيتي وطني الأول، قاعدة انطلاقة روحي، عكازة شيخوختي، مرصدي الكوني، تلسكوبي، أوقيانوسي في ذات النقطة، ومن خلال مكتبتي التي يستحيل علي وصف الحالة وأنا داخلها، كما لو أنني أردت إعلام كتبي: أحبتي، خلاني، سمّاري، ممرات روحي السرّية، جوانحي الخفية، شعلة أصابعي لرؤية المقروء في العتمة، طوربيدي البحثي العابر لحدود، أجناسي وأقوامي ولغاتي، حكمتي وزعرنتي، إيماني وإلحادي، خيري وشري، أهلي الدائمون والمقيمون في الروح، سوما القلب، أو إكسيره، مكتبتي التي انشطرت بدورها، حيث أصبحت كتب لي بدورها في وضع غير آمر، في ارتحال بين جهة وآخر، ولدي نواة مكتبة وأكثر في دهوك، ولا يعلَم ماذا يجري غداً، أعلمها بنكبتي وهزيمتي إمام إرادتي، واستماتة إرادتي في جعل الهزيمة آنية نشداناً لحياة لا تفوَّت. مكتبتي ثراء الروح الذي لا يُرد في أسمى موقع في الروح، لتختلط رائحة شهور وشهور مكتبية العلامة مع رائحة البيت حيث العائلة والأولاد وخيالات أصوات الزوار أصحاباً وأصدقاء إلى جانب الأقارب..كانت النظرة تقوم بواجبها في مأسوية المعاش داخلاً .
وجوه كثيرة بدت غريبة، حتى تلك التي ألفتها أنا سابقاً، حيث بدت خرائط متحركة ممحية أو شبه ممحية علامات الصحة فيها: العيون، سمات، الذقون، الأفواه، الخدود، طريقة السرد في الكلام…الخ، كما لو أن كلااً منهم يعيش عزاءه الخاص، ويقاوم في الوقت نفسه.
حدثني الصديق الدكتور فرزند علي، عميد كلية الآداب في الحسكة، والذي له الفضل الأول في تسيير أمور سولين جهة التوقيف الدراسي، حدثني في سهرة حميمية في بيته، عن مآسي الطلاب والطالبات: الأكثرية من الإناث، فأغلب الذكور متخفون، أو خارج البلد لأسباب كثيرة: سياسية واجتماعية واقتصادية، بقدر ما حدثني الدكتور أنطون أبرط عن عنف الدائر والخوف على المكان وأهليه، بقدر ما شدد الأستاذ كبرئيل فيلو وقد التقيته في المصرف التجاري السوري الذي لما يزل يتابع أعماله عن كارثة البلد، حدثني.. حدثني..
بصدد الأعمال المصرفية والمالية، فوجئت بهذا التوقيت الثابت: صرف الرواتب في الوقت المناسب” رأس الشهر “، فوجئت وباعتباري متقاعداً، كيف صرفوا راتبي لأكثر من سنة ودفعة واحدة، وفي جو الحرب.. إن ذلك مدعاة لأكثر من سؤال، ونحن نعيش حدث الحرب والعنف والخوف ومواجهة الموت يومياً على مدار الساعة، وعمر الموت المدمر للبلد وأهل البلد وإرهاب القائم منذ أكثر من سنوات ثلاث ونصف.. فوجئت وأنا أمعن النظر في استعراض عسكري، لقوة نظام، حيث الدوشكا منصوبة في شارع الوحدة الرئيسي، وفي الطرف الآخر، على طريق المطار، الحسكة، رأيت قبل ذلك استعراضاً عسكرياً لقوات الحماية الشعبية وبعلم وشعار مغايرين..
إنما أيضاً لوائح وآرمات أو لوحات تسمي أحزاباً وهيئات وأنشطة لها طابع تحزبي، كما لو أن المدينة تفصح بلسان مستقيم عما ليس مستقيماً، ففي عجالة المتشكل، يكون خوف المتحصّل ..
وأعلمني الصديق والشاعر فرهاد عجمو عن بؤس المعاش والمدار، وهو شامخ الروح رغم انجراحها في محله، الذي حمل لافتة وعليها كلمة واحدة ” مغلق ” والواجهة شبه بلورية، وفي نصف المحل ثمة ستارة وضوء في الطرف الآخر، ووجدتني أنقر على البلور نقرات متتالية وعيناي تتابعان الداخل بطريقة مرصدية تلهفاً لرؤيته، لأسمع هسيساً ودبيباً، ليكون القادم فرهاد نفسه..لتكون المشاعر الصاعدة والمتقاطرة والمسربلة في الرؤية في العناق والكلام المرئي..
أعلمني فرهاد بالكثير الكثير، بينما الضباب والغمام والدخان ثالوث يتخلل كل عبارة، ولاح لي وجهه حامل مرآة منداة بوجع لا يخفى وهو يقول: ها قد جئت.. إنما ماذا يفعل المرء.. تصور وأنت تحضر مناسبة ما فتجد أن أغلب الوجوه غريبة عليك..
الكلمات لا تكفي في التعبير، والتعبير لا يكفي إيصال المعنى، والمعنى معذور، ورغم ذلك كان هناك نزعة جهادية للتواصل، حيت انزاحت حدود وحدود وتراءت وحدة حال في جغرافيا كاملة تعنى بوجع يغطي جسداً كبيراً ينزف وينزف، وثمة من يداوي، وثمة من يلهب الجرح، وثمة من يطعن الطعنة تلو الأخرى في الجرح عينه.. قلت ما آخر ما لديك.. أراني مقاطع معهودة من محنته، وأورد هذا المقطع بالكردية والترجمة التي اقترحت لها :
Eger
We min
Li skakên Qamilo nedît
Berê xwe bidin
Goristana Hilêlîkê
Û li kêlên gora min
Bigerin
والترجمة المقترحة، كما أسلفت، هي:
إذا
لم تروني
في أزقة قامشلو
يمّموا شطر مقبرة هلالية
وابحثوا عن شاهدتيْ قبري
إنها حياة أخرى برسم التوقيف، بقدر ما يكون ذلك موتاً مؤجلاً، بقدر ما يكون نعي حياة، وحياة مشدَّد عليها، ممن يتمسك بها، ليكون حديث الشعر شعر الحديث في حديث تجاوز نطاق المحل والشارع وقامشلو وحواجز الطرق والاستعراض العسكري والحراقات..
قامشلو التي حاولت أن أتنفسها، أن أستنقشها بخلاياي، لأمارس فلترة من نوع آخر لها، ليس على قياس الحراقات، وفيها الأهل والذين استقروا فيها طارئين بانتظار عودة ما، ثمة الكثير مما يعنيها، ثمة الكثير الذي لم أستطع بلوغه والبحث فيه، جرّاء ضيق الوقت، من ذلك بلوغ عامودا والذهاب إلى بيت الصديق الراحل حسن دريعي أو رؤية أهله: أولاد عمه الأحبة، وسواهم . من ذلك عجزي عن رؤية أصدقاء كان علي أن أراهم فلم أرهم لضيق الوقت كحال العزيز شكري حمزة وأعزيه هو الآخر بوفاة والدته. من ذلك رغبة الحميمة برؤية الصديق الكاتب خليل حسين، فلم أتمكن، والصديق عزيز توما الذي فشلت في مهاتفته في تربي سبي، وكذلك الصديق الآخر زهير يوسف في قامشلونا، وهذا ينطبق على الصديق محمود ومحمود ومحمود…الخ.
آلمني أنني لم أتمكن من رؤية الأخ عبدالغني أخ الصديق الكاتب ابراهيم يوسف لأمر هام يشغله على مدار الساعة: أرشيفه العمري.. وآلمني وآلمني وآلمني أنني .. وأنني وأنني … الخ.
في بيت الصديق أمير عبدالكريم الذي عزيته بوفاة والدته، صحبة الصديق الدكتور فرزند، رأينا العديد من الأصدقاء: جمعة المصاب بقرحة عينية تؤلم النظار إليه، ومعه أخوه الدكتور خليل، وزهير هاجري وسواهم، حيث همُّ الجاري والقادم والمتوقع كان يشغلنا جميعاً..
قامشلو التي لم أودّعها، إنما حملتها بين جانحي روحي مجدداً، حيث بيننا أكثر من عقد وجدي صحبة ابنتي، حيث يتقاسمان فرح اللقاء وحزن الفراق الذي لا نعرف نهايته، لتكون العيون أبلغ في التعبير، والشهقات أوفى بالجاري روحياً..إنما لنكون أيضاً أكثر طمأنة على أن ثمة تحدياً للتحدي، وإصراراً على الحياة من قبل أهليها، عبر مظاهر حياة تترجم نفسها، بقدر ما تقلق إزاء المخطط له داخلاً وخارجاً.
في سلوك الطريق نفسه والنهار مشمس، كان لنا مسرد مشاعر وعواطف وأفكار من نوع آخر، ومعنا كم وافر من الحقائب إذ أثبت الأهل والأقارب والأصدقاء أنهم كرماء رغم شح الموجود، كما لو أنهم أرادوا أن يدخلونا في ” طقس المسارة ” ويعمدونا روحياً..
الطمأنة التي يجب أن تثبت كانت أيضاً لحظة البلوغ النهرية، والقيام بإجراءات روتينة للانتقال إلى الطرف الآخر. هنا، لا أستطيع نسيان الود في عيون وأيدي القائمين بهذه الأمور حرّاساً وموظفين، وعبر تكرار كلمة ” هال “، الكلمة التي لا أخفي تحفظي عليها جرّاء استهلاكها من قبل كثيرين سابقاً، وحتى راهناً لدى نسبة تعتبرها مدخلاً إلى ما تريد، سوى أنني ارتحت إليها من خلال سرعة الإنجاز، وعبر من أبصرتهم للمرة الأولى، وأنا أجالس الأخ ” بدرخان ” وهو في أوج عنفوانه وتفهمه للقادم إليه وانفتاح أساريره. شعرت معه بأريحية وحبور جراء الاهتمام، وكل ذلك يضاف إلى الرصيد الاعتباري أو القيمي لجملة العاملين على امتداد الطريق وفي أمكنة مختلفة، إذ يكون نسيج الوطن.
عظُم في عيني سائق ” الفوكس ” الذي حملنا معه أمتعتنا صحبة آخرين، حيث أخذنا مكاننا بجواره، أنا وسولين، والذي رفض بدوره أن يقبض مني ثمن إيصالنا إلى عتبة النهر المنبسطة، العتبة المطقطقة بسريرها الحصوي اللماع، وهو يقول: انتبه، نحن أيضاً لدينا طريقة خاصة لتكريم من يستحقون التكريم ..
بعبورنا النهر الكبير مجدداً، كنت أمد بناظري في الجهات الأربع، وأشعر أن الماء النهري نفسه بدا في هيئة عملاق بهي الطلعة.
بعبورنا دجلة ” الخير”، تلقانا المعنيون بتفتيش الأمتعة، وقد وضعتُ كيسي الكتب التي اصطحبتها معي على الطاولة الحديدية، وقد استشعرتها سخنت بترحاب المعني المباشر بالتفتيش من خلال التعارف، ليسَرع في تسيير أمورنا.
وأنا أشكر له تقديره واهتمامه بنا، أردد هنا ما قلته قبل بلوغ الطاولة الحديدية وبصوت مسموع: آمل أن يأتي يوم لا يحتاج أي منا إلى إذن بالعبور شرقاً وغرباً، حيث ينفتح جسر عبور لوطن واحد لا حواجز فيه، قلتها بصوت مسموع، وقد لاح طيف ابتسامة في محيا الآخر، وفي الخلفية عبرني النهر الكبير وعبّر لي بعَبرة وعِبرة، وكأنه يردد الصدى ويجري أكثر توازناً وانسجاماً بروحه المائية .