ابراهيم محمود
في أحدث تصريح له، وبنبرة حادة، كما ترجمتها ملامحه، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، أنه لن يرسل مستحقات إقليم كردستان المالية، إلى جانب أنه لم يعد بذلك ليفي بوعده. انتهى التصريح!
لعل ذلك سيعيدنا، وضمن الإقليم الكردي خصوصاً إلى دوامة التجاذبات الكبرى وفي هذا الظرف شديد الحساسية والخطورة.
ذلك ما يستدعي القول المأثور” ليس من صداقات دائمة ولا عداوات دائمة “، طبعاً هذا ينطبق على العلاقات الدبالوماسية بين الدول، أما بشأن الكرد، فيظهر أنهم استثناء قاعدي، وفي الحد الأقصى: إذا كان من صداقات معلنة فهي عرَضية وفخّية في المجمل، وإذا كان من عداوات فهي الجوهرية تاريخياً.
وبصدد تصريح العبادي، لا أظن أنه تصرف شخصي، إنما ثمة ما يشبه القاعدة المتَّبعة حيث ينطلق منها كما يرجع إليه جل ساسة العراق في التعامل مع الكرد في ” إقليمهم العراقي “، ومن يريد التأكيد ما عليه إلا دراسة هذا الجانب، وخصوصاً بعد 14 تموز 1958 .
ما يؤسف له، وكون الكرد في عراء تاريخ الآخرين، يكون ” بيضهم ” في الغالب مودعاً في سلّاتهم، ولكلٍّ سلة بمقاس معين: حجماً ولوناً وشكلاً ووزناً، لكنها تبقى سلة، سلة خفيفة الوزن، كما هو الاستخفاف بشعب كامل، والشماتة بـ” بيضه ” وهزء العلاقة لحظة ترْك السلة وهي ترتطم بالأرض وفيها البيض الكردي السريع العطب أو الطبش .
في كامل التاريخ الحديث للمنطقة، وخصوصاً في القرن العشرين، لا يجد الكرد ما يحفّزهم على التحرك كما يريدون بدافع ذاتي، فثمة إملاءات موجودة وقائمة دائماً، أو وصايات بزعْم الاستجابة لمطالبهم، ويكون التجاوب في باب ” شر لا بد منه ” أحياناً، إذ ليس من سبيل آخر لهذا التجاوب رغم أن الدرس التاريخي شديد العلقمية هو بؤس المراد والمردود في الخاتمة.
الآخرون باعتبارهم ساسة دول ذات سيادة، يمتلكون قدرة على المناورة، ولكل منهم خطوط تحركه المسجلة، وحتى فضاء علاقاته، والمراوغة داخلة في حرِفية هذه اللعبة السيادية، وهذا يشمل الدول التي تقاسمت كردستان، بحيث صيَّرتها أجزاء منها، والكرد تبَّع قسريون لأنظمتها في المجمل، وأحياناً ما دون الأقلية ” تركيا نموذجاً، ولزمن طويل، لنتذكر أتراك الجبل ! “، أنظمة لم تدخر ولا تدخر جهداً حتى لحظة كتابة هذه الكلمة للدخول في مناورات، لا بل ونسج أكاذيب كون هذه ” ملح ” سياستها وبزيادة، إنه ملح القوة الحامي والدامي معاً في التناول، وما على الكرد المقسمين والمدفوع بهم نحو انقسامات داخلية بصيغ شتى، ما عليهم إلا أن يبتسموا أو يعبّروا عن أريحية معينة تجاه ما يجري، لأن الكذب له نطاقه، وما يمنحه قدرة على التحرك ونفاذ الفعل، حيث الكرد غير قادرين على القيام بالمثل، لفقدانهم المقدرة السياسية على ذلك، وانعدام المبادرة انطلاقاً من فعل القوة ومهبطها وفسحتها وحدودها ..
وحيدر العبادي الذي كان حتى الأمس القريب وبين بغداد وأربيل، يظهر تعاطفه مع الإقليم ويثني على دوره الإنساني الكبير فيما يقوم به تجاه اللاجئنين والنازحين، إلى جانب تعهده بأنه مقدم على إيجاد حل لكل المشاكل العالقة، ولا بد أن تعهده بالعربي خلافه تالياً مع الكرد لحظة شعور العبادي، كما كان السابقون عليه، بالضعف والحاجة إلى الكرد في الإقليم، ها هو كلام من نوع آخر في الترجمة العملية والحدثية .
إنها عداوات شبه دائمة تجاه الكرد بالنسبة للأنظمة المعروفة في المنطقة، ولا بد أن العبادي في تصريحه هذا، مقدّر للمرحلة الصعبة التي يمر فيها الإقليم والأخطار التي تتهدده بأكثر من معنى، رغم أنها أخطار تحمل بصمة المركز أو بتنشيط منها بداية، وربما فيما بعد، إزاء تلكؤ المركز هذا في التصدي لداعش المعرَّب المركزي، أو الممثّل بصورة للمركز ضداً على الإقليم.
ربما أمكن القول، أن العبادي ومن معه في طاقمه المركزي، لديه كامل الاستعداد في أن يجعل العراق من ساسه لرأسه داعشياً، على أن يرى الإقليم وهو يصول ويجول بتلك الثقة غير المسبوقة، كما لو أنه كيان سياسي مستقل، وكما هو عليه الآن في ” ضيافة ” أميركية أو حماية دولية ما، لأن المهم هو من يسيطر على الأرض، ومن يحكم من، ومن يتحدث باسم من. ولعل شعور العبادي ومن معه، بهذا التركيز الإعلامي الدولي، والضخ المرتبط بالدعم العسكري له، وخصوصاً بعد انتقال قوة بيشمركية إلى كوباني، يترجم أكثر من ” حسد ” على مستوى السياسي، إنه غيظ لافت، جرّاء هذا الخرق لصلاحيات المركز، كما لو أن الأخير هو الإقليم والإقليم هو المركز، وتلك سابقة خطيرة في التقدير.
ذلك يضع الإقليم في مواجهة أخرى، لا يعرَف مدى أهليته للتحدي وهو يتحرك على أكثر من جبهة، حيث العامل المالي عصب مركزي في الاستمرار، ولكنه في مقام ” العصا الغليظة” ونوع من التلويح بالتهديد والارتداع، بقدر ما يدفع به إلى اتخاذ مرونة أكبر في التعامل وإعلام ذوي السلطة دولياً، وما يكون عليه دوره وموقعه غداً أو بعد غداً، قبل ارتطام السلة الجديدة القديمة على الأرض، ومعايشة مأساة من نوع آخر، ليس في وسع أي كان تصور أبعادها الآلمة والمؤلمة والصادمة ليس لكرد الإقليم وساسته وإنما للكرد عموماً في الجوار.