أحمد اسماعيل اسماعيل
ليس الحوار من أجل التفاهم والتواصل بين الأفراد والجماعات بالجديد في تاريخ البشر، فمنذ بدء الخليقة والإنسان في حوار مستمر لم يقتصر على بني جلدته بل تعداه إلى كل الكائنات المرئية وغير المرئية، الجامدة والحية.
فقد عني فلاسفة الإغريق بالحوار وأفردوا له مكانة لائقة في كتاباتهم، كحوارات سقراط ومحاورات أفلاطون. ناهيك عما قدمه المسرح الإغريقي في هذا المجال، ففتح باب الحوار حتى مع الآلهة، ولقد كان معيناً وزاد للحضارة الغربية التي انطلقت من جديد في عصر النهضة.
وبالعودة إلى تراث المنطقة وتاريخها سنجد أن السومريين كانوا من أوائل من لجأ إلى الحوار، وذلك في شكل قصائد شعرية، كالحوار بين السيد والعبد، وحوار النسر والحية، وفي عهد الخليفة العباسي المأمون تحولت المناظرات والحوارات بين الأديان المختلفة، حتى غير السماوية، والمذاهب إلى تقليد له أصوله، وذلك برعاية من الخليفة نفسه. ولم يغفل القرآن الكريم هذا الجانب بل ذكره في أكثر من موضع، كهذه الآية الكريمةالتي تظهر الدعوة إلى الالتزام بآداب الحوار بشكل واضح إذ يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
ولقد برز المعتزلة في التاريخ الإسلامي كأولى المذاهب المعنية باحترام حق الاختلاف قبل غيرها من المذاهب إذ كان العقل في فكرهم هو المرجع الأول حتى في الإيمان.
وفي النصوص الدينية الإيزدية الكردية القديمة، كالحوار بين الأرض والسماء، والحوار بين الأستاذ والتلميذ، ما يؤكد عنايتهم بهذا الجانب.
إن كل ما سبق الإشارة إليه من حوارات ومناظرات فكرية وأدبية ودينية، وما حفل به الفكر الأوربي من دراسات ونظريات بهذا الخصوص، يشكل زاداً معرفياً وفكرياً وروحياً وبوصلة يسترشد بها المثقف في استخدامه الحوار من أجل ترسيخ مبادئ العيش المشترك بين مكونات الشعب السوري.
لا شك أن مفهوم العيش المشترك مثل باقي المفاهيم، ليس واحداً لدى الجميع، فهو يختلف من جماعة لأخرى، وخاصة لدى الجماعات السياسية بمختلف توجهاتها، لأسباب يطول شرحها في هذه العجالة، إذ أن كل منها مرهون بجانب دون الآخر، كالقوة أو المصالح أو الأجندة أو حتى الثقافة والتربية الاجتماعية، تقرأه كل جماعة من زاوية معينة، ومنظور خاص بها، يتقدم فيها عنصر من عناصره المكونة على غيره، حيث يتقدم عنصر الآمان لدى جماعة على الحرية، أو يتصدر جانب التسامح على المكاشفة والنقد لدى جماعة أخرى، وأمن الوطن على الخصوصية لكل مكون، في قراءات وشعارات تطفح على السطح كلما غرقت البلاد في أزمة، لتنحسر مع نهاية الأزمة، ثم تعود المشكلة مرة أخرى، وبأسلوب جديد، وهكذا دواليك، كل ذلك لأن هذا الحوار كان آنياً، ووليد اللحظة، وبقصد إدارة أزمة، وهو قبل كل شيء سياسي بامتباز: في كل مفاصله ومفرداته، ولقد أثر ذلك كله على مصداقية حوار الساسة في الشارع السوري، وعدم جدواه، لأن السياسة كانت على الدوام، ولجملة من الأسباب، محل شك وارتياب، بل وسخرية،
في ظل كل ما سبق تبقى الثقافة الحقل الذي مازال يحتفظ بمصداقيته ونزاهته، رغم حرص كثير من المثقفين على البقاء بعيداً عن قضايا ساخنة ذات بعد سياسي أشكالي على أكثر من مستوى، مثل قضية الأقليات الدينية والأثنية، والاكتفاء بدور الجناح في ملعب السياسيين.
ولقد أثبتت الأحداث والتاريخ خطأ هذا الموقف. وفداحة الثمن الذي تم دفعه.
وبالضد من كل ما سبق حدوثه يأتي دور المثقف في منح مفهوم التعايش الأخوي المشترك في الوطن بما ينسجم مع طبيعة الثقافة في بعدها الإنساني العميق والاستراتيجي.
وذلك لن يكون بلا إقرار بأن الحوار الذي سيستخدمه لن يكون آنياً ولا مرتبطاً بأجندة سياسية، وأساسه المكاشفة واحترام الرأي والرأي الآخر والاعتراف به، ويبدأ بنقد كل ما سبق حدوثه من ظلم وغبن في جرأة تليق بالمثقف، والهدف النبيل الذي يسعى لتحقيقه.
قد يكون من المفيد، والمثير للسخرية والتأمل، مراجعة موقف النظام من مسألة الأقليات، ومنها الشعب الكردي في سوريا، في زعمه اليوم أنه الحامي لها من غلو الأكثرية العربية والسنية، وحماية هذه الأكثرية ووطنها من أحلام هذه الأقليات، ومساعيها لاقتطاع جزء من أرض الوطن وإلحاقه بدولة أجنبية، التهمة التي كان يكررها النظام ضد كل كردي خاصة يرتفع صوته ضد سياسة التهميش والغبن والقهر بحق شعبه، وتسويق هذه التهمة في الشارع العربي، واعتقال صاحبه، حتى ولو كان الصوت ينادي:عاشت الأخوة العربية الكردية، كم فعل في بداية سبعينات القرن الفائت مع مجموعة من الشباب الكرد الذين رددوا هذا الشعار في حفل عام، في سياسة تهدف إلى ضرب كل ما يؤصل العيش المشترك بين كل المكونات الوطنية.
ومنذ ذلك الحين بقي رد فعل النظام هو هو، المزيد من الاعتقال، والتشويه، على دعوة الكرد للأخوة الكردية العربية، دون أن يجد الكرد من يردد صدى هذا الشعار في الشارع العربي، لا أدبياً ولا فكرياً ولا سياسياً، خلا استثناءات قليلة جاءت بشكل مهموس وفي أوقات عصيبة وبقصد إنساني أقرب إلى الشفقة منها إلى شيء آخر، وطني أو حضاري، بل أن أصوات مشبعة بثقافة التركز على الذات والتخوين تعالت في مقارنة مطالب الكرد بالمشروع الإسرائيلي، وبأن “خودي”، الذي يعني باللغة الكردية الله، قد وعد، على غرار رب الصهاينة، الكرد بوطن قومي، ولذلك لابد من الحذر من هذه الملة وعدم التعامل حتى مع الطبيب الذي ينتمي إليها لأنه سيصف السم للمريض العربي بدل الدواء الشافي.
هذا ما كتبه باحث عربي أبان انتفاضة الثاني عشر من آذار سنة 2004، وكتابات أخرى في الصحافة السورية لكتاب سوريين وعرب، تماماً كما ظهر ذلك في كتابات عربية إثر الانتفاضة الكردية في العراق في تسعينيات القرن الفائت، تصدى لها الباحث الكردي السوري إبراهيم محمود في كتابه “صورة الأكراد عربياً” بالنقد، وقبلها ظهرت كتابات من هذا القبيل في سبعينات القرن الفائت لكتاب عرب أمثال عبد الرحمن مجيد الربيعي في قصة له بعنوان روناك، وجمال الغيطاني في “حراس البوابة الشرقية”.. وكتابات أخرى متفرقة، دون أن يكتب مبدع عربي نصاً أدبياً يتناول فيه شخصية كردية أو حدثاً كردياً يُعرف القارئ العربي بشريكه ومواطنه الكردي، خلا قصة للكاتب السوري إبراهيم الخليل، وقصيدة للشاعر الكبير محمود درويش. وأخرى لمهدي الجواهري.
ومن الضرورة الإقرار بما حدث في الثاني عشر من آذار سنة 2004 في قامشلي من انتفاضة عارمة مازالت تسمى لدى الكثيرين بالفتنة، من نهب لمحلات الكرد وبيوتهم، وما يحدث الآن في مدينة الحسكة، من اقتتال دموي، ليس سوى نتاج ثقافة غير أصيلة، ترتكز على المشاعر والانفعالات ومساحات فارغة من وعي أبناء الوطن الواحد التي لم تجد من يستثمرها ويملأها سوى مروجي التعصب والعنف من ساسة وأنصاف مثقفين وأرباع متدينين، مستعلين غياب ثقافة ترتكز على مفاهيم حضارية ووطنية مختلفة عن كل ما سبقها، الآخر فيها ليس عدواً، والاختلاف ليس خلافاً، والحوار ليس جدلاً أطرافه يتخاصمون، بل أنداداً يتفاهمون.
ثقافة مبنية على أسس ومرتكزات قوية مثل قيم حقوق الإنسان، والاعتدال، والاعتراف بالآخر، وتقبله، والإقرار بالشراكة الوطنية التي تستند لحقائق تاريخية ووقائع اجتماعية وروابط مصيرية تجمع بين الشعبين اللذين يجمعهما جسد الوطن الواحد منذ تاريخ موغل في القدم، لم تستطع المآسي التي تعرض لها الكرد على يد النظام البعثي الشوفيني ومن جسد سياسته وانتهج نهجه في الشارع العربي ممن قمع الكرد بالأمس بوجه سافر وراح يكرر فعلته اليوم ضدهم وضد عموم الشعب السوري بقناع يغطي الوجه أو عصابة سوداء على الرأس.
إذا كان الحوار الذي يسعى إليه اليوم المثقفون من كل طرف بقصد التفاهم، فلا بد من الإسراع بالقول: إن التفاهم بين المكونات الوطنية، وخاصة بين الكرد والعرب، كان موجوداً منذ زمن بعيد، وهو يتجسد في كل تفصيلة من تفاصيل الحياة المشتركة بينهما، بهذا الشكل أو ذاك، بدءاً بالمطبخ وعاداته، وليس انتهاءً بعلاقات المصاهرة، والجيرة، والعمل، والحقل، وإن بشكل عفوي وبسيط، والحوار الجاري بين النخب ما هو سوى تتويج لما كان موجوداً بين أبناء الوطن الواحد، والارتقاء به إلى حوار حيوي وشامل، يترفع عن الجدل العقيم بين أدعياء الثقافة الظلامية والأحادية التي يزعم كل خصم فيه أنه يمثل صوت قومه. أو المناقشة بين مثقفين هدفهم الاستعراض أو حتى التعبير عن وجهات النظر.
لقد أثبت التاريخ الحديث فشل كل المشاريع القومية، العربية منها والكردية، التي لجأت إلى حرق المراحل وإلغاء الوحدة الوطنية المبنية على أسس المشاركة الفعلية لكل أبناء الوطن الواحد في كل المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وبغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني والمذهبي، ليصبح كل توجه من هذا القبيل في هذا الزمن بالذات ضرباً من الغباء السياسي، وهروباً إلى الأمام من استحقاقات هذه المشاريع، وأسسها، من تنمية وعدالة وحقوق إنسان وشراكة وطنية في البلد الواحد.
وإذا كانت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه تبدأ بالبحث عن المشتركات، وهي في الحقيقة أكثر من أن تحصى، حاضراً وماضياً، سجلها التاريخ لنا في معركة حطين التي وقعت في يوم الرابع من أيار سنة 1187 بقيادة صلاح الدين الأيوبي، بجيوش كردية وعربية وتركمانية تحت راية واحدة هي الإسلام، بلإلى تاريخ سابق عليه بزمن بعيد، تجسد في ما حدث سنة 612 قبل الميلاد حين تحالف الميديون والبابليون ضد عدوهما المشترك الإمبراطورية الأشورية.
وكما في الماضي، فما زال التاريخ القريب والقريب جداً يقدم لنا أمثلة لا تحصى عن الروابط والعلاقات والمصالح، زادتها المعايشة وصلات القربى والتاريخ المشترك حيوية ومتانة وأصالة، وبقيت ثابتة رغم كل ما أصابها من تصدعات بفعل فاعل، لم يكن لعمله أن يتكلل بالنجاح لولا جهل كل طرف بحقيقة الطرف الآخر وخصوصيته ومدى ارتباطه بالأرض والوطن وطبيعة هذا الارتباط وحقيقته.
ولأن الثقافة ذات الطبيعة الإنسانية في مطلقها الحضاري هي التعددية، والعقلانية، فهي المؤهلة أكثر من غيرها للعب هذا الدور، شريطة أن يكسر المثقف محارته، ويتصدى لكل القضايا الحيوية والساخنة بجرأة.
كتب بول باران يقول: “إني اقترح أنه, عندما يتعلق الأمر بموقف إزاء القضايا التي تطرحها الصيرورة التاريخية بأكملها, يجب أن نبحث عن الخط الفاصل بين العمال الفكريين وبين المثقفين؛ إن الرغبة في الكشف عن الحقيقة ليست إذن سوى أحد الشرطين ليكون الشخص مثقفا. أما الشرط الآخر فهو أن يكون شجاعا, أن يكون مستعدا للذهاب بالبحث العقلاني إلى أبعد مدى .. أن يقوم بنقد صارم لكل ما هو موجود, صرامة تحول دون تراجع النقد, لا أمام النتائج التي يقود إليها هو نفسه، ولا أمام الصراع مع السلطة أيا كانت”)
أعتقد أن هذا الكلام لا يحتاج إلى تعليق بل إلى تطبيق.
فهل نفعل ذلك أم نترك شعبنا ينتحر بنصال الجهل والعصبية ؟