العيش المشترك وقبول الآخر

سعيد فرمان

مع انتهاء حقبة أو مرحلة الحرب الباردة , وتداعي المنظومات المفاهيمية , الثقافية والفكرية والسياسية التي كانت قانمة على أساس انشطار العالم إلى معسكرين متناقضين ومتنازعين تغير شكل ومضمون الصراع الأيديولوجي والسياسي الدولي , وفُسح المجال منذئذٍ لظهور رؤية عالمية جديدة من سماتها الأساسية إيلاء الاهتمام بقضايا كانت تحتل مراتب متدنية فيما مضى على سلم الأولويات في التوجه الدولي كالمسألة القومية وقضايا الأثنيات التي كانت خاضعة ليس فقط لحسابات الصراع الأيديولوجي – العقائدي بين النظاميين العالميين الرأسمالي من جهة , والاشتراكي من جهة أخرى / بل ولحسابات المصالح الوطنية والقومية الصرفة أيضاً لرأسي النظامين المذكورين رغم كل حالات الاضطهاد التي مُورست اتجاه تلك الشعوب والتجاوز على حقوقها المشروعة التي أقرتها القوانين والمواثيق الدولية , ولم تلاقي قضاياها أي نوع من الاحتضان والاهتمام الدولي والعالمي في المراحل السابقة ,
 خاصة في مرحلة الثنائية القطبية , باستثناء حالات معينة ومحددة وحسب ما ارتأته مصالح القوى الكبرى سواء كانت تلك القوى شرقية أم غربية , فقط منطق المصالح كان المتحكم الأساسي بمصيرها وقدرها ؟ وما إن انتهت تلك الحقبة وتم تجاوزها في النطاق العالمي العام حتى باتت مسألة العيش المشترك (الحر) وقبول الآخر المختلف في الخصوصية والموروث الثقافي والأثني بمفرداتها ومقوماتها التوافقية وبروحها التسامحية بين القوميات والطوائف المتعددة في البلد الواحد أو في الدولة الواحدة إحدى أهم الاتجاهات والمحاور الرئيسية للرؤية الجديدة لحل المسائل والقضايا المتراكمة ومنها تلك التي تصنف في خانة ما هو عرقي وأثني وإن كانت بصيغ وتلاوين مختلفة ومتعددة , والجامع والجوهري في هذا الأمر وبصدد هذه المسألة أنها باتت تُطرح بقوة ووضوح وتستحوذ على اهتمام الكثير من القوى والفعاليات السياسية والفكرية والثقافية , خاصة المنتمية للقوميات والطوائف المضطهَدة . كونها تشكل (مسألة العيش المشترك – الحر) على الأقل كحالة مؤقتة الحل الأنسب للقضايا القومية والعرقية المزمنة للأسباب والدواعي التالية:

 1- مع وجود بعض الأسطر والمحطات الإيجابية والمضيئة في السجل التاريخي الحديث والمعاصر لمنطقة الشرق الأوسط والتي تؤشر لحالات معينة للتعاون والتآزر بين شعوبها والدفاع عنها سوياً ضد الغزوات الخارجية والطامعين بخيراتها وثرواتها .
نعم رغم وجود تلك الحالات المضيئة , فإن ذلك السجل حافلٌ أيضا بصفحات سوداوية اللون وبمحطات سلبية كثيرة وجملة لا يستهان بها من الصراعات التي قامت بين أبنائها من قوميات وأمم وطوائف متجاورة ومتداخلة مع بعضها البعض نتيجة لعدم توفر القناعة لدى من كانوا ولا زالوا يتحكمون بوضع المنطقة , بمسألة حقوق الشعوب والأمم المضطهَدة , ولجوئهم دوماً وكخيار استراتيجي إلى زرع ونشر ثقافة الكراهية والحقد والبغضاء بين الشعوب ومكونات المنطقة مما أثر ذلك سلباً على مسألة التطور والتقدم لشعوب وأمم منطقتنا بكافة تلاوينها ومكوناتها , وأوجدت بالتالي جدراناً وموانع فيما بينها أساسها رفض الآخر والعمل على صهره و معاداته على أساس قومي وعرقي . لقد أثرت هذه الممارسات سلباً وبشكل جلي على مختلف جوانب حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ……الخ وجعلتهم يعيشون في حالة من الفقر والتخلف والجهل .
 لذلك فإن موضوعة العيش المشترك بطابعها الحر وبأبعادها التسامحية المبنية على أرضية قبول الآخر والتلاقي معه كمشروع وطرح يشكل في هذه المرحلة صيغة مثلى للإسهام في معالجة ايجابية وحضارية , ووفق رؤية وطنية وتحت سقفها لمسائل الاستقرار والتقدم , و فتح الأبواب للازدهار والتنمية بشقيها البشري والاقتصادي لمجتمعات وأمم الشرق الأوسط , ورؤية ناجحة لتجاوز وتخطي المعضلات التي تسئ للوحدة الوطنية وتشوه أسسها ومنطلقاتها الموضوعية والواقعية , وتحول دون اللحاق بالركب العالمي المتسارع على كافة المستويات والأصعدة وذلك بعد أن ثَبُت من خلال تجارب العديد من الدول والأقطار وبالدليل القاطع فشل المعالجات الترقيعية الناقصة وأنصاف الحلول التي تطرح بخصوص معالجة القضايا والمشاكل الداخلية ومنها القضايا القومية والعرقية من قبل القوى الحاكمة والمتنفذة للقوميات والأعراق السائدة للخروج من دائرة أزماتها الوطنية التي تزداد استفحالاً وتعقيداً يوماً بعد يوم بسبب معالجاتها الناقصة تلك المغايرة لمنطق الواقع وللحقائق التاريخية والجغرافية لهذه المنطقة , و تأسيساً على هذه الرؤية الموضوعية للأمور فإن مسألة العيش الاختياري الحر تستحق في أن يُنظر إليها كإحدى المسائل الداخلية الهامة (علماً أن مقولة أو موضوعة عزل الداخلي عن الخارجي أصبحت من القضايا التي تستدعي اليوم المراجعة والتحليل المستفيض ) التي تهم جميع مكونات وأطياف شعوب ودول هذه المنطقة , وأن تناولها بشكل جاد وحلها بالركون لروح المسؤولية هي مهمة وطنية شاملة تخص الكل ولا يستثنى منها أحداً ؟ في حين يشكل التغاضي عنها وتركها دون معالجة في أية دولة أو قطر كانت ومهما كانت المبررات والحجج إسهاما من الآخرين في زيادة تعقيد الأمور سواء فطنوا لذلك أم لم يفطنوا, وسوف تلقي بظلالها السلبية على كافة المسائل والجوانب السياسية والحياتية الأخرى , كون القضية التي نحن بصددها تختزل مصير ملايين البشر المنتمين للعديد من الأمم والقوميات والطوائف , ولكونها قضية من العيار والوزن الثقيلين.
 2- تعتبر مسألة العيش المشترك الاختياري المدخل الواقعي والعملي لتقديم الحلول الصائبة لقضايا الشعوب والطوائف المتراكمة تاريخياً في إطار عملية التوافق الديمقراطي ومن منطلق المشاركة الفاعلة والحقيقية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية , كونه ينسجم مع الوضع الدولي الجديد – الناشئ المتسم بالميل والجنوح الواضح نحو الاندماج والتقارب بين الشعوب والأمم ليس فقط على الصعيد المحلي – الإقليمي , وإنما على الصعيد العالمي والدولي العام . والسير باتجاه نشر الديمقراطية والحرية وثقافة حقوق الإنسان , واستتباب الأمن والاستقرار في المنطقة وفقاً لمقتضيات التطور الاقتصادي والسياسي ومنحاه العام الهادف إلى إلغاء وإنهاء المربعات والرقع المضطربة سواء كانت في هذه المنطقة أو في غيرها من العالم .؟
 3- يمكن إدراج هذا الطرح في خانة الرؤى الهادفة وجملة التفاعلات والتجاذبات السياسية والفكرية التي تجري في مختلف زوايا وأماكن المنطقة للارتقاء بالأداء النضالي الديمقراطي السلمي , والإسهام في تطوير برامج ومناهج القوى السياسية والثقافية ودفعها باتجاه التوافق والالتقاء مع ما يطرح عالمياً وكونياً من حلول لملفات عديدة تستلزم التناول الجاد وإعادة النظر فيها بشكل يلبي طموحات ورغبات القوميات والأمم والأعراق المضطهدة ويفتح أمامها الآفاق للانطلاق نحو صياغة جديدة لأوضاعها ولمستلزمات حياتها وعيشها بشكل آمن ومُطَمئن , بعيدا عن حالات الكبت والقمع والتجاوز على الحقوق .؟
 4- يعتبر هذا الطرح في صميمه مشروع تصالحي بعيد كل البعد عن ثقافة الأخذ بالثأر والاستئثار, ولا يلتقي قطعاً مع النظرة الأحادية الجانب أو الشمولية في إدارة شؤون المنطقة وحكمها , ويرمي لبناء وصياغة مرحلة جديدة أساسها الثقة المتبادلة بين الشعوب وتبديد مخاوف وهواجس الآخرين , الذين لا يزالون يعيشون في متاهات وأوهام الماضي المبنية وفق رؤى وأفكار مستمدة في معظمها من نتائج العمليات التقسيمية والتجزيئية التي ابتليت بها المنطقة , والمناقضة لاتجاهات التطور والتقدم العالميين في المرحلة الراهنة , أو على أساس استحضار بعض أوراق الأرشيف التاريخي , تلك التي تناسب منطلقاتهم وتتطابق مع ما يرمون إليه لسحبه على الواقع الحالي , وإن كان بشكل قسري وإرغامي .؟ دون الاعتراف بشراكة الآخرين أو احترام رغباتهم وطموحاتهم المشرعنة سماوياً ووضعياً .
 – وبهذا الصدد لابد من الإشارة لوجود مسألة إشكالية وممانِعة لعملية تنقية الأجواء كي يأخذ مشروع العيش المشترك – الحر طريقه إلى القبول والتطبيق , وهي تكمن في أننا نرى وبالتزامن مع التركيز المتزايد والمتسم بالعقلانية من قبل النخب السياسية والثقافية لأبناء القوميات والطوائف المضطهَدة على الشكل الحر للعيش المشترك , أقول أننا نرى أن طرح النخب السياسية والثقافية المنتمية للقوميات والطوائف الحاكمة بديمقراطييها وعلمانييها وإسلامييها بخصوص حل المسألة القومية والعرقية لا زال بعيداً عن حالة النضج والانسجام مع سمات وروح العصر , ولم يستطع حتى الآن تجاوز طرح الأنظمة والقوى الحاكمة في بعض مفاصله (مع استثناء بعض الأصوات الجريئة الموجودة في قلب تلك النخب , لكنها تبقى أصوات معدودة وغير ذي شأن على صعيد التأثير , على الأقل في المدى المنظور) والطرح الأكثر تقدماً وتطوراً من لدن تلك النخب والقوى بشأن القضية الآنفة الذكر لم يتخطى بعد تصوراتها وقناعاتها القديمة الجامدة , وهو يتمحور شكل رئيسي حول بعض القضايا الثانوية و بشكل تبسيطي مبتذل كمفهوم حقوق الإنسان وبعض الحقوق الثقافية , أي تلك التي لا تلامس أساسيات المشكلة وجوهرها وذلك بسبب وقوعها تحت تأثير وهيمنة المنظومة الإيديولوجية والثقافية لمؤسسات أنظمتها السياسية والإعلامية والفكرية السائدة والقائمة على أساس إلغاء الآخر و تهميشه , وشطب خصوصيته القومية والعرقية المتميزة التي يترتب على مسألة الاعتراف بها التعامل الموضوعي معها لجهة الحقوق كما الواجبات أسوة بأبناء القوميات الحاكمة والنافذة التي تتمتع في أسوأ الحالات بمزايا خاصة بها اقتصادية و…. الخ.؟
 – إن غياب الحل الموضوعي والواقعي للقضايا القومية والطائفية في منطقة الشرق الأوسط على مر الزمن شوه ليس فقط الحياة الاجتماعية والاقتصادية وإنما أدى إلى تشويه الحياة السياسية والثقافية أيضاً , واحتلت الأكاذيب بذلك مكان الحقائق , وفق منطق حقيقة القوة ..! وهنا تكمن المعضلة لأن الاستمرار في عدم الاعتراف بشراكة الآخرين , والبعد عن التناول الموضوعي لمشاكلهم وقضاياهم الأساسية من قبل نُخب القوميات والطوائف السائدة , واللجوء بدلاً من ذلك إلى أساليب قديمة غير مجدية للتعامل معها تؤدي عملياً إلى تعقيد الأمور أكثر , والغوص مجدداً في مستنقع الأوهام الماضوية الكاذبة .؟ في حين بات من الواضح إن الحل الواقعي والموضوعي لكافة القضايا الوطنية , اجتماعية كانت أم عرقية يكمن في الالتزام والاعتراف بمبدأ الشراكة الوطنية والتوافق الديمقراطي والعيش المشترك الاختياري والتحلي بروح التسامح وقبول الآخر , هذه المبادئ التي تنسجم وتتوافق مع روح العصر وسماته الأساسية وتهيئ المناخ والجو الملائم لكتابة صفحات نوعية جديدة أساسها وفلسفتها القبول بصيغة العيش المشترك وإضافتها إلى سجل تاريخ المنطقة .؟؟

14 / 3 / 2014 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…