المقاومة الشعبية ضد الاستعمار الوطني

عبد العزيز التمو

إذا كانت الثورات باتت أحدث مصطلح للتغيير الشعبي ذات الصفة الجوهرية والعفوية معاً غير المؤد لجة، وغير قابلة للتوظيف السياسي مهما كانت خصائصه وهي اقرب الى الصيغة الشعبية، الثورة السورية  برزت كأعلى نموذج عما يعبر عن طبيعته غير المصطنعة حتى اليوم في متحف التاريخ، فهي الثورة التي لم تسبقها أي تخطيط او اعداد حزبي او فردي، ولذلك هي مستعصية على كل محاولة استغلال من قبل دعاة متسلقون قد يفوزون بأجزاء من هوامشها لكنهم يعجزون عن اشتمالها تحت أية عباءة مطرزة بأحلام المناصب العليا الموعودة.
والثورة السورية لا تحقق فقط معجزة الصمود الأهلي والانتصار المستمر على مختلف أصناف الهمجية غير المسبوقة التي يُوقعها أوحش نظام بأطفالها ونسائها ومدنها  لكنها بالإضافة إلى كل هذا الرصيد من المقاومة الواعية المتعاظمة من معركةٍ نكبة مع الاستبداد إلى أخرى مع الارهاب أفظع وأظلم، فإنها لا تستنفد قوى عدوها حتى رمقه الأخير فحسب، بل تحبط كذلك حبائل ما يُسمّى بالمجتمع الدولي الزاعم لنجدتها والساعي عبثاً لاصطيادها عبر شبكيات من مؤامراته وبياناته الاعلامية، وخططه المنافقة ،هؤلاء الزعماء والمسؤولون العالميون المتنقلون من عاصمة إلى أخرى، وألسنتهم لا تكف عن التصريحات الرنانة .
ما يجعل المجتمع الدولي عاجزاً حقاً عن اجتراح الحلول، ليس هو النظام السوري ولا حليفه الروسي فحسب، بل هي هذه الثورة عينها النافرة ما فوق كل مصيدة دبلوماسية أو أخطبوطيه، تريد اختطافها من حراكها الشعبي، من مجهودها الإنساني العظيم هذا، حيثما تعجز المخابرات الدولية وأعوانها عن تقصي مفاصلها الأصلية. هذه الثورة لن تنعب ولن تكلّ. حتى ينهار عملاق الاستبداد، فالثورة ستطارد أقزامه الباقين بعده. لكن الطريق نحو النهاية يبدو ضائعاً بين عقد من الطرق الفرعية الملتوية على بعضها؛ لا أحد يمكنه أن يجزم بموعد مع النصر الحاسم، فلا يزال الطريق اليه شاقا وطويلا ، ولربما ظهرت حالة شاذة لا تنهي النظام كلياً، ولا تطفئ آخر شعلة للثورة. فالتوجّه الدولي يدعي أنه من أنصار الحل السياسي التوافقي الذي يعترف بحدود معينة لكلا الخصمين وفْق معادلة جائرة لا تميز بين الجلاد والضحية. هذا الحل قد يمنع القتل مؤقتاً، لكنه لن يمنع أسباب القتل، ولا يعاقب اصحابه .
خلال أطول فترة تاريخية يمكن أن تعيشها ثورة ما، فإن اهل الشام يعيشون زمنهم الخاص، لا يعدون قتلاهم بقدر ما يعدون الأيام الباقية لانهيار آخر دعامات سقف النظام قبل أن يتساقط على رؤوس أصحابه؛ هنالك حقيقة واحدة أساسية في كل بطولة خارقة، تستمدها أولاً من لحم ودم ضحاياها، عندما يصبح الموت هو الثمن الوحيد لشراء الحياة الكريمة التي يستحقها الرجال الأحرار؛ فمن دون هذا المعيار  لم تعرف الإنسانية إبداعات حضاراتها المتتابعة جيلاً بعد جيل من أبطال الحق والعدالة الفاتحين على عهود الإبداعات الجماعية الأخرى.
في سورية اليوم حقاً حرب تحرير شعبية بمعنى الكلمة، فالنظام القائم آل على نفسه أن يستقطب في فكرة وسلوكه كلّ فنون الغزاة والطغاة ،مستعينا بالميليشيات الطائفية والمذهبية لتغزو الارض السورية .
لقد تأخر غضب  الشعب السوري ، لكنه عندما انطلق جاء بصيغة الثورة التي تتمناها شعوب العصر، حتى تلك المتقدمة منها، والسوريون وهم في أوائل القرن الواحد والعشرين، يدشّنون حقبة حرب تحرير من (غزو) الاستعمار الداخلي. فقد برهن نظام التسلّط أنه قادر على اختطاف استقلال الشعب السوري ، وتحويله إلى استبداد سلطوي اقتصادي لصالح أصغر تكوين عائلي طائفي. فلا يهم في هذه الحالة ان تحتل هذه العائلة قمة الطائفة وتجثم على صدرها وصدر الشعب السوري.
هذا الاستعمار الداخلي، ينبغي وصفه بالوطني بالمعنى المحلي، هو سليل الاستعمار الأجنبي، وهو الحافظ لأبغض ما ترسّب من ارثه الهمجي الأول.
وهذا يفسر التدخل الدولي الغربي في الثورة السورية والانقلاب على حفيدها في سوريا، وبحثا عن دور جديد في المعادلة الدولية ، فرنسا (التي استعمرت سوريا) مثلاً التي تصطفّ علناً وبقوة إلى جانب الثورة السورية، تحاول بشتى الوسائل التبرؤ من هذا الوريث السيء، وتبرهن من خلال مؤتمرات ””””””””أصدقاء الشعب السوري”””””””” ، أنها طامحة حقاً إلى علاقة ندية مع الشعوب المنجزة لحركات تحررها. فرنسا تراهن على تجاوز الحلقات المفرغة لما يُسمّى بنشاطات المجتمع الدولي،  قد يرتسم طريق دولي ثالت، يتجاوز ثنائية الإشكالية ما بين أمريكا وروسيا، وقد يأتي بالحل الأقرب إلى الصفة الأخلاقية، منه إلى صفة الصفقة في تجارة الدبلوماسية العالمية.
هذه الثنائية، بين (بوتين) القيصر و(جورج واشنطن) الأمريكي الأسمر، شكلت سداً مشؤوماً في وجه أنبل وأعمق وأصفى الثورات في العالم ، ربما يُملي فشل جنيف 2 على القرار الدولي التخلي عن حسابات ما يُسمّى بالسياسة الواقعية (الزائفة)، من أجل الواقع العادل الحقيقي؛ ولو لمرة واحدة، ذلك أن تحرير سورية بإرادة ثوارها وحدهم وكفاحهم البطولي ، في حرب التحرير الشعبية التي يخوضونها ، ستاتي على إسقاط أعتى استبداد بدائي همجي في بلاد الشام..

19/2/2014

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…