معاهدتي «لوزان, وسيفر» و «مؤتمر لندن» ..

دلاور زنكي

معاهدة سيفر  ( 10 / 8 / 1920 ):

في 10 / 8 / 1920 أبرمت الدول المتحالفة معاهدة سيفر”[1] في باريس. وقد استطاع الرجل النَّبيه الجنرال شريف باشا بذكائه وكياسته وحسن تدبيره، أن يضيف لمضمون المعاهدة / 3 / بنود متعلقة بشأن الكورد وقضيتهم القومية والوطنية. وقد حاولت الحكومة العثمانية إحباط مساعي شريف باشا بكل ما تملك من وسائل، معتبرة المسألة ذات شأن داخلي ولا علاقة للآخرين بخصوصها. لكن دعوة شريف باشا كانت قد لاقت الآذان الصاغية، وباتت البنود / 3 / موضع القبول، أمَّا المحاولة التركية فباءت بالفشل والخذلان .
جرى التوقيع على معاهدة الصلح، وبموجبها قسمت مناطق النفوذ بين الدول الكبرى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وتم رسم الخطوط العريضة للمعاهدة مع تركيا، ورتبت الصيغة النهائية للاتفاقية الأخيرة من سلسلة الصيغ الصادرة عن اتفاقيات مؤتمر السلام، والأخيرة باتت معروفة بمنظومة فرساي / 1919ــ 1920 / أي بمعاهدة سيفر .
ومعاهدة سـيفر قد أعدت /5/ لجـان متـفرعة عن مؤتـمر باريس، وتألفت من / 13 / بابـاً، ومن  / 433 / بنـداً، وقد أخذت القضية الكوردية مكاناً هاماً في هذه المعاهدة، إذ خصص القسم / 3 / من الباب / 3 / من أبواب المعاهدة لمعالجة المسألة الكوردية، وحمل عنوان كوردستان مؤلف من البنود / 62 ــ 63 ــ 64 / التي هدفت لإنشاء دولة كوردية مستقلة في تركيا، كما يمكن أن ينضم إليها كورد كوردستان العراق (ولاية الموصل) إذا أرادوا ذلك.
والباب / 6 / خصص للقضية الأرمنية، وتألف من البنود / 88 ـ 89 ـ 90 ـ 91 ـ 92 ـ 93 / وقد أكد البند /88/ على استقلال جمهورية أرمينيا، وتضمن: { تعترف تركيا وفقاً للإجراء الذي اتخذته الدول الحليفة، بأرمينيا دولة حرة مستقلة}، وتطرقت البنود / 89 إلى 92 / من المعاهدة إلى آلية رسم حدود الدولة الأرمنية، استناداً إلى توصيات اللجنة التي أرسلها الرئيس الأمريكي ويلسون برئاسة جيمس هاربورد لدرس المسألة الأرمنية، والتي زارت آسيا الصغرى، وبعض المناطق الكوردية. أما البند / 93 / فتطرق إلى حماية الأقليات والتجارة الحرة في أرمينيا، وتضمن: { تقبل أرمينيا وتوافق على إن تتضمن معاهدة تعقدها مع الدول الحليفة الرئيسة ما قد تراه هذه الدول ضرورياً من نصوص لحماية سكان تلك الدولة ممن يختلفون عن غالبية السكان من حيث العرق أو اللغة أو الدين، وتقبل أرمينيا كذلك وتوافق على أن تتضمن معاهدة تعقدها مع الدول الحليفة الرئيسة ما قد تراه هذه الدول ضرورياً من نصوص لحماية حرية الترانزيت والمعاملة المتساوية لتجارة الدول الأخرى } .
كما تم التطرق إلى وضع الأرمن والكورد في القسم المخصص لحقوق الأقليات في البنود من / 140 إلى 151 / وأهم بنود هذا القسم هو البند / 145 / والذي وإن لم يسم الكورد أو الأرمن بالاسم إلا أن الإشارة إلى الشعبين كان واضحاً وتضمن: { إن جميع الرعايا في الدولة التركية سواسية في نظر القانون، ويتمتعون بالحقوق المدنية والسياسية ذاتها من غير تمييز في العرق أو اللغة أو الدين. إن الاختلاف في الدين أو المذهب أو الطائفة لا يسيء إلى أي مواطن في تركيا فيما يتعلق بالتمتع بالحقوق المدنية أو السياسية، كالاستخدام والتعيين في الوظائف العامة أو الألقاب أو ممارسة المهن والصناعات } .
وخلال سنتين من بدء العمل بهذه المعاهدة، تقدمت الحكومة التركية إلى الدول الحليفة بمشروع قانون للانتخابات على أساس مبدأ التمثيل النسبي للأقليات العرقية. لا يفرض أي قيد على استعمال (الرعية التركية) الحر لأي لغة، في الأحاديث الخاصة أو التجارة أو الدين أو الصحافة أو المطبوعات، من أي نوع كان أو في الاجتماعات العامة. وتعطى تسهيلات مناسبة للرعايا الأتراك الذين لا يتكلمون التركية لاستعمال لغتهم الخاصة  شفاهاً أو كتابةً أمام المحاكم .
وقد سميت تلك المعاهدة بمعاهدة سيفر، نسبة إلى مدينة سيفر الفرنسية القريبة من باريس، والتي تم التوقيع عليها في 10/8/ 1920 ومن الدول الموقعة: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، واليابان، وبلجيكا، واليونان، ورومانيا، وبولونيا، والبرتغال، وجيكو-سلوفاكيا، ويوغسلافيا،والحجاز،وأرمينيا من جهة، والإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى[2] .
وفي هذا الصدد كتب المؤرخ الكوردي ملا حسن كورد (حسن هشيار) ما يلي:
{في عام 1920 عند انعقاد مؤتمر سيفر كانت الهيئة القومية الكوردية، التي ترأسها شريف باشا تشترك في الجلسات والاجتماعات، وفي الوقت نفسه كان البرلمان التركي يحاول جاهداً إفراغ هذه الهيئة من مضمونها، وكان يتصل برقياً بأعوانه وتابعيه والبرلمانيين في اسطنبول لهذا الغرض، لتقديم مذكرات باسم الكورد ينفون فيها أن يكون شريف باشا ممثلاً أو وكيلاً عن الأكراد. وهم أبرياء منه ومن رفاقه … وأن الكورد والأتراك إخوة وليس في نيتهم الانفصال عن إخوتهم .} .
ففي تلك الفترة اجتمع والي بيليس مع سليمان صبري باشا وهو أحد وجهاء المنطقة في مدينة وان، وقد وجّها دعوة إلى كبار المنطقة ووجهائها، للاجتماع في وان، من أجل التوقيع على مضمون تلك المذكرة (المذكرة التركية المفبركة). ولبى دعوة حضور اجتماع وان، كُلٌّ من: خالد بك حَسَني، وكور حسين باشا الحيدري، وحاج موسى بك خوتي، ولكنهم امتنعوا عن التوقيع، فجرى بسبب ذلك جدال بينهم وبين الشيخ عبد الإله الكفري، على أثره غضب الشيخ عبد الإله الكفري، وبدا ساخطاً عليهم وكأنهم يؤيدون قيام دولة أرمنية “[3].
تعتبر معاهدة سيفر حدثاً تاريخياً مهماً في تاريخ القضية الكوردية، فيها تم ولأوَّل مرة التطرق لبحث القضية الكوردية وكوردستان على مستوى العالم بشكل رسمي. ولاسيما موضوع حق تقرير مصير الشعب الكوردي، والذي أعلن عنه ودوِّن في المواثيق والمعاهدات الدولية. ولكن مصطفى كمال (زعيم تركيا يومها) قابل قرارات معاهدة سيفر بالرفض قائلاً: {.. إن هذا القرارات الصادرة عن المعاهدة أشبه بالحكم على تركيا بالإعدام}.
وقد كان يحاول بشتى وسائله إلغاء قرارات سيفر. وبالنتيجة فإن معاهدة سيفر بقراراتها لم تأت بأية فائدة للكورد وكوردستان، بل ذهبت سدى مع الريح، وباتت الوعود والمواثيق تحت الأقدام .
نصوص مواد معاهدة سيفر 12 / 8 / 1920 والمتعلقة بالكورد وكوردستان:
المادة رقم /62 /:
{على اللجنة الثلاثية التي ستزور اسطنبول، والمؤلفة من عضوية ممثلي الحكومات البريطانية والفرنسية والإيطالية، خلال /6 / أشهر بدءاً من سريان مفعول هذه الاتفاقية، التحضير لتأسيس حكم ذاتي للمناطق ذات الأغلبية الكوردية، والتي تمتد من شرق الفرات إلى الحدود الجنوبية لأرمينيا، والتي يجب أن تسوى فيما بعد مع شمال الحدود السورية- التركية، وما بين النهرين طبقاً للوصف الوارد في البند / 27 / ضمن الفقرات / 2 و 3 /  وفي حال عدم توفر اتفاق بالاجماع بخصوص أية مسألة بين الأعضاء، سوف ترفع الأخيرة من قبل أعضاء اللجنة لحكوماتهم التي يمثلونها، ويجب أن يحتوي المشروع على ضمانات كافية لحقوق الآشوريين وغيرهم من الأقليات العرقية، والطوائف الدينية، داخل هذه المناطق. ولهذا الهدف على اللجنة التي ستضم ممثلي بريطانيا وفرنسا وايطاليا، وممثلين عن الفرس والأكراد، زيارة الأماكن عند اللزوم، وإقرار التعديلات الضرورية على الحدود التركية في المناطق التي تلامس حدود إيران حسب بنود الاتفاقية الحالية } .
المادة رقم / 63 /:
{تلتزم الحكومة العثمانية من الآن فصاعداً بالاعتراف، وبتطبيق مقررات كلتا اللجنتين المنبثقتين حسب المادة /62 / خلال ثلاثة أشهر من وقت إبلاغها الذي يجب أن يتم بالضرورة }.
المادة رقم / 64 /:
{ في حال لجوء السكان الكورد المشار إلى مناطقهم في المادة /62/ من هذه الاتفاقية، في فترة سنة منذ سريان مفعول الاتفاقية، إلى مجلس عصبة الأمم، مشيرين إلى أن غالبية سكان هذه المناطق ترغب بالاستقلال عن تركيا، وإذا وجد المجلس وقتها بأن السكان مؤهلون لهذا الاستقلال فإنه سيقترح منحه لهم، وعندئذٍ تلتزم تركيا اعتباراً من ذلك التاريخ، بالتقيد بهذا الاقتراح، وبالتخلي عن أية حقوق وامتيازات لها في هذه المناطق، وتكون تفاصيل إجراءات التخلي هذه، مادة لمعاهدة خاصة بين دول الحلفاء الأساسية وتركيا، وإذا طبق هذا التخلي في الواقع ولم تقدم دول الحلفاء العظمى الأساسية أية اعتراضات ضد إلحاق الأكراد، القاطنين في ذلك القسم من كوردستان، الذي يدخل حتى الآن ضمن ولاية الموصل، فلا مانع من إلحاقهم بهذه الدولة الكوردية المستقلة}.
تبين فيما بعد أن البنود الواردة في هذه المعاهدة لم تكن الغاية منها الاعتراف بالحقوق الكوردية، بل كان هدفها تقسيم كوردستان وتجزئتها، ثم احتلالها والاستفادة من بترولها وثرواتها الطبيعية، والحقيقة أن كوردستان كانت دوماً ضحية أمرين: موقعها الإستراتيجي المهم منذ قدم التاريخ، وثرواتها الأرضية ولاسيما بعد اكتشاف البترول، فأصبحت مطمعاً لكل الدول الاستعمارية.
بدأت اليونان الحرب على الأتراك. فوقع الأتراك بين نيران اليونان من الغرب، وغضب أكراد تركيا من الشرق بسبب رفض زعيمهم مصطفى كمال لبنود معاهدة سيفر. ونظراً لحاجة مصطفى كمال في مواجهة حرب اليونان، لجأ إلى استمالة الكورد لجانبه يسترضيهم بالوعود من جهة، ويذكرهم بتعاليم الإسلام التي توجب حق الجهاد لصد الهجوم اليوناني على أرض المسلمين، وأمام وعوده وتمسكه بجلابيب الإسلام استجاب الكورد لمطلبه، وبذلك استطاع (مرة أخرى) مخادعة الكورد الذين دخلوا المعارك لصالح الأتراك ضد اليونان، لتخرج تركيا من معاركها مع اليونان مرفوعة الرأس. بعد أن وقَّعت معاهدة لوزان والتي بموجبها سمحت الدول الغربية للأتراك، بتأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وبذلك نامت معاهدة سيفر في أدراج الدول الكبرى (إلى إشعار آخر).    

مؤتمر لندن  ( عام 1921 ):

في شهر شباط من عام / 1921 / عقد مؤتمر لندن، وكانت الغاية استكمال البحث في بعض المسائل المعلقة، والتي لم توضع لها الحلول كالمسائلة الكوردية. وبشيء من الخجل (والتخاذل) وضع المتحالفون المسألة الكوردية موضع البحث، لكن الحكومة التركية أزاحت عن وجهها النقاب، وادعت بأن المسألة شأن محلي وحلها سيكون داخلياً وقال ممثلوها: {إن الأتراك والأكراد أخوة يعيشون معاً}، وهذه العبارة ومثيلاتها ألجمت أفواه ممثلي دول التحالف، وشتتت موقفهم ولينكشف الذي كان مستوراً. ففي الوقت الذي كان مؤتمر لندن منعقداً، كانت حكومة أنقرة تبرم اتفاقيات شراكة مع دول التحالف، والتي بموجبها تم الاعتراف بالدولة التركية الجديدة، واتفاقيات الشراكة ألغت جميع المعاهدات السابقة المبرمة مع حكومة الأستانة .
في 16 / 3 / 1921 تم التوقيع على اتفاقية التفاهم على المصالح المشتركة بين الاتحاد السوفييتي وبريطانيا، وبعد ذلك في 20 / 10 / 1921 أبرمت معاهدة أنقرة بين فرنسا وحكام تركيا الكمالية. وفي شباط من العام ذاته / 1921 / عقدت أنقرة اتفاقية مع دول التحالف، وتمت دعوة حكومة أنقرة لحضور مؤتمر لندن، والذي فيه كانت بداية اعتراف الدول  بالحكومة التركية، وبعدها نشأت علاقات تركيا السياسية وتوطدت بالدول الغربية. ومن ثم بدأ مصير كوردستان والقضية الكوردية يغيب .
تقرر الانتداب البريطاني على العراق في آب عام / 1921 /. وتم تنصيب فيصل ملكاً، لتبدأ الخصومات والخلافات بين العرب والكورد، وكانت الخلافات تستفحل وتتفاقم يوماً بعد يوم. ولدق إسفين العداوة بين الشعبين، قررت بريطانيا في تشرين الأول عام / 1922 / أعادت الشيخ محمود البرزنجي من الهند، ثم مكّنته من تسلم سدة الرئاسة على رقعة ضيقة من أرض كوردستان ذات الحكم الذاتي. وفي عام / 1923 / حاولت بريطانيا ربط حكومة البرزنجي بالحكومة العراقية، لكن الشيخ محمود البرزنجي رفض بل وتصدى لفكرة المحاولة. فبسبب الرفض عادت المعارك لتتجدد بين البريطانيين والكورد المتضامنين مع الشيخ محمود البرزنجي، وفي النهاية خسر البرزنجي المعركة أمام البريطانيين، وتم ربط مصير كوردستان الجنوبية بالحكومة المركزية العراقية، وقررت الأمم المتحدة إبقاء العراق تحت الانتداب البريطاني.
أسباب نقض الوعود ونبذ المعاهدات:
سائد الاعتقاد بأن أسباب نكران العهود والاتفاقيات تتلخص بالتالي:
1ــ خشية الدول الأوروبية وعلى الأخص بريطانيا أن يقوم الشيوعيون في الاتحاد السوفييتي باستغلال الموقف العدائي بين الكماليين والأوربيين والسيطرة على المنطقة ووضعها تحت نفوذها وسد السبل أمام الأوربيين لدخولها .
2ــ كان الأتراك مقبلين على تأسيس دولة جديدة متطورة متماسكة تزداد انتعاشاً على يد الكماليين بعيداً عن الأنظمة العثمانية المتخلفة.
3ــ تراجع الأوربيين وانسحابهم من معاهدة سيفر، وتناسيهم الكورد وإهمال شأنهم في معاهدة لوزان التي نُسجت خيوطها لصالح ومطالب الأتراك. حيث وجد الأوروبيون أن مكاسبهم موجودة عند الأتراك وليس لدى الأكراد. أخلف الأوروبيون بوعودهم للأكراد، ثم باعوهم في أسواق الاحتلالات بثمن بخس .
4ــ كان مصطفى كمال (أتاتورك) منسجماً مع خطط الدول المتحضرة، واعياً لما يجري حوله، ولهذا استطاع أن يلغي معاهدة سيفر بفطنته (خبثه) ودهائه .
5ــ لأسباب وظروف ذاتية وموضوعية في كوردستان، لم يكن الكورد مهيئين ومؤهلين سياسياً، كي يستطيعون مسايرة المشاريع والخطط التي أحيكت لهم. ومهما يكن من شيء فقد كانت لهم نواقص وأخطاء .
بعد الحرب العالمية الأولى ثابر الكورد كبقية الشعوب (المغلوبة على أمرها) على كفاحهم ونضالهم ينشدون حريتهم ونيل استقلالهم. وخلال الفترة ما بين الحربين العالميتين انتفض الكورد وثاروا ضد محتليهم الظالمين، أما أعداءهم فكانوا كثر (محلياً وإقليمياً ودولياً) ومدججين بأحدث أنواع الأسلحة، فقد مارسوا بحقهم جميع أساليب القهر والتجويع والاضطهاد والقتل لإخماد جذوة انتفاضاتهم، وإسكات أصواتهم المطالبة بالحرية. وعن تلك الفترة وظروفها كتب الكورد الصفحات الناصعة عن مآثرهم البطولية، وصمودهم الشجاع، وصبرهم الأيوبي، زينت تاريخهم الأصيل. فالقدر مَكَّنَ أعداءهم الذين تداعوا إلى تقسيم كوردستانهم وتشتيتهم بين أربع دول، وسحقت انتفاضاتهم بوحشية الهاجم على فريسته، وفقد الكورد كل شيء وتمسكوا بكرامتهم الإنسانية وحلمهم بكوردستان موحدة. ولذلك بقي نضالهم مستمراً يقوى ويشتد مع مرور الزمن، حتى يُمكِّنهم القدر من تحقيق حلمهم.  

معاهدة لوزان 24 / 6 / 1923:

بعد أن بادرت الحكومة التركية بتحسين علاقاتها مع الاتحاد السوفييتي، وقيام قوَّاتها برد الهجوم اليوناني، وتحقيقها الانتصارات الهائلة في حربها ضد الجيوش اليونانية خلال عامي /1922 ــ 1923/ تغيرت ايجابياً مواقف الدول الكبرى تجاه تركيا الجديدة، بعد موافقتها على بدء إجراء مفاوضات لوزان يوم 24 /6/ 1923، وبإعلان نتائجها  في 16 / 11 / 1923 قلبت الموازين لصالح تركيا، وأنهت آمال الأكراد في أجزاء كوردستان من تحقيق طموحاتهم كباقي شعوب منطقة الشرق الأوسط.   
وقد ورد في نصوص بنود معاهدة لوزان أن الحكومة التركية تتعهد بالمحافظة على حياة جميع الجنسيات المقيمة ضمن أراضيها، عبر منحهم الاستقلالية في ممارسة حرياتهم. إلا أنه لم يرد أيّ ذكر لكورد تركيا بالاسم في بنود المعاهدة. و كذلك لم يرد أي ذكر لأي مضمون للبنود الخاصَّة بالكورد وكوردستان التي تم التوقيع عليها في معاهدة سيفر 12 / 8 / 1920. فمرة أخرى ذهبت الوعود والمواثيق التي تبنتها الدول الكبرى للكورد أدراج الرياح، واستطاعت بسياستها الاستعمارية (ولتثبيت مصالحها) أن تضع العثرات (عمداً) أمام نيل الأكراد لحق تقرير مصيرهم، فأطاحت بآمال الكورد وتطلعهم إلى الكرامة والحرية والاستقلال، وأن تحرمهم من حقوقهم السياسية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فكانت بريطانيا أكثر الدول إيغالاً في سياسة المكر والخديعة والبهتان والإساءة، وارتكاب الجرائم الإنسانية بحق الأكراد في كافة أرجاء كوردستان، فقد ألحقت ولاية الموصل كلها بأراضي الدولة العراقية الجديدة.
وفي هذا الصدد كتب الباحث ز. بوز أرسلان ما يلي: 
{عقد مؤتمر لوزان عام / 1923 / وفيه لم تبحث الوفود المشاركة شأن كوردستان، ولم تُجرى أية حوارات رسمية أو جانبية بخصوص قضية الشعب الكوردي، فقبل اللقاءات الرسمية لجأت الحكومة التركية إلى مخادعة الرأي العام الأوربي والعالمي، عبر بث الدعايات القائلة بأن الشعبين التركي والكوردي متضامنان، وتربطهما عقيدة الأخوة الإسلامية التي تجمع ولا تفرق، فكانت الغاية من تلك الشائعات إحباط محاولة الكورد لنيل حريتهم وحقوقهم. ولذلك فقد أرسلت الحكومة التركية للمؤتمر الزعيم التركي عصمت أنينو، رافقته هيئة برلمانية ترأسها فوزي مؤلفة من زلفي بك من آمد (دياربكر)، وخليل فخري من سويركي،  وأمام المؤتمر ادعى عصمت أنينو بأنه حضر للمؤتمر ممثلاً شرعياً للشعبين التركي والكوردي ليتحدث بلسان يعبر عن تطلعاتهما المشتركة، وقد انطلت حيلته بسهولة على أعضاء المؤتمر. وكانت الهيئة تشارك نيابة عن الحكومة التركية في جلسات الحوار داخل المؤتمر، والغريب أن خليل فخري كان يتذرع بالمرض ليتهّرب من حضور الاجتماعات وينأى بنفسه عن المشاركة في الحوارات. أما الممثـلان الكورديان الآخران (فوزي و زلفي بك) فكانا يعلنـان في كل اجتماع ويصرحان:{نحن والأتراك أخوة ولا نرغب في الانفصال عنهم. }.
تلك حقيقية ما كان يجري في جلسات مؤتمر لوزان، وقد أفضت بنتائج عصفت بكل تطلعات الشعب الكوردي الرامية للعتق من ظلم المتآمرين (بمختلف أجناسهم) المحليين والإقليميين والدوليين. فقد شاءت الأقدار أن يتبعثر الشعب المظلوم (الكورد) وبأن تتقطع أوصال قبائله وعشائره بين /5/ دول، تركيا والعراق وإيران وسوريا وروسيا. فبتوقيع معاهدة لوزان تبدلت حياة الشعب الكوردي، وبات الظلم الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي (يومياً) يلاحق الإنسان الكوردي في كل جزء من أجزاء كوردستان، حتى صارت حالة الاغتراب النفسي تلازمه في علاقاته الإنسانية على كل شبر من أرضه الأزلية كوردستان .!؟  ومما أذهلني وحيّرني: أنه ما من أحد الكتاب أو الباحثين الكورد تنبَّه، ليكتب (دراسة أو بحثاً أو تحليلاً) عن المأساة التي خلفتها نتائج مؤتمر لوزان على الشعب الكوردي .!؟ وإني أرى أنه ما من تجزئة وظلم واضطهاد وتمزق أصاب الكورد وأرضهم، إلا بدوافع نوايا السُّوء للدول الاستعمارية الغربية وبالمشاركة العملية لحكام الترك والفرس والعرب، وعليه أجد من واجب كل كاتب ومحلل وباحث ومؤرخ، التركيز على حقيقة الكارثة التي سببها أولئِك البرابرة الهمج بحق أبناء الشعب الكوردي }.
وحول ذلك يقول مظهر دودري:
{ وبعد الانتهاء من إبرام معاهدة لوزان في 16 / 11 / 1923 والتي أُنْكِرتْ فيها جميع الحقوق الكوردية. تم بعدها الإعلان عن تأسيس الجمهورية التركية، التي مارست الإجحاف وكل أصناف الظلم والعدوان بحق كورد تركيا، ورداً عليها قرر اجتماع عدد من الضباط والزعماء وبعض المثقفين والمتنورين ومجموعة من رجال الدين والوجهاء، تأسيس جمعية استقلال كوردستان برئاسة خالد بك جبري، سميت بالحركة التحررية في أرزروم } .
كانت دول التحالف قد قررت في معاهدة سيفر تقسيم الدولة العثمانية، وأوجبت بنودها حق الأكراد في إدارة دولة كوردية  ذات حكم ذاتي مستقل. ولكن الأتراك لم يذعنوا لبنودها فبادروا إلى استمالة بعض الزعامات الكوردية لجانبهم، فخاضوا الحرب مع اليونان وانتصروا فيها، وبقيت بنود المعاهدة حبر على ورق. وبعد كسب تركيا الحرب طالبت دول التحالف بإبرام معاهدة جديدة، وجرت المحادثات بين الهيئتين التركية والبريطانية بتاريخ 24 / 7 / 1923 في مدينة لوزان. وفيها ترأس عصمت أنينو الهيئة التركية، وترأس لورد جونسون الهيئة البريطانية، وخلال المباحثات طال الحديث حول البند المتعلق بالقضية الكوردية الخاص بولاية الموصل وكركوك (المناطق البترولية). واستطاع عصمت أنينو بمكره ودهائه قلب الحقائق، وساعده وجود أكراد في الوفد أسهموا “أجرموا” في تمرير أكاذيبه.  
ويمكن تلخيص بعض الذي تم خلال جلسات المؤتمر بما يلي:
قال رئيس الهيئة البريطانية لورد جونسون:
ــ { إن الكورد قومية أخرى، لا يرغبون في العيش مع الأتراك ضمن دولة واحدة }.
وكان رد أنينو:
ــ { هذه نظرية ليست صحيحة. إن الأتراك والأكراد يعيشون معاً منذ مئات السنين، ديننا واحد وتاريخنا مشترك وإلى أرومة واحد تعود أصولنا. لقد أثبت الكورد عبر التاريخ أنهم يرغبون في العيش معنا تحت إدارة تركية ولم يرغبوا قط في الانفصال عنا، لقد ربط الكورد مصيرهم وحياتهم بمصير وحياة الأتراك … وفي حربنا الأخيرة رفض الكورد ما ورد في معاهدة سيفر وقد حاربوا العدو إلى جانب الأتراك، وللأكراد مقاعد في البرلمان التركي وهم ممثلون عن الشعب الكوردي، وهم يريدون أن يُرسخوا أقدامهم في الوسط التركي، وأكراد مناطق الموصل لا يريدون الانفصال عن سائر الكورد لذلك يجب أن تظل الموصل ضمن الحدود التركية }.
فردّ عليه لورد جونسون قائلاً:
ــ { هذه هي المرة الأولى التي يقال فيها العرق التركي والعرق الكوردي هم عرق واحد، إن التاريخ واضح وإن الشعب الكوردي ينحدرون من الأصل الآري، إنهم يتكلمون بلغة إيرانية … يختلف تاريخهما وحياتهما عن تاريخ الأتراك، وحياتهم وصفاتهم البدنية مختلفة، لقد عشت أعواماً في بلاد الكورد، وأستطيع بكل سهولة أن أميّز الكوردي من التركي، الكورد ليسوا أتراكاً …. أنهم أهل جبال … وقد عاشوا منذ آلاف السنين في بلادهم الجبلية، ومازالوا يعيشون فيها مستقلين … والآن فإن الأشخاص الذين تزعمون أنهم يمثلون الكورد في البرلمان، ترى هل الكورد اختاروهم ؟ كلا … إن الشعب الكوردي ما أختارهم … لقد جلبتهم إلى برلمانكم في غياب الإرادة الكردية … والتاريخ يحدثنا أن الكورد لم يرغبوا في يوم من الأيام أن يعيشوا تحت الحكم التركي }.
وفي لوزان أيضاً انطلت الحيلة التركية مثلما انطلت في سيفر، فقد بعثت الحكومة التركية رسالة باسم البرلمانيين الأكراد إلى لوزان، يعلنون فيها رغبتهم في العيش مع الأتراك.
وفي خاتمة المطاف انتصر الأتراك، فقد تم التوافق بين الأتراك والبريطانيين على رسم الحدود التركية (الحالية) وفي عام /1926/ جرت التسوية بينهما حول الموصل، وتجزئة كوردستان عبر وضع منطقة الموصل وكركوك تحت النفوذ البريطاني. بحيث سلمت الدولة التركية الجزء الواقع تحت نفوذها إلى الدولة العراقية، وسلمت فرنسا جزءها التركي إلى الدولة السورية. وتاريخ تلك الصفقة التآمرية هو بداية تقسيم كوردستان إلى أربعة أجزاء ولا تزال حتى تاريخه.   
وبعد التوقيع على المعاهدة باشرت تركيا في تحركاتها العملية، لتطبيق بنود لوزان على الأرض  الداخلية، متنكرة لأيّ وجود كوردي في تركيا، قابلتها الحركة التحررية الكوردية بتفعيل نشاطات فروعها المنتشرة في أماكن كثيرة .
وعن ذلك يقول مظهر دودري:
{ بعد تأسيس الجمهورية التركية عام / 1923 / اجتمع أعضاء البرلمان التركي مرتين في جلستين ليؤكد بأن الكورد ليست لهم أية حقوق. فكان ردة الفعل على ذلك السلوك المجحف أن التقى بعض الزعماء الكورد، وبعد مشاورات مستفيضة قرروا اقتراح تنصيب رجل الدين الشيخ سعيد بيران رئيساً لحركة التحرر الكوردية. وفي عام /1924/ أرسلت الحركة وفدها (خالد بك جبري، وخالد بك حَسَني، ويوسف زيا) لمقابلة الشيخ وعرض الاقتراح عليه، وصل الوفد إلى قرية قوله حسن (قرية خنوس- مقر الشيخ سعيد). فوجد الاقتراح قبولاً في نفس الشيخ الذي أبدى سروره لحمل عبء المسئولية. وكان حاضراً في المجلس أحد الأكراد (قاسم) العميل المخبر لدى السلطات التركية، فنقل الخبر للسلطات المختصَّة، فكلفوه بمتابعة المستجدات التي ستقدم عليها الحركة الجديدة، وإيصال أخبارها  (تقارير عنها) حيناً بعد آخر للسلطات المعنية. وعلى اثر ذلك داهمت قوَّة تركية على مكان الاجتماع فوقع في الأسر كل من خالد بك جبري ويوسف زيا، حاولوا اعتقال خالد بك حَسَني والشيخ سعيد إلا أنهم لم يفلحوا في محاولة أسرهما .
إذاً فإن ثورة الشيخ سعيد بيران عام / 1925 / كان وراء تسعير نار لهيبها جمعية استقلال كوردستان. ولم تستطع الحكومة التركية القضاء على الثورة ودحرها، إلا بتعاون وثيق من الاتحاد السوفييتي وفرنسا وبريطانيا. والدليل على اشتراط السوفييت، أنّ مسئولين في جمعية استقلال كوردستان وبموافقة الشيخ سعيد زعيم الثورة،  أرسلوا كتاباً إلى شخص لينين (نفسه) عبّروا عن حاجتهم الملحة إلى دعم السلطات السوفياتية لنصرة الحركة الكوردية التحررية، وأنهم مستعدون كامل الاستعداد لربط مصير الشعب الكوردي بمصير الشعب السوفييتي. إلا أن الرد عليهم كان مخيباً للآمال، فبدَل تقديم الدعم والمؤازرة لهم، أوكلت مصير الشعب الكوردي للدول الأوربية الاستعمارية وحليفتهم تركيا، في الوقت الذي كان من الواجبات الأخلاقية والإنسانية للسوفييت أن يكونوا سنداً لشعب الكوردي، خاصَّة وهم كشفوا جريمة سايكس ــ بيكو وطريقة سلب إرادة الكورد وهُضم حقوقهم. فلقد تضافر جهود السوفييت والأوربيون وتكاملت مع تحركات قوَّات تركيا الكمالية، في إخماد ثورة الشيخ سعيد الكوردية التحررية. فالحقيقة الأتراك الكماليون لم يكن لهم أن ينتصروا إلا بمساعدة أولئِك الاستعماريون جميعاً.
ونظراً للموقع الجغرافي لبلاد الأكراد، لذلك لم تتمكن أية جهة من طرح قضية الكورد  في المحافل العالمية كقضية دولية بعد الحرب العالمية الأولى. لأنها الحرب التي أدت إلى تمزيق الإمبراطورية العثمانية الغنية بثرواتها والعديدة بشعوبها، فالحرب أعطت بالنتيجة الفرصة لعدة شعوب من جنسيات مختلفة، لتكوّن نفسها في دولٍ مستقلة، تستفيد وتُفيد الدول التي صنعتها }.[4]
بنود معاهدة لوزان  23 / 7 /1923:
ــ البند /38/: تتعهد الحكومة التركية بتأمين الدفاع الكلي والناجز عن حياة وحرية المواطنين، بغض النظر عن الأصل والقومية واللغة والعنصر أو الدين .
ــ البند /39/: لن توضع أية قيود في وجه أي مواطن تركي، بخصوص التداول الحر لأية لغة كانت، سواء كانت في العلاقات الخاصة أم التجارية، أو في مجال الدين والإعلام أو مختلف النتاجات المطبوعة، أو في الاجتماعات العامة .

[1] -تقع بلدة سيفر جنوب غرب العاصمة الفرنسية باريس، اشتهرت بصناعة الخزف، التي أنشأها الملك الفرنسي لويس الخامس عشر أولا في مدينة فنسين، ثم نقلت إلى سيفر عام 1756م، تم التوقيع فيها على المعاهدة التي سميت باسمها. هامش (عثمان)،الكرد والأرمن..ص87.
[2] -فارس عثمان، الكورد والأرمن. وكذلك د.(مظهر) كردستان….ص344.
[3]– في عام 1928م بعد أن قفل الشيخ عبد الإله الكفري راجعاً من المنفى صرح قائلاً في اجتماع المنفيين الذين أبعدوا إلى استانبول بأنه كان على خطأ في ذلك الوقت.
[4] – جلادت بدرخان، حول المسألة الكردية- قانون إبعاد وتشتيت الأكراد – ترجمة: دلاور زنكي. أربيل، 1999م، ص8.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…