محاولات في فهم الثورة المضادّة كوردياً (محاولة أولى)

فرمـان صالح بونجـق

ضد الثورة ، أو مضاد للثورة ، يعني محاولة خلق النقيض للثورة ، وتكمن الغاية من هذا الخلق ، إما إجهاض الثورة وإفراغها من محتواها الإنساني ، أو محاولة السيطرة عليها وسرقتها والاستئثار بها عنوةً .

وهذا الفعل يتخذ شكلين اثنين لا ثالث لهما ، فإما ألاّ يكون لهذا الفعل أي تماس مع الفعل الثوري الحقيقي ، وبالتالي يعرّف بأنه ضد الثورة ، وإما أن يكون لهذا الفعل شكل من أشكال التماس مع الفعل الثوري ، كأن ينمو هذا الضد في حضن الثورة ، ويعرّف آنئذ بالثورة المضادة ، أو الثورة المضادة للثورة .

وفي كلتا الحالتين تبرز إشكالية إعادة تقييم الثورة ، ومحاولة فهم هذا التضاد ، من حيث خصائص وتوجهات وأجندات كل من الفعلين الموسومين بالفعل الثوري .

وينبغي ألاّ تغيب عن الذهن مسألة التحام الجماهير بأي من الفعلين ، كون هذه الجماهير هي المحرك الأساسي للثورة ، وهي صاحبة المصلحة الحقيقية ، وهي دافع الضريبة الأكبر من المعاناة خلال المساحة الزمنية التي تسبق الثورة ، ناهيك عن التضحيات التي تقدمها الجماهير إبان الثورة .

إذ لا يمكن تجاوز هذه الجماهير بأي حال من الأحوال .


لا زلتُ مصرّاً على أن مقدمات أو إرهاصات “ثورات الربيع العربي” لم تبدأ من حادثة البوعزيزي في سيدي بو زيد التونسية ، على الرغم من أهمية هذه الحادثة ومثيلاتها ، أو المشابهة لها والتي وقعت هنا وهناك ، كحادثة خالد سعيد التي وقعت في القاهرة .

ولكن المسألة أعمق بكثير من هذا التصور الساذج ، والذي تم الترويج له ” أي لهذا التصور” بعناية .

وتم التعتيم ـ وكالعادة ـ على كافة أشكال الرفض التي أنتجت انتفاضات على شكل ثورات في مناطق شتى من هذا المحيط العربي الكارثي .

ففي جنوب السودان ، قاد الجنرال جون غرنغ ، ثورة مسلحة امتدت لنصف قرن ، وتكللت مساعي شعب جنوب السودان بإنجاز دولته المستقلة على ترابه وأرضه التاريخية ، وفي كوردستان العراق امتدت ثورة البارزانيين لأكثر من نصف قرن ، وأيضا تكللت تضحيات هذا الشعب بإنجاز الفيدرالية كشكل من أشكال الاستحقاق التاريخي لحقوق الكورد على أرضهم التاريخية ، وليس ببعيد عن هذين النموذجين ، لازال شعب الأمازيغ يقود ثورته الهادئة ، وباحترافية ، من أجل تحقيق بسط سيطرته على حريته وكرامته ، من خلال الاستحواذ على شكل من أشكال الاستقلالية .

وفي مطلع شهر آذار من العام 2004 أطلق الكورد في سوريا ما يشبه “الانتفاضة الثورة” ، رداً على التراكمات الهائلة من الاضطهاد القومي الذي مارسته سلطات البعث الشوفيني على أبناء الشعب الكوردي ، حيث تم تحرير المناطق الكوردية لعدة أيام من قبضة السلطة الفولاذية ، ولم يجد الكورد آنذاك نصيرا ، حتى قُمعت هذه الانتفاضة بقسوة لا مثيل لها .

كل هذا كان  يحدث في الوقت الذي كانت الشعوب العربية تعيش في حالة استرخاء تام ، بينما كان الآخرون من غير العرب يدفعون الأثمان الباهظة من دمائهم في سبيل انتزاع القليل القليل من الحرية والكرامة الإنسانية .


من هنا يمكن القول : أن مقدمات ثورات الربيع العربي لم تكن نتاج حوادث فردية وقعت هنا وهناك ، وإنما كانت نتاج نضالات شعوب غير عربية متآخية مع الشعوب العربية ، ومتفاعلة معها ، وبصيغة أحادية الجانب ، إذا صح القول ، حين كانت هذه الشعوب تعاني من القهر والسحل والغبن والتجويع والإفقار والتهجير ، في ظل أنظمة عروبية ، لم تُقِم أية اعتبارات للقيم الإنسانية .

وتأسيساً على ما تقدم ، يمكن استنباط المدخل المناسب للبحث في ماهية دور الثوار الكورد وانخراطهم في أعمال الثورة السورية ، وكجزء أصيل وفاعل في هذه الثورة ، خصوصاً فيما يتعلق بالأشهر الستة الأولى قبيل عسكرة الثورة .


ارتكز الفعل الثوري في المناطق الكوردية على فكرة تحريك الزخم الجماهيري السلمي ، واستثمار المشاعر القومية العفوية لدى معظم الشرائح ، دون اللجوء إلى بناء هيكلية تنظيمية متماسكة من شأنها توفير القاعدة الشعبية ذي الصبغة التلاحمية مع القيادات الفتية التي أدارت دفة الاحتجاجات والتظاهرات خلال تلك المرحلة المبكرة من عمر الثورة .

مما أصبغ على هذا الحراك الهشاشة والرعونة أحيانا ، وكان هذا أحد أهم أسباب اختراق الثورة من قبل بعض التيارات السياسية الكوردية الأكثر تنظيما ، ومن هنا بدأت فعليا مرحلة الثورة المضادة ، وما هو ضد الثورة أيضا .


بالاستناد إلى تجربة انتفاضة الشعب الكوردي في سوريا 2004 ، لم يكن متوقعا ، ولم يكن مفهوما أو منطقيا ، أن ينجرف جزء من الكورد إلى الوقوف بالضد من تطلعات الشعوب السورية ، وعلى وجه الخصوص تطلعات أبناء الشعب الكوردي ، الذي سعى بجدية لإنضاج الظرفين الذاتي والموضوعي ــ عبر النخب الثقافية والسياسية ــ من أجل انتزاع الحقوق المشروعة التي طالما حرمته السلطات المتعاقبة خلال نصف قرن من مجرد التفكير فيها .

إن هذا الانجراف ألحق أشد الضرر بالثورة السورية ، وألحق أشد الضرر بتطلعات الكورد الذين واتتهم الفرصة الذهبية لانتزاع حقوقهم القومية والوطنية من نظام الاستبداد ، مما ساهم بإعادة القضية الكوردية إلى المربع الأول .

ومهّد لتصفية القضية الكوردية في سوريا بواسطة إعادة تفعيل بعض الشعارات القومية ، واستنباط  بعض المفاهيم والمسميات الهزيلة التي لا شأن لها بالواقع ، تنظيرا أو تطبيقا .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…