مانديلا الشخصية الأسطورية

إبراهيم اليوسف
 

بعيداً عن تفاصيل الخطِّ البيانيِّ لسيرة نيلسون مانديلا ” 1918-2013″التي كتب عنها حوالي خمسمائة كتاب، وكانت مدعاة نيله حوالي ثلاثمئة جائزة عالمية، من بينها جائزة نوبل في العام1993، وهي جديرة بأن تستمر الكتابة عنها، لاسيما أن كل ما كتب إنما يعتمد على ملامح محددة من سيرة هذا القائد الجنوب إفريقي الاستثنائي في تاريخ البشرية،  وهناك جوانب كثيرة من حياته من الممكن أن يكتب عنها، ومن بينها أن كل ثانية واحدة، بحسب تواقيت ساعتنا المتفق عليها، من عشرة آلاف يوم أمضاه في سجون نظام الفصل العنصري الرهيب، وهو يواجه آلة الآبارتيد الرهيبة،
 يمكن أن تكون مدار كتابات لا تنتهي، لأنها تجسد أعظم معاني المواجهة، والصمود، في سبيل حرية شعبه الذي كان يتجرع  أشدَّ مرارات العذاب، والظلم، والإذلال، والجوع، تحت نير أحد أسوأ أنظمة الاستبداد الوحشي منطلقاً بذلك من حالة إيمانية رؤيوية جبارة، وهي أنه في ثنائية القمع والحرية، لابد من أن تنتصر هذه الأخيرة، وذلك وفق قانون دورة حركة الزمن، والتراث العظيم لكفاح الإنسان، منذ فجر البشرية، ووصولاً إلى اللحظة المعاشة.

استطاع مانديلا، منذ بداية تبلور وعيه، أن يكون وفياً إلى قناعاته، من خلال ربط الكلمة بالفعل، ومحو أية هوة تظهر بينهما، وهي مسألة مهمة بالنسبة إلى الكائن البشري، بل تبدو أكثر أهمية بالنسبة إلى من يتنطع لحمل رسالة شعبه، وقضيته، ويغدو الأمر لاغنى عنه، عندما يكون المرء قائداً، لأن أي تباين بين النظرية والتطبيق، لدى الفرد، أو المؤسسة، إنما يعني انعدام مصداقيتها، وهنا-تحديداً-يكمن سرّ عظمة من يترجم طوال شريط حياته، رؤاه، و قناعاته، التي يخدم خلالها من حوله، من خلال إنكار الذات، ونبذ الأنانية، والسمو على السقوط في فخاخ الغواية، والإغراءات التي تقدمها دوائر الاضطهاد لمن يواجهها، من خلال تأمين سبل الخلاص الفردي له، بغية إسقاطه، و هو ما يمكن تتبعه في سيرة أي قائد تعالى على بريق المنافع الذاتية، بل و يمكن تلمسه بجلاء في سيرة هذا القائد الأممي الذي دوى صيت فعله، قبل قوله، في أربع جهات الأرض، وبات رمزاً أسطورياً، يعرفه ثوار العالم، كما يعرفه الطغاة، الثوار كي يقتدوا بالجوانب المضيئة-وما أكثرها في سيرته- والطغاة لأن فكره وسلوكه يشكلان مبعث تهديد لعروشهم، وأمجادهم، بيد أن هذا الرجل البسيط الذي مارس أصعب الأعمال-ومن بينها الرعي-في حياته، وعانى الجوع، والعيش لسنوات طويلة في زنزانة لا تتجاوز حجم جسده، إلا قليلاً، استطاع أن يكون مواطناً كونياً، نتابع أخباره، ويومياته، ومواقفه، في مشارق الأرض ومغاربها، حيث تتداخل الأسطورة والواقع، كي يكونا هذا الشخص الذي قال و هوفي سجنه ما معناه” لا أمثل إلا نفسي، وكل صفقة مع السجين باطلة”، ليقطع بذلك الباب أمام من يروم منه التنازل، وهو السرُّ في أنه انتخب رئيساً، عندما كان على أبواب إكمال ثلاثة عقود من التغييب القسري بحقه، بيد أن مأثرته العظمى كمنت في أنه لم يرشح نفسه لدورة رئاسية جديدة، وهو ممتلك لكل مفاتيح الديمومة، من خلال رصيده الثوري النضالي الذي يؤهله لرئاسة عالم كامل، لا مجرد وطن صغير فحسب.
لم ينس مانديلا ، رجل الكفاح والسلام، بامتياز، واقع الشعوب المضطهدة، والمظلومة، ولهذا فإنه كان يجد نفسه إلى جانب كل هؤلاء، ومع حقوقهم، وقضاياهم، ويحضرني هنا موقفه المبدئي من القضية الفلسطينية، والذي كان يتجاوز رؤى بعض ممن هم أقرب إلى هذه القضية، كما أنه رفض في العام1992جائزة أتاتورك، حيث قال لأحد الصحفيين، في سياق السؤال عن سبب الرفض”جرب أن تكون كردياً يوماً واحداً تعلم لم رفضتها”، ناهيك عن أنه تبنى الرؤية الصحيحة في ما اصطلح عليه بالربيع العربي، رغم سوء أوضاعه الصحية في السنوات الأخيرة.
مانديلا، لم يحتج إلى فنان كوني خارق كي يؤسطر شخصيته، ولم يحتج إلى روائي، أو شاعر، أو موسيقي، أو مؤرخ، كي يجعل من حياته ملحمة أو سمفونية، يوصل بالخيال إلى مرتبة ما هو مرئي ملموس، بل فعل كل ذلك، برباطة جأش، ويقين، كي يجعلنا أينما كنا نحس أننا نكبنا به، في بيوتنا، كأحد رموز الكفاح التي سيستلهم منها كل حالم بالحرية دروسه، ليكون بذلك أحد أهم مدارس الثورة والكفاح وحب الحرية في تاريخ العالم.
إبراهيم اليوسف

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…