الصراع على كردستان الغربية (6): واقع بائس ومستقبل مبهم

عدنان بدرالدين

تجتاز كردستان الغربية هذه الأيام مرحلة حرجة من تاريخها حيث تعاني من آثار حصار خانق يحيط بها من كل الجوانب أدخلتها فيه السياسة اللامسؤولة لسلطة الأمر الواقع بما أدت إليه من ترد مريع للأوضاع الإقتصادية والأمنية ، وهجرة كثيفة إلى الخارج أخذت تتخذ أبعادا مرعبة على مستقبل الوجود الكردي في هذا الجزء من بلادنا ، علاوة على إنتهاج سلطة الأمر الواقع ذاتها التي تتقاسم السلطة في بعض المناطق من كردستان مع آل الأسد لسياسة كم الأفواه ومصادرة الحريات والإعتقال التعسفي للمعارضين وحتى تصفيتهم جسديا ، وإدخال كردستان الغربية من أقصاها إلى أقصاها في لجة صراعات عقيمة ولا مجدية مع منظمات إرهابية متطرفة فيما يبدو أنه مجرد محاولة لتوجيه أنظار الشعب الكردي المكتوي بنار الفقر والتهميش والإستبداد والتشرد إلى عدو خارجي وإبعاده عن الكفاح العام الذي يخوضه الشعب السوري بأغلبيته الساحقة ضد نظام دموي مجرم أفسد البلاد والعباد على مدى عقود.
من المسؤول عما آلت إليه الأمور؟
ليست سلطة الأمر الواقع ممثلة بحزب الإتحاد اليمقراطي الأوجلاني وملحقاته من تتحمل وحدها مسؤولية الوضع المزري الذي تعيشه كردستان الغربية الآن ، وإن كانت تتحمل الجزء الأكبر منها بتحالفها مع نظام الإستبداد ، ومحاولاتها الحثيثة إقامة منظومة شمولية تشكل إستمرارا للنظام الأسدي الديكتاتوري ومتعايشة معه، فالأحزاب التقليدية الكردية لعبت هي الأخرى أدوارا غاية في السلبية خلال العامين المنصرمين وهي لذلك تتحمل جزءا غير قليل من مسؤولية عما يحدث الآن في بلادنا، إذ أنها وقفت جميعا ، وإن بدرجات متفاوتة،  موقف الحياد بين الثورة والنظام ، وأسهمت إلى حد كبير في إجهاض الحراك الشبابي الثوري لأنها رأت فيه تهديدا لسلطتها الوهمية في المجتمع الكردي ، وهجرت ميدان العمل الفعلي في الوطن إلى أحضان “الأخ الأكبر” في هولير والسليمانية مخلية الميدان لظهور السلطة الشمولية الحالية التي باتت تتحكم بالأمور بصورة شبه مطلقة ودون وجود أية معارضة فعلية لها على أرض الواقع تقريبا ، وإن كانت هذه “السلطة” كما قلنا سابقا مزدوجة يتقاسمها الأوجلانيون مع النظام.

إن الحديث عن “تحرير غرب كردستان” هي مزحة ثقيلة يراد بها الضحك على عقول بعض السذج.

فالواقع أن المناطق الكردية في سورية خاضعة تماما لسلطة النظام ، بل أن من يفترض أنه “حرر الوطن” لايزال يتقاضى حتى الآن راتبه من السلطة الأسدية التي تحتفظ تقريبا بكامل وجودها العسكري والأمني والإقتصادي والمالي في سائر أنحاء كردستان الغربية وعلى الخصوص في مركزها الأساسي – قامشلو – ، أي أنها لم تتخل فعليا إلا عن” فائض سلتطتها” حيثما وجدت ذلك مفيدا لها.

 
الأشقاء الكبار…”ومن الحب ماقتل”!
أشقاءنا الموزعون في أرجاء الوطن الكردي المقسم هم سندنا وعوننا في الشدائد.

هذه مسلمة يندر أن يجادل فيها كرديان عاقلان حينما يتعلق الأمر بأبناء الشعب الكردي “من العامة” ، لكن الأمر يتلبس صورة أخرى عندما يأتي الأمر على “الخاصة” من أشقاءنا ، أي عندما يتعلق الأمر برجل السياسة الذي، وخلافا ل”رجل الشارع” العادي المندفع بفعل عواطف قومية صادقة ومتدفقة ، يقيس الأمور بمنطق الربح والخسارة.

فالمنظومات السياسية ، دولا كانت هي أم حركات، ورغم كل الكلام المنمق عن الأخوة والمبادى السامية ، ليست مؤسسات خيرية،  بل هي في التقدير النهائي ، تشكيلات نفعية بالمعنى الشامل للكلمة ، أي أنها تنشد تحقيق أهداف محددة فردية أو فئوية أو وطنية شاملة منتهجة البراغماتية كوسيلة للوصول إلى المبتغى بعيدا عن العواطف، حتى لو تعلق الأمر بمصلحة الشقيق.

وتاريخ الحركة الكردية المعاصرة زاخر بالعديد من الأمثلة التي تؤكد صحة زعمنا هذا، بما في ذلك حكما مقاربة قوى “المركز الكردستاني” للأوضاع في كردستان الغربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
 وعلى هذا لم يكن الدور الذي قامت به قوى “المركز الكردستاني” إيجابيا دوما فيما يخص الوضع في كردستان الغربية خلال مايقارب السنوات الثلاث المنصرمة .

فالأخوة في قنديل وجدوا في الثورة السورية فرصة سانحة لدخول لعبة شد الحبل بين حكومة أردوغان والأسد.

أردوغان بعد سنوات من “شهر عسل” طويل مع نظام آل الأسد كان قد إنقلب على هذا الأخير ، وإحتضن فعاليات القوى المعارضة له والداعية إلى إسقاطه وعلى الخصوص أعداءه اللدودين من جماعة الإخوان المسلمين، ودعا صراحة إلى ضرورة تنحي الأسد عن السلطة، بعد وساطات غير موفقة قام بها وزير خارجيته، ومهندس السياسة الخارجية التركية الحالية – أحمد داوود أوغلو – ، هدفت إلى إجراء مصالحة بينه وبين الإخوان المسلمين على أساس تقاسم السلطة بين الجانبين.

فلم يكن من الأسد إلأ أن قام بمراجعة سجل حلفائه القدامى بمن فيهم حزب العمال الكردستاني ، ودعاه إلى العودة إلى سورية التي كان قد طرد منها قبل أكثر من عقد من الزمن ، وسلمه بعض المناطق الكردية كرد على دعم أردوغان لمعارضيه.

العمال الكردستاني ، ومن خلال فرعه السوري – حزب الإتحاد الديمقراطي – هدف من وراء إعادة تحالفه مع نظام دمشق ، ومن وراءها طبعا راعيها إيران التي كان الكردستاني قد توصل معها هي الأخرى إلى تفاهمات تقضي بتجميد نشاطات فرع الحزب في إيران المسمى – حزب الحياة الحرة – نقول أنه هدف إلى إستغلال الورقة الكردية في سورية في حواراته مع النظام التركي وإلى تقوية مواقعه في كردستان الشمالية وعلى صعيد المنطقة عموما ، خاصة بعد تعثر عملية الحل التي دشنت لها حوارات حكومة العدالة والتنمية مع زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان لينخرط  بذلك/الحزب الكردستاني/ بصورة فعلية في “محور المقاومة والممانعة” الذي تقوده إيران بدعم من روسيا والصين وغيرها من البلدان “المعادية للإمبريالية”.
 
لكن الحقيقة أن صفقة العمال الكردستاني التي بات واضحا الآن أنها تمت برعاية من قطب كردستاني كبير هو السيد جلال الطالباني زعيم الإتحاد الوطني الكردستاني ورئيس العراق الحالي ما كانت ممكنة بدون وجود فراغ سياسي كبير في كردستان الغربية أحدثه الهزال المفجع للحركة الكلاسيكية الكردية وعزلتها شبه الكاملة عن جماهير الشعب الكردي الفعالة من ناحية ، ومن ناحية أخرى التساهل غير المبرر من جانب قيادة إقليم كردستان العراق التي، ورغم وقوفها الواضح مع الثورة السورية ضد نظام الإستبداد الأسدي، إلا أنها برأينا أساءت تقدير الأمور الجارية في كردستان الغربية أولا من خلال رمي ثقلها وراء المجلس الوطني الكردي المشلول بفعل ضعف مكوناته وصراعاتها البينية العقيمة ، وثانيا من خلال الإشراف على بناء الهيئة الكردية العليا ومحاولة تسويقها جماهيريا ودوليا ، فكان ذلك خطا إستراتيجيا كبيرا يدفع الشعب الكردي الآن ، بما في ذلك شعب كردستان العراق أيضا،  ثمنه غاليا.

ما الذي تعنيه سيطرة حزب الإتحاد الديمقراطي على كردستان الغربية؟
سيطرة حزب الإتحاد الديمقراطي من حيث كونه حركة أوجلانية بإمتياز على كردستان الغربية ستكون لها إنعكاسات سلبية للغاية على مستقبل الشعب الكردي في هذا الجزء من وطننا وذلك لأنه:
– ليس لهذا الحزب أو أصله الأم أي تصور لحل القضية الكردية ليس في سورية فقط وإنما في موطن الحركة الأصلي، أي كردستان الشمالية أيضا.

أما مايروجه أنصار هذه الحركة لما يسمونه هم– مبدأ الإدارة الذاتية الديمقراطية –  فهو في الواقع ليس سوى تنظير لفرض حكم حزب العمال الكردستاني على الشعب الكردي بالقوة ، ولكن بالتشارك مع الأنظمة القائمة التي لايترك الأوجلانيون أية مناسبة تمر دون التاكيد على أنهم لاينوون المساس بها تحت أي طائل.
– ليس للحركة الأوجلانية في كردستان الغربية ، ورغم كل الضجيج الذي تثيره وسائل دعايتها ، قاعدة جماهيرية واسعة يمكن أن تبني عليها خططها المستقبلية لإدارة المناطق الكردية في سورية.

هذا مايثبته الهلع والعصبية المفرطة التي تتصدى بها سلطة الأمر الواقع لأي صوت معارض ، مهما كان خافتا.

فالواثق من جماهريته لايهاب المعارضة ، بل أنه يشجعها وذلك لأنه لاوجود للديمقراطية التي يدعونها بدون وجود معارضة قوية وفعالة.
– تفتقد الحركة الأوجلانية في سورية للكفاءات الإدارية والعلمية اللازمة لإدارة منطقة هامة وحساسة مثل كردستان الغربية وهو أمر يمكن تلمسه من متابعة أداءها البالغ السوء في الإدارة الذي أوصل الأوضاع العامة في المناطق الخاضعة لسلطتها إلى حافة الهاوية.
– لا يبدو مستقبل الحركة الأوجلانية في سورية مشرقا، فكل الإحتمالات التي يخبئها المستقبل لاتصب في صالح إستمراريتها .

إنتصار المعارضة الحالية سيضع الأوجلانيين في مواجهة مباشرة مع النظام الجديد الذي سيتعامل معهم كجزء من النظام السابق.

أما في حال خروج النظام معافى من الأزمة الحالية ، وهو إحتمال ضئيل للغاية ، فإن أول مايقوم به هو إعادة “الأمن والإستقرار إلى ربوع الوطن” الذي سيكون الآبوجيون أول ضحاياه، خاصة وإن العلاقات بين الطرفين ظلت محصورة في الجانب الأمني ولم تتخذ في أي يوم من الأيام طابعا سياسيا ، حتى في عز علاقات الطرفين أيام وجود السيد أوجلان في سورية.

والواقع أن الحركة الأوجلانية هي “خصم مفضل” لدى أنظمة المنطقة المعادية للطموحات الكردية في الحرية، إذ ليست لها أية مطالب قومية تقريبا ، علاوة على أنها مدرجة على لائحة الإرهاب في عدد كبير جدا من بلدان العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوربي الأمر الذي يسهل عملية التصدي لها ولجمها بسهولة.

مصير الأوجلانيين في سورية مرتبط إلى حد كبير بإستمرار المعضلة السورية وبقاء النظام السوري وحلفه “الممانع”.

لكن هذا لايمكن أن يستمر طويلا رغم كل التخاذل الدولي المشين وخصوصا الأمريكي الحالي.

فالواقع أنه لايوجد أي حل سياسي لهذه المعضلة ، وهذا المجتمع ذاته سيجد نفسه أخير مضطرا إلى التدخل بشكل ما ، سواء بإستخدام القوة العسكرية ، أو بالتلويح الجدي بإستخدامها ، وهو ماسيعجل بسقوط النظام ، وبالتالي إنكفاء المشروع الأوجلاني إيضا، وربما إنهياره الكامل.

  
–  إجراءات الحركة الأوجلانية الأخيرة في إعلان مايسمى “إدارة مدنية مؤقتة” في كردستان سورية بالتعاون مع بعض العشائر العربية المؤيدة للنظام وبعض التجمعات السريانية المعروفة بتفانيها الشديد في خدمة نظام الإستبداد وعدد من الحركات الكردية الهامشية لايجب أن تأخذ على محمل الجد.

وبحسب ماصرح به النائب في البرلمان الأسدي السيد عمر أوسي الذي بات يلعب مؤخرا دور ناطق بإسم النظام فيما يخص الملف الكردي في مقابلة له مع جريدة –الوطن- الموالية لنظام دمشق فإن هذه الخطوة  تمت بتنسيق “غير مباشر مع الحكومة السورية” ، وهي  ” مؤقتة ستنتهي بإنتهاء الأزمة الحالية”.

علاوة على أن هذا الإجراء ليس الأول في تاريخ الحركة الأوجلانية ، والأرجح أنه لن يكون الأخير، فقد سبقتها “مشاريع كردستانية كبرى” مثل “جمهورية بوطان” و “جمهورية الزاب” و”البرلمان الكردستاني” وسلسلة أخرى طويلة للغاية من “خطوات تاريخية” لم يعد يتذكرها حتى أصحابها.

وليس هناك من سبب وجيه للإعتقاد بأن مصير الخطوة الأخيرة سيكون مختلفا عن سابقاتها.

 يتبع في الحلقة التالية/

 كردستان الغربية…إلى أين؟  

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…