صلاح بدرالدين
صفحات تاريخ الشعوب لاتخلو من شواهد وأدلة على أن ثوراتها منذ قرون وبخاصة في القرنين الأخيرين قد حملت بذور الردات المضادة في أحشائها وبيئتها وعلى جنباتها منذ قيامها واستنزفت جهود وتكاليف مواجهتها جزءا كبيرا من طاقات الثوارالبشرية والمادية خلال الصراع المتواصل مع الأعداء الرئيسيين من قوى استعمارية أو أنظمة مستبدة في مراحل الاعداد والمعارك الفاصلة وتحقيق الانتصار ومابعده خلال عملية التغيير السياسي الديموقراطي السلمي واعادة بناء الجديد وازالة آثار الدكتاتورية وتجمع مصادر العلوم السياسية على تعريف الثورة المضادة ” بمحاولات اللذين ينقلبون على ثورات الشعوب بالكامل أو اجهاضها أو انهاكها لأسباب آيديولوجية أو حفاظا على المواقع القديمة ” .
ثورات الشعوب وطوال التاريخ قامت في ظروف محيطة متعددة الأسباب والدوافع والأهداف وتناوبت على اشعالها طبقات وفئات اجتماعية متباينة المنابت والمقاصد وبدءا من حقب العصر الحديث تصدرت ثورات التحرر الوطني والقومي المشهد ذات الخصائص الثابتة في مواجهة الاستعمار ونشدان الاستقلال والتي وحدت مختلف الطبقات والأطياف لتحقيق الأهداف المشتركة وفي هذا السياق لايجوز اعتبار الانقلابات العسكرية التي حدثت بالعشرات في بلداننا ضمن فعل الثورات الحقيقية من حيث أدواتها المحركة وأهدافها ووظائفها المقتصرة على استحواز السلطة لمصلحة أحزاب آيديولوجية أو فئات محلية مناطقية تحولت معظمها الى ردات مضادة للتحولات الوطنية والديموقراطية وعقبات أمام مشاريع التنمية والتقدم الاقتصادي والتطور الديموقراطي وتحديا حقيقيا أمام انجاز الوحدة الوطنية لذلك لاغرابة البتة من كون جميع البلدان التي أخذت نصيبها من موجة ثورات الربيع والمرشحة لنيله تقودها أنظمة ذات المنشأ الانقلابي – العسكري على رأسها أحزاب شمولية فئوية تعود الى جماعات توحدها العصبيات الحزبوية المناطقية ومصالح السلطة والمال .
ثورات الربيع الهادفة الى نيل الحرية والكرامة تحل بعد حوالي قرن من ثورات التحرر الوطني وعقود من الانقلابات العسكرية في أوضاع اجتماعية وثقافية وسياسية مختلفة محليا وخارجيا وبأهداف تكاد تكون مغايرة عن الأولى التي نشدت الاستقلال وطرد المستعمر وحلول القوى السائدة محلها بكل عيوبها ومساوئها وتخلفها وعن الثانية التي تجسدت في مجموعات عسكرية منظمة في احزاب قومية عبرت عن مصالح فئات من البورجوازية الصغيرة والمتوسطة ذات المنبت الريفي مهمتها نقل السلطة قسرا الى اوساطها ومامن شك أن الردات المضادة التي رافقت ثورات التحرر الوطني تختلف أيضا من حيث القوى والتيارات والآليات والأهداف عن أخواتها التي تهدد ثورات الربيع وتشكل تحديا أمام انتصارها هذه الثورات الأخيرة المعروفة بعفويتها ويتصدرها الشباب والفئات الشعبية الباحثة عن الكرامة والعيش اللائق لايجوز مقارنتها لابثورات التحرر الوطني ولابالثورات الاشتراكية الا في مجال بعض المشتركات العامة القليلة جدا أو اخضاعها قسرا لشروط ووظائف كانت قائمة قبل قرن من الزمان هذه ثورات من نوع جديد وفي قرن جديد يجب التعامل مع خصائصها ومميزاتها بمزيد من الدقة وكثير من الخصوصية وقليل من العمومية .
وعودة الى مسألة الثورة المضادة نعتقد أنها لاتختلف كماذكرنا في حالتي ثورات التحرر والربيع فحسب بل أيضا وفي الأخيرة بين مرحلتي المقاومة السلمية منها والمسلحة ومرحلة مابعد اسقاط الاستبداد واعادة البناء وقد علمتنا تجربة الثورتين التونسية والمصرية درسا ثمينا جدا يجب حفظه عن ظهر قلب وهو أن أي تقاعس أو اهمال من جانب القوى الثورية أو أية استهانة لمخاطر الثورة المضادة في المرحلة الأولى ستجلب الكارثة في المرحلة التالية وعلى سبيل المثال عندما سمحت القوى الثورية التي قادت الكفاح والمقاومة لتأخذ جماعات الاسلام السياسي مواقع ليست لها (اما عن ضعف أو غباء) أو عندما غضت الطرف عن تسلق (النهضة في تونس والاخوان في مصر) على أكتاف الثوار والتسلط وعندما قام الثوار وخاصة من التيارات القومية بدعم هؤلاء وتفضيلهم بحجة مواجهة (الفلول) لم يدركوا أن مخاطر جماعات الاسلام السياسي تفوق بلاحدود خطر عودة النظامين المخلوعين الى درجة أن هناك أصواتا في البلدين تنادي باشعال ثورة جديدة وترفع مجددا شعار” الشعب يريد اسقاط النظام ” .
الثورة السورية وهي تواجه نظام الاستبداد بكافة أشكال المقاومة ومازالت في مرحلتها الأولى وفي صراع مرير ومكشوف مع النظام تعاني الى جانب ذلك تحديات من داخلها وهي الأخطر بنظري ومن تجلياتها الأخيرة اعلان – جبهة النصرة – عن موالاتها لتنظيم القاعدة الارهابي وارتباطها بزعيمه الظواهري وما سيترتب على ذلك من مخاطر على حاضر ومستقبل الثورة وانعكاساته على أصدقاء الشعب السوري واحتمالات استثماره اعلاميا من جانب النظام وكما أرى لوكانت قيادة الثورة العسكرية موحدة ولو كانت هناك معارضة سياسية منظمة وموحدة ومعبرة حقا وحقيقة عن أهداف الثورة وفي خدمتها لم أكن أقلق ولو للحظة بل كنت سأقول على الملأ أن من حق وواجب كائن من كان أن يواجه نظام الاستبداد وينخرط بالثورة ويلتزم بأهدافها وينفذ قراراتها ولكن الوضع يختلف لأن جماعة الاخوان المسلمين تسلقت على أكتاف الثوار وتسلطت على (المجلس والائتلاف) مستفيدة من المناخ الجغرافي والدعم المالي والسياسي وهي من مهدت السبل لظهور جماعات اسلامية متطرفة كانت بالأساس ضمن صفوفها وعلى ضوء ذلك نعود لنؤكد على مسؤولية تيارات قومية وبعض ” الليبراليين واليسار ” في الصف المعارض عن ماوصلت اليها الحالة الآن بسبب سكوتهم عن تسلط الاخوان بل السير بركابهم ومن أجل درء مخاطر الثورة المضادة من الآن يجب العمل على تعزيز صفوف قوى الثورة والحراك وخاصة الجيش الحر واعادة بناء مؤسسة سياسية ديموقراطية جامعة من ممثلي كل المكونات الوطنية تعبر عن أهداف الثورة في المرحلة الراهنة والتخلص من – خدمات – المتسلقين وأصحاب المصالح الخاصة والحديثي العهد بالمعارضة واعادة التيارات الآيديولوجية الشمولية الى أحجامها الطبيعية وخاصة الاخوان المسلمون الذين يشكلون سوية مصدر الثورة المضادة .