محمود عباس
بعد أن عملت طويلا على مبدأ تقويض الإرهاب بمساعدة اصحابها، ضرب التيارات الإسلامية المتطرفة عن طريق دعم وتقوية الإسلام السياسي الليبرالي، وبمساعدة دول عربية واسلامية، ومحاولات التقريب بين المفهوم الديمقراطي لدى الدول المتطورة و مفاهيم ومناهج الحكومات التي تتبنى المبادئ والإسلوب السياسي المذكور في تسيير شعوبها، كتركيا على سبيل المثال، وعليه دعمت وأخرجت إلى الساحة السياسية حكومة مصر الإسلامية،
لكن الواقع الحاضر تبين ظهور إنحراف ما عن تلك الإستراتيجية، وبشكل خاص في العالمين العربي والإسلامي، بعد تبيان عدم فعاليتها في الواقع العملي، وتأكدوا على أنه لا يوجد اسلام سياسي معتدل عند تطبيق مبادئ الدين الإسلامي.
والثورة السورية اليوم تعاني من هذه المعضلة، إلى أن اصبحت كحقل تجارب للدبلوماسية العالمية، وعلى رأسهم أمريكا، التي بدأت وبشكل فاضح تنقب في كل المجالات، وتدعم دول متناقضة سياسياً، لتكوين قوى جديدة، تحاول تحفيز التيارات الشبابية الثورية، داخل سوريا الوطن.
الولايات المتحدة الأمريكية، كانت ولا تزال، تملك القدرات على تغيير مسار الثورة السورية، ولها امكانيات الوصول إلى أفضل الإتفاقيات مع الروس، واقناع بوتين، واخرج إيران من المعادلة، بل وعزلها كطرف من المشكلة، بتحركات دبلوماسية ما، لكنها تمعن في الأساليب والقدرات بنفس السوية من الدراسة للتيارات الحاضرة والتي ستظهر مستقبلاً، تنظر إلى كل الأبعاد، وتدقق في مستقبل مصالحها ومصالح اصدقائها المقربين، الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية بروية، ومن وجهة نظر الطرف الأكثر ليبرالية في الحزب الديمقراطي، والذين كانوا الأكثر تاثيراً على عدم التدخل الخارجي لمساندة الثورة، وجرف الصراع السوري إلى السوية الحاضرة.
بعكس الروس، الذين صرحوا اليوم، بأنهم لا ينوون الضغط على بشار الأسد لتحميله على الرحيل، والحقيقة ليس بأنهم لا يرغبون، بل لأنهم لا يملكون القدرات الأمريكية على ذلك حتى ولو أرادوا، فسيادتهم تتركز على عملية الدعم العسكري والإعلامي، وقدراتهم تكمن بوقف هذه المساعدات.
لكن أمريكا قادرة على الحالتين، ايقاف الدعم الروسي، وعزل بشار الأسد، وهي حقيقة، البعض يشكك فيها، لأنهم لا يريدون أن يروا ماوراء الظاهر من الدبلوماسية الأمريكية.
للولايات المتحدة الأمريكية القدرة على تغيير وجهة نظر أغلب دول العالم، إذا تعارضت مع مصالحها، ونحن هنا بصدد الثورة السورية، والتناقضات الفاضحة بين الدبلوماسيتين، الإعلامية، والمخفية في الصالات المغلقة.
الكل يتذكر يوم قررت إخراج عراق صدام حسين من المعادلة في الشرق الأوسط، بعد أن أبقاها متوازنة مع أيران على مدى ثمانية سنوات من الحرب، وبعدها بشهور تمكنت من تغيير المعادلة.
وكانت لها القدرة على أن يفرض على بشار الأسد بطرد ابناء صدام ونائبه من داخل الأراضي السورية، بل وسلموهم بشكل مباشر إلى الأمريكيين.
طردت أمريكا القوات السورية العسكرية والامنية بين ليلة وضحاها من لبنان، وبدون قيد وشرط، بعد ثلاثين سنة من الاستعمار العسكري والسياسي الفظيع.
الأمثلة عديدة على القدرات التي تملكها الولايات المتحدة الأمريكية في التأثير على السياسات العالمية، وعلى حكومات الشرق الأوسط بشكل خاص، أكثر مما يتصوره ويحلله الباحثين القوميين في المنطقة، والذين يتباهون بمقدرات حكوماتهم، والتعامل الخارجي.
تختلف هذه التوجهات حسب السياسة الأمريكية الداخلية ذاتها، وحسب الحكومات المنتخبة، أي عملياً بين الجمهوريين والديمقراطيين، وللأسف حددت مصير الثورة السورية، خارجياً وفي كثيره داخليا، حكومة ليبرالية جداً من داخل الحزب الديمقراطي، قناعاتهم في السياسة الخارجية تأتي عن طريق منطق الحوار وعامل الزمن والإرضاخ الاقتصادي، مع رفض مطلق لعامل القوة، والاحساس بالمسؤولية العالمية.
بخلوا في جميع أنواع الدعم، وفرضوا نفس السياسة على اغلب الدول التي كانت تريد تقديم العون، وأرسلوا قضية الشعب السوري إلى مجلس الأمن يوم أرادوا التخلي عن مواقف حازمة، ورضخت لسياستهم الدول العربية المؤيدة للثورة.
لا شك إن الحكومة الأمريكية كانت قادرة على اختصار الصراع السوري، إلى درجة تغيير السلطة في فترة زمنية سابقة، حتى قبل ان يتمسك روسيا بمواقفها، وتجد لذاتها أهمية على الساحة، وانتهازها فرصة تقاعس الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي هذا المنطق لا تلغى التوقعات الأبعد من الصراع الموجود على الإعلام بينهما، على إنهما متفقان مسبقاً على كل ما يجري الأن في الثورة السورية، بدءاً من خلق التوازن بين الثوار وسلطة بشار الأسد وجلاوزته إلى أطول فترة ممكنة، علما أن الطرفان مقتنعان بأن السلطة زائلة لا محالة، وعليه فالاتفاقيات الدبلوماسية الحقيقية ليست تلك التي تظهر على الاعلام، بل تلك التي عقدت وتعقد في الأروقة المظلمة، ليس فقط لتقرير مصير الثورة وبشار الأسد وشبيحته، بل لإحداث تغيير أشمل في كل منطقة الشرق الأوسط.
يتبع…
د.
محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com