مصطفى إسماعيل
أفضل ما يمكن لرأس الوزارة التركية أردوغان القيام به هو ترك السياسة والعمل على إنتاج كتب النصائح وجمع الحكم والأمثال.
لا شك أنه سيفلح في ذلك كونه كان بائعا متجولا يبيع الكعك والبطيخ في أزقة استنبول وحواريها حين كان طالبا في المرحلة الابتدائية والإعدادية, والباعة يتقنون التعبير عن الشارع وذاكرة المجتمع أكثر ربما من الساسة ورجال الدولة بناء على التعامل الواسع مع الشرائح المجتمعية كافة.
افتراق رئيس الوزارة عن البائع المتجول في شخص أردوغان هو أن رئيس الوزارة فيه لا يعرض كامل مخزونه من البضاعة بل المخزن فقط في مفضلته.
أما البائع المتجول فهدفه تحقيق اكبر نسبة من المبيعات وهذا يتطلب عرضه لكامل البضاعة.
يمكن لاردوغان أن يتصرف كـ ( سياسي ) متجول حين يشاء, وهو فعلها في آمد حاضرة الشمال الكردي قبل سنة, ولكن يبدو أنه لا يريد العيش في النوستالجيا والدعاية الانتخابية غاية ما يريده هو أن يتنكر لماضيه بغية أن يكون فرس الرهان الأسود في سباق الرئاسة التركية, وهو ما يريده جنرالات المؤسسة العسكرية أيضا, والاستخبارات التركية التي تؤيد تصريحاته حول البحث عن مكان لتركيا في خارطة أحداث المنطقة.
من هنا لم تفاجئنا تصريحات أردوغان البيروتية وتالياً خطابه أمام مجموعة حزبه البرلمانية فهي امتداد لتصريحاته النيويوركية, ولكن ميزة تصريحاته في بيروت أنها تفصيلية أكثر وفيها توضيحات عيانية غير مواربة.
مجمل هذه التصريحات يمكننا أن ندخلها في خانة اللاعقلانية واللامعقولية والحمق السياسي التركي, وهو ما يبرع فيه المسؤولون الأتراك حين يقفزون فوق حقائق الواقع والمتجسد على الأرض ويلوذون باللاممكن السياسي.
رجل تركيا المريض ” أردوغان ” يبدي استعداده في بيروت للمساهمة في حل الأزمة اللبنانية السياسية متناسيا أن تركيا بلد الأزمات والمسائل والقضايا العالقة, وهو يأمل أن يتغلب لبنان على ظروفه القاهرة, وكأن لا ظروف قاهرة في تركيا, وكأن تركيا بلد الكمال السياسي.
وهو في بيروت إذ يدعو إلى اعتماد الحوار كأسلوب لحل الخلافات السياسية يتناسى أن الأسلوب الوحيد المعتمد في تركيا لحل الخلاف مع الكرد في شمالي كوردستان هو منطق الدبابة والطائرة والمدفع والتفجيرات واعتماد مافيا القتل وتقسيم المجتمع أفقيا وعموديا وخلق الأحقاد والضغائن بين الأتراك والكورد.
أردوغان والحالة هذه ليس سوى أحد عرّابي تخريب العلاقات الداخلية في تركيا, وأي نصح مقدم منه لغيره مرفوض ولا شك, ويعتبر من قبيل الضحك على الذقون واللحى.
على أردوغان أن يتصرف بحكمة رجل دولة, وبدلا عن توزيع النصائح ذات اليمين وذات الشمال عليه أن يهتم بداخله قبل أن يذوب الثلج ويشهد شمالي كوردستان أمورا خطيرة ودراماتيكية.
بدلا عن لغة التهديد والوعيد الأثيرة والمحببة إلى قلوب الطورانيين والتلويح باجتياح كوردستان الفيدرالي لإعادة الأمجاد العثمانية مجددا وفي هذا العصر ينبغي على الدولة التركية إزاحة هذا العبء الأيديولوجي السياسي والعسكري الذي كان أداة فعالة في تسيير الدولة التركية بعدما أقصت شعوبا عدة عن الخارطة.
على الدولة التركية تعطيل المؤسسة العسكرية وتقليم أظافرها وهي المؤسسة العقبة أمام مستقبل مكونات الخارطة التي سميت بـ ” تركيا ” كما وينبغي على الدول التركية التخلي عن مأسسة المافيا وجماعات الإرهاب المنظم التي لها غالبية الأحيان خلفيات قومجية كل ذلك كفيل بتحقيق ذلك التوازن المرتقب الداخلي بأبعاده السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
ولكن يبدو أن ساسة وجنرالات تركيا يريدون في هذه المرحلة تقليد طوطمهم بوش في نشر الفوضى الخلاقة في كوردستان هذه المرة, وإلا فما معنى إحباط أردوغان من لجنة التنسيق الأمريكية – التركية حول حزب العمال الكردستاني التي انطلقت باعتراف أردوغان بناء على أوالية هي إنهاء هذا الحزب ولكن باء التصعيديون الأتراك بالخيبة إذ لم تمنحهم واشنطن فيزا جنوبي كوردستان.
وما معنى تذكير الرئيس التركي أحمد نجدت سزر لنا باتفاقية لوزان في معرض رده على مقترحات رئيس مجلس النواب الإيطالي حول ضرورة منح الكورد في شمالي كوردستان المزيد من الحقوق الثقافية والإدارية هل نسي الرئيس التركي أن جمهوريته إنما مجرد جغرافية مرقعة بفعل الدبابة ومنذ اتفاقية لوزان المشؤومة تلك التي انتهكت الحق الكوردي في ذلك الانقلاب/ الصفقة على مواد معاهدة سيفر الخاصة بالكورد.
المتتبع في الآونة الأخيرة للإعلام التركي سيلحظ لهجة التصعيد المتنامية والهرطقات العسكرية التركية والتلويح باجتياح جنوبي كوردستان ( كوردستان الفيدرالي ), فتركيا على لسان مسؤولي استخباراتها وساستها قررت مبارحة وضع المتفرج والانخراط بشكل عملي ومكثف في أجندة الشرق الأوسط ولا سيما الجوار التركي الساخن, وكانت بداية هذا الانخراط التركي في قضايا المنطقة انضمام قوة تركية إلى اليونيفيل في جنوبي لبنان.
ما نشر مؤخراً في موقع الفضائية التركية ” سكاي تورك ” حول جهوزية 240 ألف جندي تركي لاجتياح جنوبي كوردستان انطلاقا من قناعة مفادها – بحسب الموقع – القضاء على الإرهاب الكوردي وحماية التركمان في كركوك كون الهدف الأخير يدخل في صلب أوليات المؤسسة العسكرية التركية لا يبشر بخير, فالجيش التركي المتأهب للعملية العسكرية يجري بروفات في منطقتي شمزينان وجولك حالياً, وهو يحضر لاختراق الحدود صوب كوردستان الفيدرالي على محور هكاري – شرناخ.
لا يمكن التكهن بما سيجري والمتوقع أن يجري فما نتابعه من مواجهات حاليا في شمالي كوردستان يبدو أنه الترجمة العملية لطبول الحرب التي تدوي في الإعلام التركي العنصري والشوفيني وفي أفواه الساسة والجنرالات.
وزاد من تأجج تلكم التصريحات الموقف الذي أطلقه السفير الأمريكي في أنقرة ” روس ولسون ” حول إمكان تركيا القيام بعمليات عسكرية خارج الحدود لحماية مواطنيها في الداخل الذي يفهم – ربما تركياً – على أنه ضوء أخضر أمريكي لتركيا للمضي إلى طموحاتها كما ينبغي.
المؤسف أن التصعيد التركي يأتي محايثا ومتزامنا مع مؤتمر أنقرة حول القضية الكوردية في شمالي كوردستان والذي كان شعاره ” تركيا تبحث عن سلامها ” والإعلام التركي غير آبه بما يحلم به المثقفون الترك والكورد حول تركيا ديمقراطية خالية من العنف, والموقف التركي الرسمي بذا يعتبر أحد أوجه إنكار القضية الكردية ما سيفاقم الأمور أكثر فأكثر.
نتمنى أن يكون التصعيد التركي السائر إلى إطباق دوائر العنف على كوردستان تصعيدا لضرورات تركيا الانتخابية التي اعتدنا عليها في السنوات الأخيرة وإيذانا بانقراض النهج العنفي وإرهاب الدولة لأجل أن يفتح ذلك الأبواب على مصاريعها لدخول تركيا إلى المجال الحيوي للديمقراطية ويحتضر العنف السياسي والعسكري إلى غير رجعة, فالنظام الديمقراطي لم يستقر في تركيا إلى الآن, وإلا كانت الجمهورية التركية طوّرت آليات لاحتواء العنف.
على مرّ أشهر ثلاثة منذ الهدنة الكوردية الأحادية وقبلها هدنات أخر أثبت الطرف الكوردي في شمالي كوردستان والمثقفون الأتراك عبر سلسلة فعاليات أن تاريخ العالم يمكن له أن يكون تاريخ سلام أيضا كردّ غير مباشر على مقولةٍ لـ ” جون كيغان ” في موسوعته ” تاريخ الحرب ” ولكن الجنرالات والساسة الأتراك والقسم الأكبر من المؤسسات الإعلامية التركية الأسرى لأوهام التوسع الإمبراطوري مصرّون على أن التاريخ تصنعه الحروب والدماء فقط.