درويش محمى
خيراً حسم الرئيس الامريكي جورج بوش امره ، وافصح عن استراتيجيته الجديدة بشأن العراق ، معلناً تصميمه على الاستمرار بدعم الحكومة العراقية ، وارسال المزيد من القوات الامريكية للمساعدة في استتباب الامن في العاصمة بغداد ومحافظة الانبار ، ولم يأخذ الرئيس بوش بتوصيات بيكرـ هاملتون ، التي كانت تشكل خطة انسحاب امريكية عاجلة من العراق ، واستهانة واستخفاف بارادة الاغلبية من الشعب العراقي وماتم انجازه من دستور دائم وبرلمان منتخب ، وانتخابات اقدم عليها العراقيون في ظروف صعبة وقاسية ، اثبتوا من خلالها عن تأيديهم للعراق الجديد وبناء الدولة الديمقراطية .
شهدت القوات الامريكية ومعها الادارة الامريكية ، اعوام صعبة وقاسية في العراق ، على عكس التوقعات بحرب قصيرة وخاطفة ، وبدل ان يستقبلها العراقيون “باستثناء الكرد” كقوات محررة ، بباقات الورد كما فعل جيرانهم من اهل الكويت ، تعبيراً عن شكرهم وامتنانهم ، تم استقبال تلك القوات بالجفاء من بعض الشيعة ، وبالرصاص من البعض الاخر”كالتيار الصدري ” والسنة العرب .
المحنة العراقية والحرب الضروس التي تستهدف مشروع العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد ، من قبل القاعدة والجماعات المسلحة والمليشيات الخارجة على القانون ، تتطلب شجاعة فائقة واتخاذ قرارات حاسمة ، وهذا ما اقدم عليه الرئيس الامريكي جورج بوش في وضع استراتيجيته الجديدة بشأن العراق ، واختار المواجهة رغم صعوبتها على الانسحاب و”الهزيمة” .
الدعم الامريكي المشروط لحكومة السيد المالكي ، وعملية الزام الحكومة العراقية بفترة زمنية معقولة لانجاز بعض المهام المحددة ، بالاضافة الى الاعلان الصريح الذي جاء في خطاب الرئيس بوش ، بأن الدعم الامريكي للحكومة العراقية لم يعد مطلقاً ومباحاً الى الابد ، خطوات صائبة وفي محلها ، لانها ستدفع بالفرقاء المشاركين في العملية السياسية الى التضامن اكثر من ذي قبل ، والعمل بجدية ومسؤولية لمواجهة العقبات الامنية والسياسية التي تواجه العراق ، والشروط الامريكية الجديدة تشكل كذلك ، مفترق طريق في السياسة الامريكية ودورها المستقبلي في العراق ، وتعبر عن حقيقة ما يشعر به اغلبية الشعب الامريكي الذي يقاتل اولاده في ما وراء المحيطات ، وبدأ يفقد صبره وثقته بجدوى دمقرطة العراق ومدى استجابة العراقيين وقابليتهم للعصرنة والتحرر بدل الاقتتال والتمسك بثقافة الاستبداد ، الغالبية من الشعب الامريكي صوت مؤخراً للديمقراطين على عكس المألوف ، كرد فعل على اخفاق العراقيين والحليف الامريكي من انجاز المهمة على الساحة العراقية ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة ما الذي يخفيه العام الحالي للعراق وللعراقيين ؟؟
اقامة نظام ديمقراطي على انقاض دولة فاشية ، انتهجت على مدى عقود من الزمن ، سياسة الاضطهاد القومي والطائفي والعنف والالغاء للاخر ، ليس بالامر الهين ، فمن الطبيعي جداً وكنتيجة لزوال الاستقرار القائم على عنف الدولة ، تجاه الكرد من جهة والشيعة من جهة اخرى ، ان يظهر الى السطح قوة الاغلبية المتمثلة بالشيعة والكرد ، كاستحقاق طبيعي للعملية الديمقراطية ، باعتبار الطرف الشيعي يشكل الاغلبية ومع الكرد يشكلون الاغلبية المطلقة ، مقابل الطرف السني الذي يشكل اقلية ويعارض عملية التغيير ، ويرفض الاعتراف بالحقيقة القائلة ان العراق ما قبل نيسان 2003 قد ولى والى الابد ، قد تبدو هذه النظرة عامة وغير دقيقة ، وهذا صحيح ، فالامر اعقد من الخلاف الطائفي والاثني الذي يتميزبه البلد العراقي ، بل يتجاوز حدود العراق وامكاناته .
ما يجري في العراق يعكس صراع ارادات عديدة متناقضة ، القاعدة والسلفيين وحربهم مع الكفرة الامريكان والقوات الصليبية ، وجهادهم في سبيل جعل العراق امارة اسلامية متخلفة بدائية ، البعثيين والقوميين العرب الذين مازالوا يعتقدون بسياسة الاستبداد والرأي الواحد ، و وهمهم بامكانية عودتهم الى السلطة وفرض ارادتهم على الجميع ، التيار الصدري الاسلامي المتطرف وقائده الشاب القاصر في الشأن السياسي ، والكرد الذين يدركون جيداً انهم امام فرصة تاريخية لاتعوض للحصول على حقوقهم القومية المشروعة والحفاظ على تجربتهم الفيدرالية ، والشيعة بانواعهم وهم يصرون على حقوقهم كأغلبية ، ودول المنطقة والجوار العراقي مابين رافض للتغيير ومتفرج ، وقطعاً لا توجد بين حكومات المنطقة من يدعم العراق الديمقراطي الفدرالي الجديد .
الاستراتيجية الامريكية الجديدة في العراق ، وضعت الحكومة العراقية امام حالة انعدام الخيارات ، ولم يعد امام الحكومة العراقية الا خيار واحد لا غير ، باتخاذ قرارات حاسمة وسريعة ، وايجاد حلول لعدة قضايا عاجلة ، بخصوص ميليشيا جيش المهدي ، وارضاء السنة العرب وادخالهم في العملية السياسية والدخول معهم في عملية مساومة سريعة ، والضرب بيد من حديد اوكار السلفيين العرب وحلفائهم من فلول البعثيين ، والقضاء على الفساد المستشري في الوزارات الحاكمة ، وبناء القوات العسكرية العراقية ، والحد من التدخل الايراني والسوري ، مهام تنتظر حكومة المالكي ، تتطلب جهود حثيثة ومرونة سياسية وحسم عسكري في الوقت نفسه ، وفي حال عدم تمكنها من تحقيق ذلك ، فالخروج الامريكي من العراق قد يصبح امراً واقعاً ، والنتائج ستكون وخيمة وقاسية على العراق والعراقيين أولاً واخيراً .
فرض فترة زمنية محددة على الحكومة العراقية والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية لاتمام استحقاقات لا تقبل النأجيل ، واستمرار الدعم الامريكي للحكومة العراقية لفترة مقبلة ، يعتبر بمثابة صك “برأة ذمة” للادارة الامريكية من التزاماتها الاخلاقية تجاه الشعب العراقي ، بوصفها قامت بعملية التغيير ، وفعلت ماعليها من اجل تحقيق ما اعلنته ، والكرة الان في ملعب الساسة العراقيين من اجل انقاذ بلدهم والتصدي للقيام بما يجب القيام به .
الاستراتيجية الجديدة للرئيس بوش جاءت مخالفة لتوصيات بيكرـ هاملتون ، ولكنه خلاف مؤقت وغير دائم ، فالدعم الامريكي للحكومة العراقية اصبح دعماً مشروطاً وذو سقف زمني محدود ، واذا لم تتحقق الشروط الامريكية او على الاقل الجزء الاكبر منها خلال الفترة المعلنة ، سيتم العمل بمعظم توصيات بيكر هاملتون ، ويتم كذلك وبحكم الواقع العودة الى السياسة الامريكية التقليدية ، التي تقوم على ركيزة مفهوم الاستقرارالجبري ” القائم على العنف” من قبل الحكومات الديكتاتورية ، تؤمن للولايات المتحدة الاستقرار المطلوب لتأمين مصالحها الحيوية والاستراتيجية ، يخطئ من يعتقد ان توصيات بيكر ـ هاملتون قد انتهى امرها ، باعلان الرئيس جورج بوش لاستراتيجيته الجديدة ، التوصيات باقية ولم يتم الغاءها بل تم تعليقها وحسب ، فأذا فشلت التجربة العراقية ، ستعود توصيات بيكرـ هاملتون الى الصدارة من جديد ، ولن ينتصر السلفيين والظلاميين في العراق وحسب ، بل سينتصر التيار السياسي الامريكي المناهض لمشروع جورج بوش الداعي الى دمقرطة المنطقة ، وسيتم بالفعل تجاهل ارادة شعوب منطقة الشرق الاوسط ، والحاجة الحقيقية الملحة لتلك الشعوب الى الحريات بانواعها المختلفة ، وستعتبر مسألة الحريات والديمقراطية شأن داخلي لحكومات المنطقة ، لا تتدخل فيها الولايات المتحدة الامريكية ، ولن تتجرأ اية حكومة امريكية في المستقبل الاقدام على تجربة مماثلة للتجربة العراقية مرة اخرى .
الاشهر القليلة المقبلة ، تعتبر فترة حاسمة في تقرير مصير العراق ، وتشكل فرصة اخيرة امام العراقيين في بناء بلدهم ، فمن مصلحة الكرد نجاح تجربتهم الفيدرالية ، ومن مصلحة الاغلبية الشيعية انتمائهم لعراق قوي يحظى بقبول الجيران العرب ، ومن مصلحة السنة العرب البقاء كجزء من العراق الغني ويتقاسموا مع بقية العراقيين خيرات وثروات العراق الوفيرة ، فهل سيستمع العراقيون لصوت الحكمة والعقل ، والاتفاق على بناء عراق جديد للجميع ومن اجل الجميع .
عن صحيفة الزمان