شهناز شيخة
بدأت الثورة السورية ككل ثورات ربيع الحرية متبنيةً فلسفتها الإنسانية للحق والسلام منيرةً دروب نضالها بتوق هائل للخلاص من سنين قهر طويلة على أيدي الحكام المتألّهين حاملة ً شعاراتها البيضاء على مدى سبعة أشهر “سلمية …..
سلمية ” تختمر بين ثناياها روح غاندي المهاتما داعية السلام الذي كان يؤكد دائما ً أن الإنسان يمكن أن يقف في وجه الطغاة بالمقاومة السلبية دون ان يلجأ للعنف وسفك الدم … غاندي الذي استحق بجدارة لقب مهاتما وتعني “صاحب النفس العظيمة ” حيث استطاع من خلال تبنّي مفهوم اللاعنف ونشر الثقافة السلمية تحقيق استقلال الهند ………..
وهكذا سارت الثورة السورية الباسلة
منطلقةً من سيكولوجية الإنسان المقهور وهي لا تدرك أن روح المهاتما النبيلة تبارك مسيرتها وهي تحمل الحرية والكرامة والسلام شعاراً لها ولأن الثورة لا تشعلها إلا أرواح بريئة فحيث أشعلت روح البوعزيزي ثورة تونس وأشعلت أرواح شبان مصريين ثورة مصر فقد توقدت الثورة السورية بأرواح أطفال درعا تلك التي أهينت واغتصبت بشراسة إجرامية لا بشرية وكانت تلك الثورة قد توقدت منذ سنوات في الروح الكرديّة متمثلةً بانتفاضة آذار وكان السبب المباشر فيها انتهاك أرواح شباب كرد أبرياء إثر الأحداث الدامية في الثاني عشر من آذار 2004وانتهاك تلك الأرواح أيضا في ليلة نوروز عام 2008على مرأى وذهول أرصفة قامشلو المضاءة بالشموع والأحزان ….
كل ذلك الدم والقمع والتنكيل جابهه الشعب السوري بالخروج الأعزل للساحات … مطالبين بالحرية … وهو ما فعله غاندي الذي أعلن العصيان المدني في وجه الانكليز وأكد على ضبط النفس وعدم هدر نقطة دم واحدة وتعرّض لمواقف عصيبة لتحقيق ذلك ..
فبعد بدء تلك الحركة زج عشرات الألوف من المعتنقين لفكر غاندي في السجون وكانت ردّة فعل المواطنين في إحدى القرى قد خرجت من إطارها السلمي حيث تهجّموا على مخفرٍ للشرطة وأشعلوا النار وقتلوا بعض الشرطيين وتأسّف غاندي لذلك وحزن أشد الحزن وأعلن وقف الحركة حتى لا يخوض نضالا ً دموياً بسبب أخطاء هؤلاء الذين أصبحوا عدوانيين وانفلتوا من الرقابة الرشيدة وخرجوا عن مفهوم اللاعنف في نضالهم وأخذ عليهم أن الأخطاء والشرور لا ترتكب من جانب الحكومة وحدها ..وهكذا أكّد غاندي على المقاومة السلبية واستمرّ فيها فيما بعد في رحلة طويلة بدأت بالملح والمغزل اليدوي وانتهت بالاستقلال … وهي نفس السياسة التي اتبعها للدفاع عن العمال الهنود في جنوب افريقيا حيث كان محامياً انسانا حمل معه فلسفة اديان الشرق ومتاثًراً بعدد من المفكرين من أمثال ليو تولستوي خاصة “كتابه الخلاص في انفسكم “وهنري دافيد تورو في كتابه “العصيان المدني” وغيرهم من دعاة للسلام ….
وقد صهر غاندي كل تلك الثقافات في بوتقة روحه القوية وقدّمها للعالم كمنهج أخلاقي في النضال من أجل حرية الإنسان مؤكداً أن اللاعنف ليس ضعفاً بل هو قوّة حقيقية تمارس الضغط من غير عنف ….
يقول غاندي : يمكن لمجموعة صغيرة من الشجعان بعزيمتها وإصرارها أن تغير مجرى التاريخ ” ويؤكّد كذلك : إنّ أعتى نظام سياسي في العالم يمكن إسقاطه دون سفك نقطة دم واحدة ” لكنّه أيضاً يقول : إنني قد ألجا إلى العنف إذا كان البديل هو القضاء على عرق بشري بأكمله ” وإذا جوبهت حركة اللاعنف بقوة قاهرة جبارة بلا ضمير او أخلاق, ومع ذلك فإن الانكليز لم يجابهوا تلك الحركة بالإبادات الجماعية كما يحدث الآن في القرن الواحد والعشرين للإنسان لمجرد أنه يطالب بحقه في أن يعيش إنساناً سواء كان كردياً أو عربياً ..مسلماً أو مسيحياً ..سنياً أو شيعياً ….
ورغم قيام مجموعة من الشباب بحمل السلاح لحماية نسائهم وأطفالهم من القتل والاغتصاب ومشاريع الإبادة اللاانسانية فالثورة السورية مازالت تنزل للساحات بصدور عارية وأيادي عزلاء تغنّي للحرية التي بذلت لأجلها دماء كثيرة طاهرة تغني بقلوب باكية حزنها الكبير….
متسلّحةً بشجاعة وبقناعة أخلاقية لمواجهة النضال …….
مجسّدةً قوّة إنسانية هائلة تبناها غاندي في تحرير الشعوب شبّهها رومان رولاند بـــــــ “تسونامي هائلة ” وكان غاندي قد ابتدع الإضراب عن الطعام وسماه الصيام حتى الموت حين كانت تهرق الدماء أيا كانت فهو لم يكن يرى من الدماء سوى لونها بصرف النظر عن الجسد الذي نزفها حتى لو كانت دماء من يحتلونه … كذلك أعلن صيامه حين نشب الاقتتال بين الهندوس والمسلمين احتجاجا ً على الفتنة الطائفية حتى يتوقف هدر الدماء ……
لقد نجحت شعوب كثيرة في نيل حقوقها حين تبنت فكر غاندي كما حدث مع المدافعين عن حقوق العمال في المكسيك وكما حدث مع المفكر الإنساني والقس مارتن لوثر كينغ المدافع عن حقوق الأمريكيين السود والذي دفع حياته من أجل إحقاق العدالة الاجتماعية لهؤلاء المضطهدين ….
كما حدث مع لانزا فاستو الذي قاد مظاهرات صامتة في فرنسا وإضرابات عن الطعام من أجل تحقيق أهدافهم الإنسانية …
إننا اليوم أكثر الشعوب حاجة لعقيدة غاندي العظيمة في تبني مفهوم السلام وحماية النفس من شرك الفتنة الطائفية … بحاجة لذلك الجلد في وجه الطغاة الذين في النهاية سيخضعون لإرادة الشعوب ..
لقد أراد غاندي حماية حقوق الأقليات في الهند ومنهم المسلمين لكنه بذل دمه لذلك حيث اغتيل عن عمر يناهز التاسعة والسبعين عاماً على يد أحد المتعصبين الهندوس بعد أن ارتبط اسمه بالنضال السلمي العالمي وصار رمزاً للسلام والكفاح من أجل الحق والحرية …لذلك خصصت الأمم المتحدة يوماً احتجاجياً للكفاح السلمي إكراماً لغاندي تحت شعار ” اللاعنف ” يصادف يوم ميلاده ….
إنه معنا يبارك وطننا يحثنا عل طهارة أرواحنا في وجه القتل حين يقول : أنا مستعدٌ للموت لكن ليس لدي ولن يكون أبدا أي استعداد للقتل ” …..
نحن بحاجة ونحن نرى سوريا تنزف لتلك الروح العالية لنتجاوز الانهيارات التي تحدث ….
سوريا التي لم تطلب سوى الحرية كما طلبها غاندي لشعبه حين قال ” إننا نريد الحرية نفسها التي يريد تشرشل من البريطانيين أن يموتوا في سبيلها “….
غاندي الذي قال أيضا : سيأتي يوم يعتذر فيه البريطانيون عما فعلوه بنا ” لقد وقف البريطانيون احتراما لتلك الروح المسالمة واعتذروا لها حقاً كما فعل الفرنسيون مع شعب الجزائر … لكن تمنيت لو أن طاغية وقف أمام شعبه واعتذر له عن انهار الدماء والسجون والتعذيب والتجويع والحرائق تمنيت لو اعتذر للثكالى والأرامل ..
لو وقف أمام طفل سوري شريد فجع بإخوته وأبويه على مرأى من عينيه …لكنّ الاعتذار يحتاج معبداً والمعبد لا تدخله ألا أرواح طاهرة ..المعبد لا تدخله أبداً نفوس ملطخة بكل تلك الدماء ….
ذلك المعبد هو قلب كل سوري ّ بكى دماً فقط لأنه خفق بحبه …..للحرية …….!!!