خالص مسور
سأقوم بنشر هذه الذكريات على حلقة واحدة ربما تسلط الأضواء على جوانب قد تكون منسية من الحياة الحزبية للإستاذ المرحوم اسماعيل عمر(أبو شيار) بشخصيته الجذابة والمحبوبة من كل من رآه وتعامل معه سياسياً أم اجتماعياً أم بصداقة عابرة، وهي جوانب قلما تتكرر في المسيرة الساسية لمسؤولي الأحزاب الكردية في عصرنا.
وقد دفعني إخلاص الرجل وتفانيه في خدمة قضية شعبه ووطنه ثم الحنين (نوستالجيا) التي تشدني إلى أيام الرجل وحلمه وتواضعه، وإلى استعادة هذه الذكريات الأثيرة سأقوم بتدوين بعض الأشياء المتواضعة في مسيرة رجل افنى عمره في صراع ضد التغريب والظلم وطمس الحقيقة والحق، وسوف لن أقول إلا شاهداً محايداً دون مجاملة أو- أحباب جاويشية – كما يقول أكرادنا الشماليون وسأبدأ بالحلقة ولن أطيل في المقدمة:
وقد دفعني إخلاص الرجل وتفانيه في خدمة قضية شعبه ووطنه ثم الحنين (نوستالجيا) التي تشدني إلى أيام الرجل وحلمه وتواضعه، وإلى استعادة هذه الذكريات الأثيرة سأقوم بتدوين بعض الأشياء المتواضعة في مسيرة رجل افنى عمره في صراع ضد التغريب والظلم وطمس الحقيقة والحق، وسوف لن أقول إلا شاهداً محايداً دون مجاملة أو- أحباب جاويشية – كما يقول أكرادنا الشماليون وسأبدأ بالحلقة ولن أطيل في المقدمة:
في صباح أحد الأيام المشرقة الجميلة من صباحات عام 1977م فوجئت بزيار الإستاذ اسماعيل عمر لقريتي قرية حوفة التابعة للقامشلي والواقعة على الطريق الدولي إلى الجنوب الغربي منها، برفقة عدد من رفاقه الحزبيين، ولهذا فقد نالت القرية شرف زيارته أقول شرف زيارته، ليس لأنه شخصية اجتماعية أو وجيهاً أو أحد الاغنياء والميسورين، بل لأنه كقومي كردي كان قد نذر نفسه في خدمة شعبه واتخذ طريقه الذي يؤمن به في سبيل حقوق هذا الشعب الأسير على أيدي حكام المنطقة العنصريين والمستبدين والفاسدين.
ويظهر حينها أن المؤتمر الثاني للحزب الديموقراطي الكردي في سورية(البارتي) كان على الأبواب في عام 1977م.
أو بالأحرى كان يجري التحضير للمؤتمر والسعي لانتخاب من يحالفهم الحظ لحضور فعالياته السياسية، وكان وجوده ورفاقه هناك لهذ الأسباب دون أن يكون لي علم مسبق عن سبب قدومه أو أي شيء عن المؤتمر، لأنني كنت لازلت طالباً في الجامعة ولم أضطلع على تفاصيل الحدث الحزبي آنذاك، ولم أكن أعلم بقصة المؤتمر إلا بعد أن تم انتخابي له مؤخراً، علماً بأنني لم أكن ذو مركز سياسي مهم في الحزب الديموقراطي الكردي، وكنت لتوها قد تركت الحزب الديموقراطي التقدمي (اليميني) آنذاك، وبدأت أتعاطف مع الحزب الديموقراطي الكردي (البارتي) نظراً لحبنا الشديد حينها للملا مصطفى البارزاني ولثورته الظافرة.
أي كنت قد بدأت من جديد في التعامل مع هذا الحزب، وأكنت أعرف اسماعيل عمر معرفة سطحية ولم ألتق به إلا مرة واحدة في بيته الذي كان قرب مركز المدينة أي مدينة القامشلي على ما أعتقد وكان ربما مستاجراً أو ملكه لا أدري.
وقد زرت بيته برفقة أحد أقربائي.
ثم توطدت الصداقة بيننا منذ ذلك اليوم وقد أحببته حينها وعاملني هو الآخر بصداقة واحترام واعتبرني صديقاً يطمأن إليه، فزارني في بيتي هو والسيد هادي بهلوي وكان ذلك عام 1981 على ما أعتقد.
نعم، وأثناء تواجده في قرية حوفة استدعانا السيد اسماعيل عمر إلى الإجتماع به في قرية خربة أورتيه(كرشيه) القريبة من حوفة جنوباً، وهناك عقد اجتماعاً للحزبيين من القرى المجاورة وتكلم في البداية قليلاً عن المستجدات السياسية في المنطقة عموماً ثم تطرق إلى الشأن الكردي خصوصاَ، وترك بعدها المجال للمناقشة وأتذكر حيتها كنت تقريباً – وحسب إمكاناتي المتواضعة – مجادله الأكثر حيوية آنذاك لأنني كنت أقرأ وأحب السياسة كثيراً، وقد طالت بيننا المناقشة عن السياسة الحزبية وما يجب أن نقوم به وما لانقوم به، رغم أنني كنت حديث عهد بالسياسة، وأتعجب الآن من صبره وتواضعه وقوة احتماله وكيف أنه تحملني كل هذه المدة التي استغرقت فيها المناقشة ودون أن يتأفف أو يكره شيئاً مما أقوله بل لاحظت أنه كان يستحسن ما أقوله بدرجة كبيرة بل كان يتجاوب معي حتى النهاية، وقد كانت المناقشة من الطول لدرجة أن عمي حسين مسور كان حاضراً فابتسم وقال، أسيبقي خالص هكذا يناقش ونحن نستمع له؟.
ومن بين الحضور أتذكر – كما مر معنا- السيد جمعة خلف عبد القادر والذي كان هو الآخر متعلقاً بإسلوب السيد اسماعيل عمر ويحب الإستماع إلى أحاديثه وكان من كوادر الحزب المهمين في المنطقة.
وأخيراً بعد انتهاء الإجتماع أشار أبو شيار بيده وابتسامته المعهودة وصوته الناعم الخفيض إلي وقال يجب أن يحضر خالص المؤتمر لأنه سيستطيع بمداخلاته إغناء المؤتمر…هكذا.
وعلمت حينها أن هناك مؤتمراً يجري التحضير له، وبكلامه هذا ازددت ثقة بنفسي ورغبت بالفعل حضور المؤتمر أينما كان واياً كانت نتيجته، لأنه كان هناك سرية في العمل وتوقع مداهمات لمكان المؤتمر من قبل الأمن السوري الذي كان يكتم أنفاس الكرد أينما اجتمعوا وتدراسوا في السياسة.
وبعد فض الإجتماع خرجنا من قرية كرشيه بعدما علمت أنني كسبت جراء مناقشتي حضوراً لمؤتمر كردي يفتخر كل كردي سياسي حضوره، وفي يوم غد فؤجئت بمن يناديني وذهبت إلى أحد البيوت وربما بيت خالي السيد صالح مسور حيث كانت هناك سيارتان بيك آب واقفتين أمام باب بيته، وكان اسماعيل عمر هناك وطلبوا مني مرافقتهم إلى مدينة عامودا، وكانوا على ما أعتقد ستة أنفار بينهم السيد جمعة خلف عبد القادر نفسه، والسيد جمعة هذا له تاريخ حافل مع بيشمركة البارزاني حيث كان قد تحول بيته إلى مايشبه مقراً لهم يأويهم على الدوام ويسهل لهم مهمتهم، وهو موقف يحسب له إذا كان هناك من يقدر بالفعل تاريخ هذا الرجل الحافل مع الثورة البارزانية.
وفي الطريق إلى عامودا علمت أنهم سيجرون إنتخاباً بيني وبين شخص آخر من عامودا ويدعى محمد علي هسو فالفائز منا هو الذي سيحضر المؤتمر، وكنا نحن ستة في السيارتين ثم جلبوا ثلاثة حزبيين آخرين من عامودا وأصبحنا هناك على ما أتذكر مع محمد علي عشرة أشخاص في بيته، وأتذكر أيضاً أنني فزت عليه ستة مقابل أربعة أو سبعة مقابل ثلاثة وهكذا تم اختياري لحضور المؤتمر الثاني للحزب الديموقراطي الكردي(البارتي) في سورية عام 1977م.
في المؤتمر:
وعندما آن لليل أن ينسدل بدأنا نجتمع في إحدى ساحات مدينة القامشلي الشرقية، وبدأت الباصات تنقلنا إلى مكان المؤتمر في قرية (الباباسية) التابعة لناحية تربه سبيي إلى الشرق من قرية معشوق مباشرة، استمر المؤتمر يومين بلياليهما وكنا نقيم في منزل أفرغ من سكانه وخصص كمكان لانعقاد المؤتمر الثاني للحزب الديموقراطي الكردي في سورية(البارتي).
ولم نكن ننام حتى الصباح وكنا ما يقرب من مئة عضو.
وفي اليوم الأول وفي الجلسة الأولى جلس المؤتمرون للإستماع إلى التقرير السياسي وبعد إجراءات أخرى بدأ التداول في الشؤون الحزبية، وقد حضر المؤتمر من القياديين آنذاك سكرتير الحزب إلياس رمكو، والمرحوم هوريك (أبو احمد) من عفرين، والسيد سعود الملا، والمرحوم كمال درويش، ونصر الدين ابراهيم، والسيد زكريا، والسيد موسى سينو، والإستاذ اسماعيل عمر.
ومن غير القياديين كان معنا السيد جمعة خلف عبد القادر، وممن عرفتهم كان الشاعر فرحان حسيه من القامشلي، وكان من بين الحضور وفد من الأحزاب الكردية في تركية وأعتقد أنهم كانوا من حزب (كوك) بينما كان لايزال في السجن قيادة الحزب وهم، سكرتير الحزب السيد دهام ميرو، والسيد نذير مصطفى، والسيد عبد الله ملا علي، والسيد محمد ملا فخري وغيرهم.
كما كان هناك ملاحقون بارزون متوارون عن الأنظار بسبب ملاحقة الأمن لهم وهم، كل من السيد حميد سينو، والسيد محمد باقي وآخرون لاتحضرني أسماءهم.
نعود إلى المؤتمر ونقول: كان الحضور من شباب عفرين البالغ عددهم بالعشرات يناقشون القيادة بحماسة ودون هوادة، ولايعطون الفرصة للآخرين ليتكلموا براحتهم وكانوا مندفعين ويناقشون بحماسة زائدة ويتهجمون على القيادة الموجودة في المؤتمر لدرجة أن إلياس رمكو ومعه القياديون الآخرون أظهروا امتعاضهم مما يحدث، وامتنعوا عن ترشيح أنفسهم للقيادة ونآى إلياس بنفسه خارجاً، كما لم يرشح هوريك والآخرون أنفسهم في البداية، وكان البعض يعتقد إنها نوع من المراوغة الحزبية حتى لاينافسهم أحد في ترشيح أنفسهم وينجحوا بالتزكية وقد حدث هذا فعلاً.
وكان وفد حزب (كوك) حاضراً وحينما رآى الوفد تهرب القيادة من الترشيح أصيبوا بالإحباط وكان الناطق باسمهم يقول للقيادة: أنتم تتهربون من مساعدتنا ومن مسؤلياتكم تجاهنا وتريدون إنهاء الحزب أو إضعافه هكذا ببساطة ودون تدبر.
وأتذكر وقتها أن القيادة في المؤتمر بدأت بالتهجم على القيادة السابقة التي لا زال سكرتيرها ومسؤولين آخرين معه يرزحون في المعتقلات والسجون ويتهمونهم بالتخاذل في السجن، وحينها كنت المدافع الوحيد عن المسجونين بقوة لأنني أعرف أن الكرد كانوا آنذاك يتهمون بعضهم بالعمالة المجانية ويطلقون تهم العمالة على بعضهم هكذا جذافاً ولمآرب شخصية غالباً، والتهم بالعمالة والتخاذل كانت أرخص شيء لديهم.
وقلت في مداخلتي أنتم تتهمون بدون دليل وهذا بعيد عن الأخلاق الحزبية وعليكم أن تنتظروا حتى يخرج الرجال من السجن ليستطيعوا الدفاع عن أنفسهم.
وتابعت القول، لو كانوا متخاذلين أيها السادة لتم إطلاق سراحهم منذ زمن.
وكما قلت سابقاً، أثناء تلاوة التقرير السياسي كان الشاعر الكردي السيد فرحان حسى جالساً على ركبتيه وكلما مرت كلمة (البارزاني) مع قاريء التقرير كان السيد فرحان يرفع يديه ملوحاً بهما هاتفاً:/صلوات بر عينى برزاني/ وكان عبارته أشبه باللازمة الشعاراتية للمؤتمر، وقد أحببت طريقة آدائه لهذه اللازمة الحماسية وكنت أترقب بشغف مرور كلمة البارزاني ليردد هتافه الحماسي الشهير والمثير.
وآنذاك كان السيد اسماعيل عمر (أبو شيار) واقفاً بشاربيه السود وابتسامته الساحرة المعهودة ويداخل على المواقف الصعبة محركاً يده اليمنى بروية وهدوء بالغ.
وكان رأيه مسموعاً ولم يكن يلح على مايقوله أو يحاول فرض رأيه على المؤتمر وكان ديموقراطياً بكل معنى الديموقراطية.
وفي الحقيقة وكما قلت فكان بيني وبين الرجل احترام متبادل وكان يريدني بصحبته في المؤتمر والوقوف بجواره على الدوام ونترقب الموقف بشغف بالغ.
وحالما وجدت أن القياديين هناك يرفضون ترشيح أنفسهم لأي منصب حزبي وأنهم ينوون الجلوس في بيوتهم كما كانوا يقولون ربما – وكما شرحنا – كمناورة تكتيكية منهم لئلا ينافسهم أحد في الترشيح وينجحوا بالتزكية، حينها جاءتني الفكرة على الفور لماذا لايكون السيد اسماعيل عمرهو المرشح الأول والأنسب لمنصب السكرتير لكن من أين أتتني هذه الفكرة يا ترى…؟ لا أدري…؟!.
ولكني كنت ألا حظ عليه سيماء القيادة جلياً، كما لم يكن من بين الحضور من هو أجدر منه حسب فراستي ونظرتي للحضور بالإضافة إلى أنني وجدت في الحاضرين مناورة أوزهداً ظاهرياً في السكرتارية، وقلت في نفسي لقد حانت الفرصة ليكون السيد اسماعيل عمر السكرتير الأمثل للحزب، فقلت له بيني وبينه يجب أن ترشح لمنصب السكرتير وسنختارك أنت وسنضمن لك الفوز المريح نظراً لشعبيته بين الحضور، ولكنه قال على الفور : لا…لا..
ومد يده تجاهنا وهو يبتسم ومترجياً إبعاده عن العملية برمتها، لكني مشيت من عنده وفكرته يمزح أو يتواضع ويخجل.
ولما علمت بأن العملية تلزمها نصف أصوات الحضور زائداً واحد بدأت على الفور وكنت نشطاً آنذاك وأحب العمل السياسي وتقلباته واستطعت نظراً لمعارفي بين الحضوروبمساعدة السيد جمعة وكان هو الآخر له شعبية بين الحضور استطعنا أن نحشد له العدد اللازم للفوز بمنصب سكرتير الحزب، وقد اتفقت مع السيد جمعة على إقناع السيد اسماعيل عمر بالترشح للمنصب والعمل على إنجاحه، فساعدني في ذلك ولكن لم يكن السيد جمعة متحمساً كثيراً لمن يتولى السكرتارية رغم صداقته وحبه هو الآخر لاسماعيل عمر، واستطعنا حسب علمي أن نضمن له وبمنتهى السرية العد اللازم للفوز ويزيد.
وعند فتح باب الترشيح لمنصب السكرتير لم يرشح أحد نفسه حتى القياديين القدامى الموجودين في المؤتمر أضربوا عن الترشيح ولم يرشح أحد منهم نفسه، ربما لغاية في نفس يعقوب أو كأنهم كانوا يردون الفوز بالتزكية – كما قلنا سابقاً – ولئلا ينافسهم أحد على المنصب او المناصب الحزبية المختلفة، فقلت في نفسي لقد فاز اسماعيل عمر ورب الكعبة.
لكننا فوجئنا بالسيد اسماعيل عمر زاهداً في المنصب ولم يرفع يده ولم يرشح نفسه فاستغربت منه هذا التصرف؟ وتساءلت كيف أن السكرتارية تأتي له على طبق من ذهب ويرفضها وهو كفؤ لها…؟ فاقتربت منه غاضباً وقلت له رشح نفسك يارجل فلماذا لم ترفع يدك فنجاحك مضمون… جرب وسترى.
ولكنه حينما ألححت عليه قال لي بصراحة هامساً: أنا موظف في التربية وإن أصبحت سكرتيراً فسأكون تحت الأنظار وسيعتقلوني يوماً ما دون أن أستطيع التواري عن الأنظار أو أهرب من الأمن، ثم قال لي بصوت خفيض أنت..أنتم… رشحوا أنفسكم فو الله أنا لا أريدها أيها السادة… قالها مع ابتسامته المعهودة، فقلت له بين المزح والجد، لكني وربما الآخرين هنا من غير القياديين لسنا كفوئين في قيادة الأحزاب أيها الزاهد.
وقلتها وقد انتابتني سورة غضب منه لأنه خيب آمالي في تحمل مسؤولياته السياسية، فتوجهت إلى السيد جمعة خلف عبد القادر وطلبت مه أن يرشح هو أو غيره ممن يعرفهم بالإستقامة والسيرة الحسنة انفسهم طالما أن القيادة مضربة عن الترشيح، وطالما أن لا أحد من الحضور يجازف في ترشيح نفسه، حيث كان السيد جمعة لبقاً أيضاً في تعامله مع الناس وفيه شبهة مسلكية مع اسماعيل عمر، ولكنه لم يكن متعلماً وليس له الخبرة الكافية بالسياسة فاعتذر وقال بصريح العبارة: أنا لا أستطيع أن أكون سكرتير حزب فإمكانياتي السياسية محدودة ودون المطلوب، كما لم أعرف من بين الحضور من يستحق القيادة الآن.
وقد صدقته واختليت بنفسي أجتر خيبة ظنوني وأملي بأصدقائي ومعارفي في المؤتمر.
وفي الختام فلما لم يرشح أحد نفسه بدأ المؤتمرون والمندوب الكردي التركي يتوسلون لأعضاء القيادة القديمة ليرشحوا أنفسهم حتى اقتنعوا أخيراً أو واتتهم الفرصة للترشح بدون منافسين، وهكذا بقيت القيادة القديمة وحدها في الميدان وفازت بالتزكية على رأس الحزب حتى مؤتمر آخر وانتخب السيد اسماعيل عمر آنذاك عضواً في اللجنة المركزية وبعدها عضواً في المكتب السياسي، كما انتخب السيد محي الدين شيخ آلي كأحد القياديين في الحزب.
…………………………………………………………………….
ويظهر حينها أن المؤتمر الثاني للحزب الديموقراطي الكردي في سورية(البارتي) كان على الأبواب في عام 1977م.
أو بالأحرى كان يجري التحضير للمؤتمر والسعي لانتخاب من يحالفهم الحظ لحضور فعالياته السياسية، وكان وجوده ورفاقه هناك لهذ الأسباب دون أن يكون لي علم مسبق عن سبب قدومه أو أي شيء عن المؤتمر، لأنني كنت لازلت طالباً في الجامعة ولم أضطلع على تفاصيل الحدث الحزبي آنذاك، ولم أكن أعلم بقصة المؤتمر إلا بعد أن تم انتخابي له مؤخراً، علماً بأنني لم أكن ذو مركز سياسي مهم في الحزب الديموقراطي الكردي، وكنت لتوها قد تركت الحزب الديموقراطي التقدمي (اليميني) آنذاك، وبدأت أتعاطف مع الحزب الديموقراطي الكردي (البارتي) نظراً لحبنا الشديد حينها للملا مصطفى البارزاني ولثورته الظافرة.
أي كنت قد بدأت من جديد في التعامل مع هذا الحزب، وأكنت أعرف اسماعيل عمر معرفة سطحية ولم ألتق به إلا مرة واحدة في بيته الذي كان قرب مركز المدينة أي مدينة القامشلي على ما أعتقد وكان ربما مستاجراً أو ملكه لا أدري.
وقد زرت بيته برفقة أحد أقربائي.
ثم توطدت الصداقة بيننا منذ ذلك اليوم وقد أحببته حينها وعاملني هو الآخر بصداقة واحترام واعتبرني صديقاً يطمأن إليه، فزارني في بيتي هو والسيد هادي بهلوي وكان ذلك عام 1981 على ما أعتقد.
نعم، وأثناء تواجده في قرية حوفة استدعانا السيد اسماعيل عمر إلى الإجتماع به في قرية خربة أورتيه(كرشيه) القريبة من حوفة جنوباً، وهناك عقد اجتماعاً للحزبيين من القرى المجاورة وتكلم في البداية قليلاً عن المستجدات السياسية في المنطقة عموماً ثم تطرق إلى الشأن الكردي خصوصاَ، وترك بعدها المجال للمناقشة وأتذكر حيتها كنت تقريباً – وحسب إمكاناتي المتواضعة – مجادله الأكثر حيوية آنذاك لأنني كنت أقرأ وأحب السياسة كثيراً، وقد طالت بيننا المناقشة عن السياسة الحزبية وما يجب أن نقوم به وما لانقوم به، رغم أنني كنت حديث عهد بالسياسة، وأتعجب الآن من صبره وتواضعه وقوة احتماله وكيف أنه تحملني كل هذه المدة التي استغرقت فيها المناقشة ودون أن يتأفف أو يكره شيئاً مما أقوله بل لاحظت أنه كان يستحسن ما أقوله بدرجة كبيرة بل كان يتجاوب معي حتى النهاية، وقد كانت المناقشة من الطول لدرجة أن عمي حسين مسور كان حاضراً فابتسم وقال، أسيبقي خالص هكذا يناقش ونحن نستمع له؟.
ومن بين الحضور أتذكر – كما مر معنا- السيد جمعة خلف عبد القادر والذي كان هو الآخر متعلقاً بإسلوب السيد اسماعيل عمر ويحب الإستماع إلى أحاديثه وكان من كوادر الحزب المهمين في المنطقة.
وأخيراً بعد انتهاء الإجتماع أشار أبو شيار بيده وابتسامته المعهودة وصوته الناعم الخفيض إلي وقال يجب أن يحضر خالص المؤتمر لأنه سيستطيع بمداخلاته إغناء المؤتمر…هكذا.
وعلمت حينها أن هناك مؤتمراً يجري التحضير له، وبكلامه هذا ازددت ثقة بنفسي ورغبت بالفعل حضور المؤتمر أينما كان واياً كانت نتيجته، لأنه كان هناك سرية في العمل وتوقع مداهمات لمكان المؤتمر من قبل الأمن السوري الذي كان يكتم أنفاس الكرد أينما اجتمعوا وتدراسوا في السياسة.
وبعد فض الإجتماع خرجنا من قرية كرشيه بعدما علمت أنني كسبت جراء مناقشتي حضوراً لمؤتمر كردي يفتخر كل كردي سياسي حضوره، وفي يوم غد فؤجئت بمن يناديني وذهبت إلى أحد البيوت وربما بيت خالي السيد صالح مسور حيث كانت هناك سيارتان بيك آب واقفتين أمام باب بيته، وكان اسماعيل عمر هناك وطلبوا مني مرافقتهم إلى مدينة عامودا، وكانوا على ما أعتقد ستة أنفار بينهم السيد جمعة خلف عبد القادر نفسه، والسيد جمعة هذا له تاريخ حافل مع بيشمركة البارزاني حيث كان قد تحول بيته إلى مايشبه مقراً لهم يأويهم على الدوام ويسهل لهم مهمتهم، وهو موقف يحسب له إذا كان هناك من يقدر بالفعل تاريخ هذا الرجل الحافل مع الثورة البارزانية.
وفي الطريق إلى عامودا علمت أنهم سيجرون إنتخاباً بيني وبين شخص آخر من عامودا ويدعى محمد علي هسو فالفائز منا هو الذي سيحضر المؤتمر، وكنا نحن ستة في السيارتين ثم جلبوا ثلاثة حزبيين آخرين من عامودا وأصبحنا هناك على ما أتذكر مع محمد علي عشرة أشخاص في بيته، وأتذكر أيضاً أنني فزت عليه ستة مقابل أربعة أو سبعة مقابل ثلاثة وهكذا تم اختياري لحضور المؤتمر الثاني للحزب الديموقراطي الكردي(البارتي) في سورية عام 1977م.
في المؤتمر:
وعندما آن لليل أن ينسدل بدأنا نجتمع في إحدى ساحات مدينة القامشلي الشرقية، وبدأت الباصات تنقلنا إلى مكان المؤتمر في قرية (الباباسية) التابعة لناحية تربه سبيي إلى الشرق من قرية معشوق مباشرة، استمر المؤتمر يومين بلياليهما وكنا نقيم في منزل أفرغ من سكانه وخصص كمكان لانعقاد المؤتمر الثاني للحزب الديموقراطي الكردي في سورية(البارتي).
ولم نكن ننام حتى الصباح وكنا ما يقرب من مئة عضو.
وفي اليوم الأول وفي الجلسة الأولى جلس المؤتمرون للإستماع إلى التقرير السياسي وبعد إجراءات أخرى بدأ التداول في الشؤون الحزبية، وقد حضر المؤتمر من القياديين آنذاك سكرتير الحزب إلياس رمكو، والمرحوم هوريك (أبو احمد) من عفرين، والسيد سعود الملا، والمرحوم كمال درويش، ونصر الدين ابراهيم، والسيد زكريا، والسيد موسى سينو، والإستاذ اسماعيل عمر.
ومن غير القياديين كان معنا السيد جمعة خلف عبد القادر، وممن عرفتهم كان الشاعر فرحان حسيه من القامشلي، وكان من بين الحضور وفد من الأحزاب الكردية في تركية وأعتقد أنهم كانوا من حزب (كوك) بينما كان لايزال في السجن قيادة الحزب وهم، سكرتير الحزب السيد دهام ميرو، والسيد نذير مصطفى، والسيد عبد الله ملا علي، والسيد محمد ملا فخري وغيرهم.
كما كان هناك ملاحقون بارزون متوارون عن الأنظار بسبب ملاحقة الأمن لهم وهم، كل من السيد حميد سينو، والسيد محمد باقي وآخرون لاتحضرني أسماءهم.
نعود إلى المؤتمر ونقول: كان الحضور من شباب عفرين البالغ عددهم بالعشرات يناقشون القيادة بحماسة ودون هوادة، ولايعطون الفرصة للآخرين ليتكلموا براحتهم وكانوا مندفعين ويناقشون بحماسة زائدة ويتهجمون على القيادة الموجودة في المؤتمر لدرجة أن إلياس رمكو ومعه القياديون الآخرون أظهروا امتعاضهم مما يحدث، وامتنعوا عن ترشيح أنفسهم للقيادة ونآى إلياس بنفسه خارجاً، كما لم يرشح هوريك والآخرون أنفسهم في البداية، وكان البعض يعتقد إنها نوع من المراوغة الحزبية حتى لاينافسهم أحد في ترشيح أنفسهم وينجحوا بالتزكية وقد حدث هذا فعلاً.
وكان وفد حزب (كوك) حاضراً وحينما رآى الوفد تهرب القيادة من الترشيح أصيبوا بالإحباط وكان الناطق باسمهم يقول للقيادة: أنتم تتهربون من مساعدتنا ومن مسؤلياتكم تجاهنا وتريدون إنهاء الحزب أو إضعافه هكذا ببساطة ودون تدبر.
وأتذكر وقتها أن القيادة في المؤتمر بدأت بالتهجم على القيادة السابقة التي لا زال سكرتيرها ومسؤولين آخرين معه يرزحون في المعتقلات والسجون ويتهمونهم بالتخاذل في السجن، وحينها كنت المدافع الوحيد عن المسجونين بقوة لأنني أعرف أن الكرد كانوا آنذاك يتهمون بعضهم بالعمالة المجانية ويطلقون تهم العمالة على بعضهم هكذا جذافاً ولمآرب شخصية غالباً، والتهم بالعمالة والتخاذل كانت أرخص شيء لديهم.
وقلت في مداخلتي أنتم تتهمون بدون دليل وهذا بعيد عن الأخلاق الحزبية وعليكم أن تنتظروا حتى يخرج الرجال من السجن ليستطيعوا الدفاع عن أنفسهم.
وتابعت القول، لو كانوا متخاذلين أيها السادة لتم إطلاق سراحهم منذ زمن.
وكما قلت سابقاً، أثناء تلاوة التقرير السياسي كان الشاعر الكردي السيد فرحان حسى جالساً على ركبتيه وكلما مرت كلمة (البارزاني) مع قاريء التقرير كان السيد فرحان يرفع يديه ملوحاً بهما هاتفاً:/صلوات بر عينى برزاني/ وكان عبارته أشبه باللازمة الشعاراتية للمؤتمر، وقد أحببت طريقة آدائه لهذه اللازمة الحماسية وكنت أترقب بشغف مرور كلمة البارزاني ليردد هتافه الحماسي الشهير والمثير.
وآنذاك كان السيد اسماعيل عمر (أبو شيار) واقفاً بشاربيه السود وابتسامته الساحرة المعهودة ويداخل على المواقف الصعبة محركاً يده اليمنى بروية وهدوء بالغ.
وكان رأيه مسموعاً ولم يكن يلح على مايقوله أو يحاول فرض رأيه على المؤتمر وكان ديموقراطياً بكل معنى الديموقراطية.
وفي الحقيقة وكما قلت فكان بيني وبين الرجل احترام متبادل وكان يريدني بصحبته في المؤتمر والوقوف بجواره على الدوام ونترقب الموقف بشغف بالغ.
وحالما وجدت أن القياديين هناك يرفضون ترشيح أنفسهم لأي منصب حزبي وأنهم ينوون الجلوس في بيوتهم كما كانوا يقولون ربما – وكما شرحنا – كمناورة تكتيكية منهم لئلا ينافسهم أحد في الترشيح وينجحوا بالتزكية، حينها جاءتني الفكرة على الفور لماذا لايكون السيد اسماعيل عمرهو المرشح الأول والأنسب لمنصب السكرتير لكن من أين أتتني هذه الفكرة يا ترى…؟ لا أدري…؟!.
ولكني كنت ألا حظ عليه سيماء القيادة جلياً، كما لم يكن من بين الحضور من هو أجدر منه حسب فراستي ونظرتي للحضور بالإضافة إلى أنني وجدت في الحاضرين مناورة أوزهداً ظاهرياً في السكرتارية، وقلت في نفسي لقد حانت الفرصة ليكون السيد اسماعيل عمر السكرتير الأمثل للحزب، فقلت له بيني وبينه يجب أن ترشح لمنصب السكرتير وسنختارك أنت وسنضمن لك الفوز المريح نظراً لشعبيته بين الحضور، ولكنه قال على الفور : لا…لا..
ومد يده تجاهنا وهو يبتسم ومترجياً إبعاده عن العملية برمتها، لكني مشيت من عنده وفكرته يمزح أو يتواضع ويخجل.
ولما علمت بأن العملية تلزمها نصف أصوات الحضور زائداً واحد بدأت على الفور وكنت نشطاً آنذاك وأحب العمل السياسي وتقلباته واستطعت نظراً لمعارفي بين الحضوروبمساعدة السيد جمعة وكان هو الآخر له شعبية بين الحضور استطعنا أن نحشد له العدد اللازم للفوز بمنصب سكرتير الحزب، وقد اتفقت مع السيد جمعة على إقناع السيد اسماعيل عمر بالترشح للمنصب والعمل على إنجاحه، فساعدني في ذلك ولكن لم يكن السيد جمعة متحمساً كثيراً لمن يتولى السكرتارية رغم صداقته وحبه هو الآخر لاسماعيل عمر، واستطعنا حسب علمي أن نضمن له وبمنتهى السرية العد اللازم للفوز ويزيد.
وعند فتح باب الترشيح لمنصب السكرتير لم يرشح أحد نفسه حتى القياديين القدامى الموجودين في المؤتمر أضربوا عن الترشيح ولم يرشح أحد منهم نفسه، ربما لغاية في نفس يعقوب أو كأنهم كانوا يردون الفوز بالتزكية – كما قلنا سابقاً – ولئلا ينافسهم أحد على المنصب او المناصب الحزبية المختلفة، فقلت في نفسي لقد فاز اسماعيل عمر ورب الكعبة.
لكننا فوجئنا بالسيد اسماعيل عمر زاهداً في المنصب ولم يرفع يده ولم يرشح نفسه فاستغربت منه هذا التصرف؟ وتساءلت كيف أن السكرتارية تأتي له على طبق من ذهب ويرفضها وهو كفؤ لها…؟ فاقتربت منه غاضباً وقلت له رشح نفسك يارجل فلماذا لم ترفع يدك فنجاحك مضمون… جرب وسترى.
ولكنه حينما ألححت عليه قال لي بصراحة هامساً: أنا موظف في التربية وإن أصبحت سكرتيراً فسأكون تحت الأنظار وسيعتقلوني يوماً ما دون أن أستطيع التواري عن الأنظار أو أهرب من الأمن، ثم قال لي بصوت خفيض أنت..أنتم… رشحوا أنفسكم فو الله أنا لا أريدها أيها السادة… قالها مع ابتسامته المعهودة، فقلت له بين المزح والجد، لكني وربما الآخرين هنا من غير القياديين لسنا كفوئين في قيادة الأحزاب أيها الزاهد.
وقلتها وقد انتابتني سورة غضب منه لأنه خيب آمالي في تحمل مسؤولياته السياسية، فتوجهت إلى السيد جمعة خلف عبد القادر وطلبت مه أن يرشح هو أو غيره ممن يعرفهم بالإستقامة والسيرة الحسنة انفسهم طالما أن القيادة مضربة عن الترشيح، وطالما أن لا أحد من الحضور يجازف في ترشيح نفسه، حيث كان السيد جمعة لبقاً أيضاً في تعامله مع الناس وفيه شبهة مسلكية مع اسماعيل عمر، ولكنه لم يكن متعلماً وليس له الخبرة الكافية بالسياسة فاعتذر وقال بصريح العبارة: أنا لا أستطيع أن أكون سكرتير حزب فإمكانياتي السياسية محدودة ودون المطلوب، كما لم أعرف من بين الحضور من يستحق القيادة الآن.
وقد صدقته واختليت بنفسي أجتر خيبة ظنوني وأملي بأصدقائي ومعارفي في المؤتمر.
وفي الختام فلما لم يرشح أحد نفسه بدأ المؤتمرون والمندوب الكردي التركي يتوسلون لأعضاء القيادة القديمة ليرشحوا أنفسهم حتى اقتنعوا أخيراً أو واتتهم الفرصة للترشح بدون منافسين، وهكذا بقيت القيادة القديمة وحدها في الميدان وفازت بالتزكية على رأس الحزب حتى مؤتمر آخر وانتخب السيد اسماعيل عمر آنذاك عضواً في اللجنة المركزية وبعدها عضواً في المكتب السياسي، كما انتخب السيد محي الدين شيخ آلي كأحد القياديين في الحزب.
…………………………………………………………………….